أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - هاتف الثلج.. الناطق بلسان وطن لا بلسان سلطان.














المزيد.....

هاتف الثلج.. الناطق بلسان وطن لا بلسان سلطان.


حامد الضبياني

الحوار المتمدن-العدد: 8367 - 2025 / 6 / 8 - 09:13
المحور: قضايا ثقافية
    


في الأعظمية، حيث المنازل تفوح منها رائحة الورق المبتل بالحبر، وتُعشّش الذاكرة بين جدران البيوت التي عاصرت ثورات العراق وأمجاده، عاش رجل اسمه كأنما سُلِب من قصيدة لم تكتب بعد: هاتف عبد اللطيف الثلج الجوعاني، أو كما أحب العراقيون أن ينادوه ببساطة واعتزاز: هاتف الثلج. رجلٌ لم يكن يومًا مجرد صحفي، بل كان شاهدًا يتنقّل بين دهاليز السلطة وأروقة المثقفين كمن يمسك ببوصلة الوطن وهو يغرق، لا ليهتدي هو، بل ليشير للآخرين إلى اليابسة، إلى الخلاص، إلى العراق.وُلِد في 9 آب 1952 في تكريت، لكن تكريت لم تحتكره، كما لم يفعل الحزب، ولا السلطة، ولا حتى الرئاسة التي اقترب منها دون أن يحترق. نشأ في بيت يحمل بذور الثورة، لكنه لم يتحوّل إلى تابع. كان ماركسيًا حيناً، عراقياً دائماً. كان شيوعيًا بفطرته الرافضة للظلم، لكنه لم يبع العراق من أجل أيديولوجيا. ظل عراقيًا أولاً، عراقيًا أخيرًا، وما بين البداية والنهاية، كان هاتف الثلج.ظهر اسمه في الصحف أول مرة في السبعينيات، وتوهّج كاتبًا لا يُخطئه القارئ حتى لو أخفي الاسم. كتاباته كانت تفضحه، أو بالأحرى تُعلنه. ظنّه البعض اسمًا مستعارًا، لكن من يعرف الأعظمية وتكريت، ومن يفهم أصول هذا الاسم المنسوج من جليد الجدود وحرارة الجنوب، يدرك أن "الثلج" هنا لا يذوب، بل يبقى شاهدًا على زمن تشتعل فيه الأسماء وتتبخر الحقائق. "اسمي ليس مستعارًا"، قالها مرة ضاحكًا، "إنه مأخوذ من اسم جدنا الأكبر السيد الشيخ الثلج... لا يمكن نسيانه بسرعة".هو الذي لم يُنسَ، لأنه لم يكن كاتباً يراوغ اللغة، بل كان كمن ينتزع الحقيقة من بين أسنان الكذب ويقذف بها في وجوه المتواطئين، دون خوف، حتى حين جلس أمام الكاميرا في زمن الاحتلال، حين كانت الكلمات تُباع في السوق السوداء. لم يساوم، لم يجامل، حتى عندما تحدث عن صدام حسين، الرجل الذي رافقه صحفياً داخل القصر الجمهوري عام 1991، لم يمدحه مدح التابعين، ولم يلعنه لعنة الحاقدين، بل قدمه كما هو، وكما عاشه، وكما شاهده عن قرب، قائلاً ذات يوم: "كل ما كُتب عن صدام لم يقدّم صدام الحقيقي... ما كُتب في حياته كان تمجيداً مدفوع الثمن، وما كتب بعد موته كان تشويهاً مدفوع الثمن كذلك". وهنا يكمن سرّ هاتف الثلج: رجل لا يكتب لأن عليه أن يكتب، بل لأنه لا يستطيع أن يصمت.كان الموظف الوحيد غير البعثي في القصر. قُدّر له أن يرى خفايا السلطان دون أن يتحول إلى مرآةٍ له. لم يهادن، ولم يُجارِ. كان صوتًا ثالثًا في زمان لا يقبل إلا صوتين: المديح الأعمى أو الشتيمة العمياء. أما هو، فكان "هاتف" العراق. لا هاتف الرئيس، ولا هاتف المعارضة، بل صوت الوطن الجريح، الممزق بين حبّ أبنائه له، وخيانة ساسته.وحين سقط النظام، لم يسقط هاتف الثلج. بل خرج كما هو، يكتب في جريدة "الوطن" التابعة للحركة الوطنية، ويحاور المفكرين، ويجمع سِيَرَهم كما يجمع الرحّالة الأحجار الكريمة. كتب عن المبدعين، عن المنسيين، عن الراحلين بصمت، وكأنه أراد أن يصنع ذاكرةً بديلة لوطن يتآكل.نشر أكثر من أربعة عشر كتابًا، لكن "وجوه" كان تاجه، ليس لأنه فقط كتاب من 568 صفحة، بل لأنه سجلٌ حيّ لمبدعي العراق الذين غادروا في صمت أو غُيّبوا في الزنازين. في هذا الكتاب، كتب سيرة الناس، كأنه يكتب سيرته. كل وجه كان مرآةً له، وكل سيرة كانت طريقاً يسلكه ليقول شيئاً عن ذاته دون أن يصرّح.كتب عن مولود مخلص، قريبه الثوري، فكان كمن يكتب تاريخ الثورة بنكهة الحنين، لا بتعاليم الحزب. وكتب عن عبد الملك نوري، عن حردان التكريتي الذي اغتيل غدراً، عن صدام، عن المنفى، عن القصر، عن الزنازين، عن الأعظمية، عن تكريت، عن العراق.وبرامجه التلفزيونية لم تكن عرضاً للضيوف، بل كانت محاكمة للزمن. في "كلمة حق"، نطق بما عجز عنه الكثير من المثقفين، وفي "مواقف وشخصيات"، سلّط الضوء على رجال غابت صورهم من الألبوم الوطني. لم يكن مذيعاً يقرأ من ورق، بل قارئاً لتجاعيد التاريخ.واليوم، وبين جدران منزله الذي تنبعث منه رائحة الورق والحنين، يعكف على كتابة مذكراته. الرجل الذي عاصر الحرب والسلم، الذي كان شاهدًا على عصر لا يشبه أي عصر، يكتب مذكراته بصمت. هو الذي لم يحكِ كل ما رآه بعد، لأنه يعرف أن بعض الحقائق تحتاج إلى زمن آخر لتُفهم، وبعض الشهادات لا تقال في حياة الشهود.أب لثلاثة صحفيين، وكأن قلمه لم ينجب كتبًا فقط، بل أنجب أقلامًا تسير في الطريق نفسه. لم يتعلّم في الجامعات، لكنه علّم أجيالاً كيف تكتب، وكيف تقول الحقيقة دون أن ترتجف.هاتف الثلج، اسم لا يُنسى. ليس لأنه فريد في نطقه، بل لأنه نُحت في ذاكرة العراق كحرف صدق في زمن التزييف. رجلٌ إن قرأت له، شعرت أن العراق ما زال هناك، ما زال ممكناً، ما زال يكتب نفسه.في زمان أصبح فيه الصمت حكمة، والقول تهمة، ظل هاتف الثلج ناطقاً لا باسم سلطان، بل باسم وطن، لا يمثل حزباً ولا طائفة، بل يمثل الأرض التي كلما نزفَت، كتب عنها، وكلما بكت، مسح دمعتها بمقال، وكلما غابت صورتها في الإعلام، رسمها في كتاب.هاتف الثلج، ليس شاهدًا على عصر فقط، بل شهادة وطن كاملة.وبين البداية والنهاية، ظل اسمه مرآة لوطنٍ قال فيه كل شيء، وبقي مخلصًا له حتى لو تغيّرت الوجوه والرايات.
والأقلام لا تشهد له إلا بما شهد هو به للعراق:
الصدق... والوفاء... والعراق أولاً، وأخيرًا، ودائمًا.



#حامد_الضبياني (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- -ضباب لم يأتِ-
- السرير الكَمّي: بين وهج الوعد الكوني وسكون الحقيقة العلمية-
- -الجيب العراقي... الحبل السري لاقتصاد طهران-
- العيد الذي غادرني
- بهرز… حين يصير النسيم تاريخًا ناطقًا بحضارة الألف عمر.
- كردستان... حيث يولد السلام من رحم الجمال
- حين تبتلع الأرض أبناءها... دجل الوطن وضياع القضايا-
- -اللص الشريف... عضو البرلمان الموقّر-
- كهنة الخراب: حين يتوضأ النفاق بدموع الفقراء
- ذي قار… نشيد الزقورة، ملحمة الرجولة، ووهج الأهوار
- العباءة السوداء التي تخنق النيل: التغلغل الصفوي في مصر وخطره ...
- صرخة لوط في ليل الضياع: عبرة لمن غابت رجولته وتنكرت فطرته.
- العراق بين قبضة الطغاة ووهج الثورة: صحوة الوعي وميلاد الغضب ...
- -فضائيات بلا أفق... مذيعون من كوكب التملق... وبرامج للبيع في ...
- -حين يقاتل الحالمون: كيف يغيّر الإبداع مصير العالم رغم الثعا ...
- وجعٌ يشبهك
- في زمن العري والسفاهة... حين صار العرض بضاعة في سوق النخاسة ...
- البصرة: قصيدة الجنوب التي لا تنتهي
- سيرة -رجل من خيال الزمان... في دروب الحرف ومرافئ الروح-
- -أمل دنقل... نايُ الجنوب الذي عزف للكرامة على وتر الوجع-


المزيد.....




- ردود فعل على مقتل قائد -المجاهدين- أسعد أبو شريعة من عائلات ...
- -الدوما-: رفض نظام كييف استلام جثث جنوده يدحض الصورة التي رس ...
- بريانسك: إسقاط 10 مسيرات أوكرانية استهدفت المقاطعة
- مسيّرات روسية تدمّر منظومة حرب إلكترونية غربية هامة لقوات كي ...
- قط -كاشخ- بأناقة البشت والثوب يسرق الأضواء في السوشيال ميديا ...
- -يديعوت أحرونوت-: حريق في كنيس الخاخام الأكبر السابق إسحاق ...
- قافلة مغاربية من تونس إلى رفح للمطالبة بوقف العدوان على غزة ...
- -يديعوت أحرونوت-: جيشنا في غزة كالبط في ساحة الرماية وحرب ال ...
- برلماني إيراني يتوعد إسرائيل بردود أقوى بعد عملية -الملفات ا ...
- واشنطن بوست: الخلاف بين ماسك ومساعدي ترامب كان يتصاعد منذ أش ...


المزيد.....

- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر
- العرب والعولمة( الفصل الرابع) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الثالث) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الأول) / منذر خدام
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين / محمد عبد الكريم يوسف


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - هاتف الثلج.. الناطق بلسان وطن لا بلسان سلطان.