أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - بهرز… حين يصير النسيم تاريخًا ناطقًا بحضارة الألف عمر.















المزيد.....

بهرز… حين يصير النسيم تاريخًا ناطقًا بحضارة الألف عمر.


حامد الضبياني

الحوار المتمدن-العدد: 8364 - 2025 / 6 / 5 - 15:59
المحور: قضايا ثقافية
    


كأنّ نسيمًا خرج من ضفّة الزمان، وتاه بين أكمام الضوء المنبعث من شقوق التاريخ، فاستراح عند سفوح زاغروس، وهناك، حيث تتقاطع رائحة التراب بنبض النهر، ويمتزج الماء بظلّ البساتين المتكئة على ذراع العراق، نهضت بهرز… لا كمدينة فقط، بل كقُبلةٍ للعصور ومرفأ للأرواح التي عبرت من هناك.في بهرز، لا يمكن للمكان أن يُقرأ بمعزل عن الزمان، ولا للهواء أن يُستنشق إلا وقد حمل معه نداءات الملوك، وهمسات الفقهاء، وصدى خطى الجيوش التي مرّت، وصرخات الشعراء الذين كتبوا ما لم يُكتب بعد. فهنا لا تسير في الأرض، بل على تاريخٍ منقوش على الطين، ومنقوش في القلوب، وعالق في جذور الشجر وزوايا المعابد القديمة.
كانت بهرز – أو "إشنونا" كما عرفها الأوائل – نبضًا للحضارة حين كان الشرق يتعلم النطق، وكانت المدن كالأطفال تحبو في طين الأزل. من بين نهر دجلة ونهر ديالى، وُلدت كدرة في تاج سومر، وتوجّت أميرة بلالاما، الذي سنّ قانونًا للناس قبل حمورابي بنصف قرن، قانونٌ نُقش على الطين وحرسته الأرض حتى انتشلته أيدي العلامة طه باقر من قلب تل حرمل، حروفًا من صلصال، ونبوءات من عدالة كانت، وأملٍ لحضارةٍ لم تمت.وفي تلك الحقبة التي غادرت فيها سلالة أور الثالثة مسرح المجد، تقدّمت إشنونا بثوبٍ جديد، كأنّها ترفض أن تكون ظلًا، فتقدّمت كقوة عظمى، تصوغ الزمن من جديد، قبل أن يضمها حمورابي إلى وشاحه الملكي، لتظل شاهدة على لحظة تمازج فيها الحلم البابلي بالواقع الأكدي، وتماهت فيها الممالك في جسد وطنٍ واحد.
وفي جبين تل أسمر، ذلك المرتفع الذي لم يكن مجرد تراب، بل كتاب مفتوح على العصور، حفظت المدينة أسرارها في فخارٍ مطمور، وشواهد شامخة تتكلّم باسم ملوكها وكهنتها وتجّارها. وما بين جدرانها القديمة وبساتينها المتداخلة، تناثرت أسماء، وتشكّلت أحلام، وتكاثرت الأقدار.ثم مرّ الزمن كما يمر الغيم، فتبدّل اسمها من "إشنون" – هيكل الأمير – إلى "بهرز"، قيل على اسم أحد ملوك الساسانيين، وقيل من "بهو الرز" حيث كانت تُخزن أعلاف الأرز (تبن الشلب)، غير أن ما رجّحه المؤرخ الراحل مصطفى جواد، يبقى الأقرب إلى يقين التاريخ، حين أعادها إلى التاج الفارسي القديم الذي ارتدته قبل الإسلام.وبينما كتب ياقوت الحموي عنها في معجم البلدان، لم يكن يُسجل بلداً فحسب، بل كان يصف لوحةً خضراء، مدينة ذات بساتين، ذات منبر وجامع، مدينة قريبة من بغداد وبعيدة عن النسيان، كما يليق بمدينةٍ تهدهدها أنهار العراق.ومع خطوات القعقاع بن عمرو التميمي، دخلها الإسلام لا كفاتح فقط، بل كزائر لبيتٍ يعرفه مسبقًا. في العصر العباسي، لم تكن المدينة ساحة مرور فقط، بل ملتقى الخلفاء، والمنصور والرشيد والمأمون مرّوا من طرقاتها، وربما وقفوا على شاطئ خريسان متأملين انعكاسات النخيل في الماء، وربما أنصتوا لصوت المآذن القديمة ترتّل باسم بغداد وبهرز معًا.
وفي تلك الأرض، وُجد أبو فرج الحريري الطبري، عالِم القرآن والفقه، الذي عاد منها إلى بغداد قاضيًا للقضاة، وكأن العلم في بهرز كان يولد قبل أن يُؤخذ إلى العواصم الكبرى.وفي العصر العثماني، حين كانت المدن تُبنى من حجر وذاكرة، تأسّس مقهى النقيب، وما زال قائمًا كدليل حي على أنّ القهوة وحدها يمكن أن تحفظ أسرار المئة عام، مقابله تقف القنطرة الأثرية على نهر خريسان، كجسرٍ بين العصور، تربط الحاضر بماضٍ لا يغيب.تل أسمر ما يزال هناك، ونهر خريسان يسقي العطاشى من أبناء الذاكرة، وجامع أبي الغيث، الذي يُقال إنه يضم ضريح النبي دانيال، يعلو بخشوعٍ لا يُشبه سوى عبق الأنبياء، وتشاركه الجوامع الأخرى جمال الطراز وبُعد الرسالة: جامع بهرز الكبير، السيدة عائشة، النور، القدوس… أسماء تشهد على تنوّع المعتقد ووحدة الانتماء.وفي ظلال التكايا، انسحب المتصوفة من ضوضاء الحياة، وأقاموا صلواتهم في الزوايا المجهولة من القلب: تكية الشيخ ثابت، السيد يوسف المرسومي، بكر الشيخلي، هاشم الخشالي… تلك الملامح الصوفية كانت متنفس الروح في مدينة كانت وما زالت جسدًا للعقل.أما القنطرة العباسية، وحمام النقيب، وخان عزيز، وخان الزهيري، فهي ليست مباني فقط، بل صفحات متصلة في سفرٍ طويل، يسرده حجرٌ يعرف أسرار المسافرين ويحتفظ بروائح تعبهم، ويحفظ صوت الحمّامات حين كانت النساء يتهامسن عن قصص العشاق وأخبار الأمس.وفي بهرز، مرّت القبائل كما يمر الحنين على القلب، أقامت شمر والبو عامر والزبيد والندوات، ثم السواعد والزهيرية، وأخيرًا استقر بها المجمع والجبور والعزة والكرخية والردينية وعتبة والخشالات، كأنّها مدينة فُصلت لتكون خيمة لجميع العراقيين، تجمعهم حين يفرقهم كل شيء.ولأن المدن التي تعرف النور تُدرك لعنات الظلام، فقد وقفت بهرز في وجه الاحتلال بعد 2003، أول من قاوم، أول من انتفض، لكن يد الطائفية المتوشحة بثوب الدين، لم ترحمها، فصارت ملاذًا للمتشددين بعد أن كانت معقلًا للوعي، وما لبثت أن ذاقت من الصحوات ما لا يقل قسوةً عن سابقه، ليبقى جرحها مفتوحًا، كندبة ترفض الانزواء.لكنّ المدينة التي تؤمن بالشمس، لم تتراجع عن الزراعة، فظلّت مملكة النخيل والرمان والدبس، وظلّت نساؤها يعصرن الثمر بأيديهن ويحوّلن المذاق إلى ذاكرة. حتى في 2022، حين غفا العراق قليلاً، أنشئ فيها مصنع للإسفلت، كأنها أرادت أن تقول: "أنا حاضرة أيضًا، لا مجرد أثر".وفي الحرف، ما زالت بهرز حافظةً لمهنة الأجداد، العباءات، السجاد، السلال، الأقفاص، الأسرة المصنوعة من سعف النخيل… المهن التي تصنع من الحاجة فنًّا ومن البساطة مجدًا.أما الأعلام، فهي كأسماء النجوم في سماء العراق. ناجي إسحق الصافي، مؤلف كتاب الرياضيات الذي قرأه الملايين، الدكتور نجم عبد الله الدايني، الناقد والباحث الذي مثّل العراق في جامعات بريطانيا، الإعلامي والشاعر حامد الضبياني، الذي حمل اسم بهرز إلى آسيا وأوروبا عبر مجلتيه "صدى الثقافة" و"جسور الأدب" ،"والذي اختير كأحد أفضل عشرين صحفيًا في قارة آسيا."، إبراهيم البهرزي، القاص الذي سكب قصصًا من حنين، وثابت الثابت، حامل مفاتيح المكتبة، وناظم شكر قارئ المقام العراقي، ومحمد حسين كمر، العازف الساحر على الجوزة، الذي جعل من آلةٍ صغيرةٍ عراقًا كاملًا ينبض بالنغم، عراقًا بصوت بهرز وهي تعزف شجنها التاريخي فوق مقامات الطرب وأوتار الروح.بهرز ليست مدينةً فقط، بل قصيدة طويلة، نُظمت على لحن حضارة، تارة تُقرأ من اليسار كالسومريين، وتارة من اليمين كالعرب، وتارة من القلب كما يجب على كل من يحب العراق.إنها النسيم الذي مرّ من شقوق الأزل، وترك خلفه مدينة… اسمها بهرز.



#حامد_الضبياني (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كردستان... حيث يولد السلام من رحم الجمال
- حين تبتلع الأرض أبناءها... دجل الوطن وضياع القضايا-
- -اللص الشريف... عضو البرلمان الموقّر-
- كهنة الخراب: حين يتوضأ النفاق بدموع الفقراء
- ذي قار… نشيد الزقورة، ملحمة الرجولة، ووهج الأهوار
- العباءة السوداء التي تخنق النيل: التغلغل الصفوي في مصر وخطره ...
- صرخة لوط في ليل الضياع: عبرة لمن غابت رجولته وتنكرت فطرته.
- العراق بين قبضة الطغاة ووهج الثورة: صحوة الوعي وميلاد الغضب ...
- -فضائيات بلا أفق... مذيعون من كوكب التملق... وبرامج للبيع في ...
- -حين يقاتل الحالمون: كيف يغيّر الإبداع مصير العالم رغم الثعا ...
- وجعٌ يشبهك
- في زمن العري والسفاهة... حين صار العرض بضاعة في سوق النخاسة ...
- البصرة: قصيدة الجنوب التي لا تنتهي
- سيرة -رجل من خيال الزمان... في دروب الحرف ومرافئ الروح-
- -أمل دنقل... نايُ الجنوب الذي عزف للكرامة على وتر الوجع-
- رحلة في جحيم -1984- حيث الحبر دم والحرية وهم.
- حين يتعطر الوجع بالورد
- -حين أكل الأمير لحم جسده.. أكل الملوك كرامتهم: صرخة في زمن ا ...


المزيد.....




- دخل منطقة محظورة.. سائق توصيل طلبات ينتهي به المطاف على مدرج ...
- -تصميم- فرنسي على الاعتراف بدولة فلسطينية... وشكوى ضدّ إسرائ ...
- الشركات الأمريكية تتمسك بالصين رغم الرسوم الجمركية المرتفعة ...
- بنعبد الله يستقبل وفدا عن عن الجمعية المغربية لحماية المال ا ...
- مودي يفتتح أعلى جسر سكة حديد في العالم يربط كشمير بباقي الأر ...
- لحظة رعب في السماء.. طفلان ينجوان بأعجوبة من قلعة مطاطية طائ ...
- ترامب: وفد أمريكي يجري في لندن يوم 9 يونيو مفاوضات تجارية مع ...
- -إنجاز طبي في مكة-.. استخدام روبوت في عملية جراحية دقيقة بال ...
- رغم شهداء المساعدات.. واشنطن تدعو العالم لدعم -مؤسسة غزة الإ ...
- الى الامام العدد 248


المزيد.....

- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر
- العرب والعولمة( الفصل الرابع) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الثالث) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الأول) / منذر خدام
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين / محمد عبد الكريم يوسف


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - بهرز… حين يصير النسيم تاريخًا ناطقًا بحضارة الألف عمر.