أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - ذي قار… نشيد الزقورة، ملحمة الرجولة، ووهج الأهوار














المزيد.....

ذي قار… نشيد الزقورة، ملحمة الرجولة، ووهج الأهوار


حامد الضبياني

الحوار المتمدن-العدد: 8362 - 2025 / 6 / 3 - 11:37
المحور: قضايا ثقافية
    


هنا، حيث تتماهى الأرض مع السماء، وتتنفس الطين عطراً، وتمتزج زرقة الماء بوهج الشمس، تمتد ذي قار – أرض الأزل والرجولة – كوشاح مجد لا ينطفئ، وكأنها قصيدة نُقشت على وجه الدهر بحروف النار والماء. هذه الأرض التي خرجت منها الحروف الأولى، وارتسمت فوقها خرائط الحضارة، لم تكن يوماً سوى مرآة لما يمكن للإنسان أن يكون عليه من سمو وشموخ، ومن عناد ورفض للظلم، حتى لتخالها في كل حين تلد أنكيدو جديداً، وتبعث من رمادها جلجامش، وتبسط كفها لتكتب على وجه الريح: "أنا العراق، أنا الذي علَّم الناس الكتابة، وأنا الذي سكب دمعه في طين الأهوار، وصاغ من آلامه أغنيات الفرات."
في ذي قار، لا تسير فوق التراب، بل تسير فوق التاريخ. هنا، في زقورتها الشامخة، في أور، في المدينة التي أنجبت الحرف الأول، حيث كان الفخار يُصاغ ليحمل أسرار الزمان، وكان الطين يُحكى عنه كأنه لغة الكون. من هنا، أطلق إبراهيم – عليه السلام – دعوته إلى التوحيد، من قلب أرض صلبة، صادقة، متشبثة بجذورها كما تتشبث القصب بجذوعه في أعماق الأهوار، ومن بين هذه الأهوار، كانت الأنغام تخرج ممزوجة بأنين العشاق، وحنين الأمهات، وضحكات الأطفال، وزغاريد الثكالى اللواتي لم يركعن حتى للخذلان.
أيها العابر في ذي قار، هل تشم هذا النسيم؟ إنه ليس نسيم الأهوار فحسب، بل أنفاس الشعراء الذين ماتوا عطاشى، وهم يكتبون عن العطش والكرامة، وعن وطن ضاق بأحلامهم واتسع بجراحاتهم. هنا مشى بدر شاكر السياب، على حواف الكلمات، بين ظلال القصب والماء، ولربما خطى معه كزار حنتوش، وهو يرسم وجع الجنوب في قصائده. وهنا كان يرفرف طيف عبد الرزاق عبد الواحد، وهو يهتف بالبطولة، ويعيد إلى الذاكرة وجوه الرجال الذين صنعوا للثورة شرفها، وللأهوار مجدها، وللدمع معنى لا يعرفه سوى أبناء ذي قار حين يسكبونه في شطآنها وهم يشيّعون شهيداً أو ينتظرون غائباً خلف القضبان.
ذي قار ليست محافظة عادية، إنها سرداب الزمن، وحاضنة النار الأولى التي أوقد بها الإنسان مشعل الحضارة. أور، وإريدو، ولاجش، وزقورة أور التي ما تزال تحرس الليل، كأنها عين ساهرة ترقب أحلام الأرض، أو كأس خمر لا ينتهي عبقه، ومعبد إينانا، حيث الحب والخصب والجنون، كلهم مروا من هنا، كأنها قدر البشرية أن تمر من هذه الأرض، تستلهم منها الحكمة، وتتجرع منها الحزن، وتتعلم كيف يكون الإنسان إنساناً.
ومَن من الناس لا يعرف ذي قار وملحمتها الكبرى؟ معركة ذي قار، أولى صيحات العرب في وجه الظلم الفارسي، حين اجتمع بنو بكر وتميم وعبد القيس وسائر القبائل ليقولوا: "لا... لن نركع لكسراكم!". تلك الصيحة لم تكن مجرد معركة، بل كانت ميثاق شرف، كتبته القبائل بدمها على صفحة التاريخ، لتتوارثه الأجيال: أن الأرض لا تباع، وأن الكرامة لا تُشترى، وأن للرجال وقفة لا تشبهها أي وقفة، حين تهب العاصفة، ويكون الخيار: أن تموت واقفاً، أو تعيش راكعاً... وذي قار اختارت أن تموت واقفة، ولا تزال واقفة حتى اليوم.
يا ذي قار، يا أم الأهوار، ويا عروس الفرات، يا سيدة الزقورات التي تشهد لك الأرض والسماء... يا أم الثوار الذين يخرجون في الليل كما يخرج القصب من الطين، رافضين الذل، هاتفين للحرية، حاملين على أكتافهم دماء الشهداء كأنها وشاح من المجد، يمشون حفاة تحت شمس الجنوب اللاهبة، يواجهون رصاص الظلم بصدورهم العارية، ويرددون: "لن نكون إلا أبناء هذا التراب... لن نكون إلا أبناء ذي قار!"
هنا، في ذي قار، الأهوار ليست مجرد مياه وزهور بردي، بل هي عروق الأرض، وهي الدم الذي يسري في جسد الجنوب. والأدب ليس حروفاً عابرة، بل صرخة، ودمعة، وقصيدة تُغنى في مقاهي الناصرية، وفي بيوت الطين، وفي المجالس التي لا تعرف إلا الشاي المُرّ وطعم التبغ، وقصص الفقد والخذلان. وفي كل زاوية من زوايا ذي قار، هناك شهيد لم يُشيَّع كما يليق، وهناك أمّ تنتظر عودة ابنها، وهناك شاعر كتب قصيدة ولم يُسمح له بقراءتها، وهناك ثائر خرج في الليل ولم يعد.
ومع هذا، ذي قار لا تموت، بل تعود كل مرة أكثر عناداً، أكثر شموخاً، وأكثر ولعاً بالحياة. كل طلعة شمس في ذي قار هي نشيد جديد للرجولة، كل موجة في الأهوار هي أغنية حب، كل حجر في زقورتها هو صرخة في وجه الطغيان. ذي قار علمت الناس الكتابة، ثم علمتهم الثورة، ثم علمتهم كيف يكون الحزن ديواناً من ذهب، والدم نشيداً لا يخفت صداه.
هكذا هي ذي قار، منذ أور، وأريدو، وأشنونا، وحتى يومنا هذا... موطن الزقورة والرجولة، ملحمة لا تنتهي، كأنها جرح مفتوح في خاصرة الأرض، وكأنها قلب نابض لا يتوقف، مهما تغيرت العصور وتعاقبت الأيام. ومن هذه الأرض، سيبقى الرفض شيمة، والشموخ عنواناً، والقصيدة سيفاً مشهراً في وجه من أرادوا للعراق أن ينحني.
هنا ذي قار... هنا حيث لا تموت الحكايات، بل تصير ناراً ووهجاً، وهتافاً لا يخبو أبداً.



#حامد_الضبياني (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العباءة السوداء التي تخنق النيل: التغلغل الصفوي في مصر وخطره ...
- صرخة لوط في ليل الضياع: عبرة لمن غابت رجولته وتنكرت فطرته.
- العراق بين قبضة الطغاة ووهج الثورة: صحوة الوعي وميلاد الغضب ...
- -فضائيات بلا أفق... مذيعون من كوكب التملق... وبرامج للبيع في ...
- -حين يقاتل الحالمون: كيف يغيّر الإبداع مصير العالم رغم الثعا ...
- وجعٌ يشبهك
- في زمن العري والسفاهة... حين صار العرض بضاعة في سوق النخاسة ...
- البصرة: قصيدة الجنوب التي لا تنتهي
- سيرة -رجل من خيال الزمان... في دروب الحرف ومرافئ الروح-
- -أمل دنقل... نايُ الجنوب الذي عزف للكرامة على وتر الوجع-
- رحلة في جحيم -1984- حيث الحبر دم والحرية وهم.
- حين يتعطر الوجع بالورد
- -حين أكل الأمير لحم جسده.. أكل الملوك كرامتهم: صرخة في زمن ا ...


المزيد.....




- سوريا: مقتل 13 من العلويين بينهم 8 برصاص حاجز أمني في ريف حم ...
- ترامب يحظر دخول مواطني 12 دولة منها إيران وليبيا والسودان وا ...
- ترامب يحظر دخول مواطني 12 بلدا منها ليبيا والسودان واليمن
- زوما يخسر استئنافه ويواجه تهم فساد
- حجاج بيت الله يستعدون للوقوف بعرفة
- غروسي: سوريا بصدد الموافقة على دخول مفتشين لمواقع نووية
- ترامب يحظر منح تأشيرات للطلاب الأجانب الجدد في هارفارد
- أول تعليق لترامب على حظر السفر الجديد والدول التي يشملها
- مصدران لـCNN: ترامب يحظر السفر إلى الولايات المتحدة من دول ع ...
- استطلاع للرأي: 70% من سكان منطقة ألزاس الفرنسية يطالبون باست ...


المزيد.....

- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر
- العرب والعولمة( الفصل الرابع) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الثالث) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الأول) / منذر خدام
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين / محمد عبد الكريم يوسف


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - ذي قار… نشيد الزقورة، ملحمة الرجولة، ووهج الأهوار