تونس: استبدال الثورة بالدولة


بشير الحامدي
الحوار المتمدن - العدد: 7903 - 2024 / 3 / 1 - 14:03
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

البرجوازية التونسية التي كلّت عبير موسى منذ وصولها للبرلمان انتخابات 2019 في تحذيرها وتخويفها من تبعات دعمها للخوانجية وكانت الطرف الأكثر جذرية في معاداة حزب حركة النهضة هذه البرجوازية لم يكن لها لتصبر حتى الانتخابات القادمة (أوخر 2024 و أوائل 2025) لتكنس عبير موسى الخوانجية من الحكم بل التقطت الفرصة التي منحها لها صعود قيس سعيد للرآسة، فرصة إعلان براءتها من مسؤولية الدمار الذي انتهت إليه الأوضاع وتحميله للخوانجية وحدهم وكأن مهدي جمعة لم يكن ممثلا لها وشريكا متوافق عليه مع الخوانجية وكان يوسف الشاهد لم يكن رئيس حكومة الخوانجية والباجي قايد السبسي رئيسها وكأن إلياس الفخفاخ وهشام المشيشي لم يعينهما سعيد ليكونا رئيسي حكومة خوانجية وكأن سعيد نفسه لم يكن رئيسا والخوانجية حكومته .
25 جويلية لم يكن في الحقيقة ليجعل الحكم بيد قيس سعيد بل كان لجعل الحكم بيد شق المنظومة الفاسدة الذي صار يرى أنه بمقدوره أن يحكم بدون النهضة ولم يكن لتنصيب قيس سعيد رئيسا مطلق الصلاحيات بل لجعل هذه البرجوازية هي مطلقة الصلاحيات ولم يكن لترك قيس سعيد يفعل مع يشاء مثلما يعتقد كثير من مناصريه وخصوصا الجماعات التحتية التي استبدلت الثورة أو مواصلة الثورة بالدولة وفي اعتقادها أنه يكفي أن يكون واحد كقيس سعيد في أعلى هرم السلطة التنفيذية حتى يفعل ما يشاء أو يمكن أن يمهد لهم وجوده في ذلك المنصب كي يفعلوا ما يشاؤون بغض النظر عن قدرتهم أو وجاهة أطروحاتهم وانسجامها.
على امتداد التاريخ ويمكن قول ذلك بشكل جازم لم يكن الحكم المطلق بيد فرد سواء كان إمبراطورا أو ملكا أو رئيسا أو حتى شيخ قبيلة وهنا لابد من التفريق بين (الامبراطور والامبراطورية) و(السلطة والسلطان) و(الحكم والحاكم).
الحكم أو السلطة كانا دائما حكم وسلطة طبقة مهيمنة والسلطان أو الحاكم لم يكونا دائما إلا الواجهة أو تلك الدمية أو الخرقة التي تتخفي بها الطبقة التي تحكم وعبرها تحبّر مراسيمها وتنظم سيطرها وتحمي بها في الأخير مصلحتها وبقاءها.
وحتى سلطة الدوتشي أو هتلر أو فرانكو في القرن الماضي لم تكن إلا تلك السلطة التي تختفي وراء جبروتها طبقة انتهت إلى أنه لا يمكن لها الخروج من أزمتها إلا بإلغاء كل القوانين وسوق الأغلبية للتقاتل فيما بينها ليس لمصلحتها بل لمصلحة هذه الطبقة وبالتحديد لمصلحة شقها الأكثر توحشا.
يتناسى كثيرون اليوم أن الرجل ومن ورائه طبعا الأجهزة التنفيدية والعائلات المهيمنة اقتصاديا يحمون هيمنتهم الاقتصادية والسياسية بإسكات كل معارضيهم وبكل الطرق ...
فلم يعد بعض الاخوانجية وحدهم هم المطلوبين للمحاسبة لقد انكشف ذلك الأمر وفهم الناس أن العملية لم تعد تقنع فالرجل لا يريد أن يتقدم في ذلك وليس من مصلحة من يحكم باسمهم أن يتقدم وربما هي تعليمات الخارج وترتيباته للمرور إلى عملية ايهام أخرى تشيع أن الجميع صار مطلوبا " للمحاسبة" عملية استعراضية بائسة تهدف إلى إشاعة أمر تكميم الأفواه ومن ليس مع قيس سعيد فهو ضده ويجب البحث له عن اتهامات تقضي بمقاضاته حتى بتلفيق التهم واللجوء لطاحونة الشيء المعتاد: المؤامرة لقلب النظام وبالتالي توفير "شرعية" ما لتبرير الايقافات والاعتقال وسجن الخصوم السياسيين ولا مانع أن يكون هؤلاء المتآمرين من مختلف المشارب من كمال لطيف إلى نور الدين البحيري إلى عصام الشابي ولزهر العكرمي...
إنها تفعيل جهازي البوليس والقضاء ليبرهنا على أنهما يصغيان بانتباه لما يقوله الرئيس ومنخرطان بالفعل في توجهاته تلميذان نجيبان.
إنها الرثاثة بعينها وطعم للجمهور الحميري الغافل حين يسيطر على السلطة مستبدلو الثورة بالدولة... إنها الرثاثة مرة أخرى رثاثة أجهزة استرجعت النفوذ في الوقت الذي كان من المفترض أن تحاسب بيروقراطياتها على جرائمها طيلة العقود من حكم بورقيبة لبن علي للخوانجية...

01 مارس 2025