حامد الضبياني
الحوار المتمدن-العدد: 8355 - 2025 / 5 / 27 - 14:55
المحور:
قضايا ثقافية
كانت ميافارقين تتنفس الصمود، وكان الكامل محمد الأيوبي يتنفس حب الله.. لم يكن له سلاح سوى قلبه الذي ينبض بالإيمان، ولا درع له سوى روحه التي باعها لله دون خوف أو حسابات، بينما الأرض من حوله ترتجف من زحف المغول، والعروش تتهاوى كأوراق الخريف، والملوك يشربون نبيذ الرعب في قصورهم المذهبة، ويرددون آيات الذل كما يردد المرء آيات القرآن الكريم.. كانوا يعرفون أن الأرض تأكل أبناءها إذا تخلوا عنها، لكنهم فضلوا النجاة الفردية، هربوا من الميدان، وتركوا رجلاً واحداً يثبت في وجه العاصفة، يرمي روحه في حلق التتار، لا لينتصر فقط، بل ليعلّم الأمة معنى الموت واقفاً، معنى أن يكون الجهاد هو الصلاة الأخيرة.
كان الكامل محمد الأيوبي وحده في الميدان.. كل الأصوات من حوله تهمس في الخفاء: "دعك من هذا الجنون.. سلم كما سلم غيرك. ونعم بنعيم الدنيا. لكنه لم يكن يرى الدنيا، كان يرى الله.. يرى الدماء التي سالت في بغداد، يرى الملايين التي ذُبحت بلا ذنب، يرى الأطفال الذين رُفعوا على الرماح، يرى أعراض النساء التي انتهكت.. وكان يرى خيانة الحكام الذين أغلقوا أبوابهم، وأداروا وجوههم، وأغمضوا أعينهم.. كانت الممالك تتهاوى واحدة تلو الأخرى، وكل ملك يقف على أطلال مملكته يبكي، لكنه لا يجرؤ أن يمد يده ليطفئ النار.. كانوا خائفين حتى من الحزن.
أما الكامل، فلم يكن يعرف الخوف.. حين جاءه رسول هولاكو يعرض عليه الاستسلام كما استسلمت جحافل الملوك، كان يعلم أن الورقة التي تحمل معاهدة الذل هي بمثابة كفن يكتب فيه موت الأمة.. لم يوقع.. لم يناقش.. لم يساوم.. لم يراوغ.. بل أمسك بالرسول وقتله.. قسيساً نصرانياً من يعاقبة الشام، قتله في قلب الحصار، وهو يعلم أن الأعراف تمنع قتل الرسل، لكنه لم ير في الأعراف قانوناً فوق دماء المسلمين.. كان يحمل على كتفيه مليون جثة من بغداد، وكان الدم ينادي الدم، وكان الموت لا يخيفه، بل كان يعرف أن الحياة بلا كرامة هي شكل آخر من أشكال القبور.أما الملوك.. أما السلاطين.. فقد وقفوا على الشرفات يراقبون المشهد.. أشراف حلب ودمشق والموصل وديار بكر، أمراء الممالك الذين ملأوا الدنيا ضجيجاً في الرخاء، تراجعوا أمام التتار كما تتراجع الظلال عند غروب الشمس.. كانوا يرتجفون، والرتجاف لا يصنع وطناً، ولا يبني جداراً، ولا يشحذ سيفاً.. كانوا ينظرون إلى ميافارقين وهي تذبح ببطء، إلى أهلها وهم يُحاصرون بلا خبز ولا دواء، إلى القلاع وهي تتساقط حجراً حجراً، إلى الأمير الكامل محمد وهو يقاتل بأسنانه بعد أن نفدت السهام، وهو يدفن أبناءه بيده، ويشد من أزر رجاله.. كانوا يسمعون صوته يرتفع في سماء المدينة: "الله أكبر.. الجهاد.. الجهاد"، لكنهم لم يسمعوا صوت ضميرهم.. كانوا خائفين حتى من أنفسهم.ثمانية عشر شهراً من الحصار.. ثمانية عشر شهراً من الجوع والدمع والعراء.. والملوك يشاهدون المشهد من بعيد، كأنهم يشاهدون مسرحية مأساوية لا تعنيهم.. لم يرسلوا خبزاً ولا سهماً ولا حتى دعاءً صادقاً.. كانوا مشغولين بتثبيت عروشهم المهترئة، وكانوا يظنون أن الساكت عن الذل ينجو، وأن الحياد أمان.. لم يفهموا أن الذل كالماء، إذا تسرب في جدار بيتك، أسقطه عليك.. لم يفهموا أن الأمة لا تبقى أمة إذا مات فيها صوت الحق.. ولم يفهموا أن الصمت خيانة، والخوف خيانة، والارتجاف خيانة.
حتى سقطت ميافارقين، وسقط الأمير محمد.. وأُسر البطل كما تؤسر الأسود الجريحة.. وأمام عيون هولاكو، ذُبح كرامته كما تذبح الذبائح.. قُطعت أطرافه قطعة قطعة، وأُجبر أن يأكل من لحمه.. نعم، أُجبر أن يأكل من لحمه، في مشهد يليق بجحيم التتار.. وكان يبتسم، كان لا يزال يرى الله.. كان لا يزال ينظر إلى السماء ويقول: "يا رب.. هذا الجسد لك.. وهذا الألم لك.. وهذا الدم لك.. وهذا الجهاد لك".. لم يكن يستسلم.. حتى وهو يُقطع، كان يظل كاملًا، لم ينكسر.. كان موته أكبر من حياتهم، وكان دمه أطهر من عروشهم، وكان جسده الممزق أنقى من كل الرايات التي زُينت بالكذب.
ثم قطعوا رأسه، وطافوا به في الشام، ليقولوا للناس: هكذا تُكسر الإرادة.. هكذا يُقتل الحلم.. هكذا يُذل من يقف في وجه الطغيان.. لكنهم لم يعرفوا أن الرأس إذا قُطع، صار رمزاً، وأن الدم إذا سال، صار لعنة تطاردهم في كل زاوية، وأن الظلم إذا تمادى، صار ناراً تلتهم الجميع.
إنها ليست قصة الكامل وحده.. إنها قصة وطن كامل يُقتل بالصمت، بالخذلان، بالخوف.. إنها قصة الأمة التي علمها التتار معنى الانحناء، ومعنى الذل، ومعنى أن يباع الدم العربي في سوق المفاوضات.. إنها قصة الملوك الذين ارتجفوا، والقادة الذين سكتوا، والشعوب التي لم تتحرك.. إنها صرخة في وجه كل من ظن أن الخضوع نجاة، وكل من ظن أن التفاوض يصنع وطناً، وكل من ظن أن الخوف طريق الأمان.. لأن الأمان الحقيقي لا يكون إلا في ساح الجهاد.. في ساحات المقاومة.. في أن تقول: لا.. حتى آخر نفس، وحتى آخر قطرة دم، وحتى آخر حجر في هذا الوطن الجريح.
هكذا مات الكامل محمد.. لكننا لم نمت بعد.
#حامد_الضبياني (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟