الفنان المغمور


بشير الحامدي
الحوار المتمدن - العدد: 8526 - 2025 / 11 / 14 - 14:40
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

ولد موديلياني ذو الأصول اليهودية في مدينة ليفورنو الساحلية في إيطاليا التي كانت ملجأ لجالية كبيرة من اليهود، وتعود أصول عائلته إلى القرن الـ 18 عندما وصل جده سولومون جارسين لاجئا إليها. كان والده مهندسا ورجل أعمال وأحد الأثرياء الذين عملوا في إدارة المناجم وتجارة الأخشاب، أما والدته فقد ولدت وترعرعت في مدينة مارسيليا الفرنسية في بيئة تعنى بالثقافة والدين، وكانت تعمل في القروض المالية.
تلقى موديلياني تعليما منزليا على يد والدته التي أشرفت على تدريسه حتى وصل إلى سن العاشرة. بعد بضع سنوات أصيب موديلياني بحمى التيفوئيد، ويقول أنه أثناء مرضه كان يهذي برؤية لوحات فلورنسا العظيمة، وهنا بدأت تتكوّن الملامح الأولى للفنان
بين عامي 1898 – 1900 ارتاد موديلياني مدرسة ميشيلي، حيث درس فن البورتريه والحياة الساكنة والشخصيات العارية وبعض أنماط الفن الإيطالي التي كانت سائدة في عصر النهضة وتأثر في تلك الفترة بفنانين باريسيين مثل جيوفاني بولديني وتولوز لوتريك إلى أن أصيب بمرض السل الذي منعه من الدراسة.
في عام 1901 بدأ موديلياني يعجب بأعمال رسام المشاهد الدينية والأدبية الدرامية دومينيكو موريلي، الذي كان مصدر إلهام لمجموعة من الفنانين عرفوا فيما بعد بلقب "ماكياولي (وهي كلمة إيطالية مشتقة من ماكيا أي اندفاع اللون)، وكانت تلك الحركة الفنية تميل إلى التمرّد على الرسامين البرجوازيين الأكاديميين وترجع أصولها إلى الانطباعيين الفرنسيين. وتواصل موديلياني مع رواد الماكياولي عن طريق أستاذه ميشيلي الذي كان من أتباعها إلا أنه تجاهل أولى أساسيات هذه الحركة التي تتمثل بهوس الانطباعيين في رسم المناظر الطبيعية وكان يفضل العمل في الأماكن المغلقة على الرغم من تشجيع معلمه له على الرسم في الهواء الطلق وربما هذا ما يفسر ندرة أعماله الانطباعية فقد تم التعرف على 3 لوحات انطباعية له فقط واحدة منها تكعيبية أقرب إلى أسلوب سيزان من ماكياولي.
في عام 1902 واصل رحلته الفنية وسجل في "المدرسة الحرة للدراسات العارية" وبعد مرور عام كان لا يزال يعاني فيها من مرض السل اضطر إلى الانتقال إلى البندقية وسجل في أكاديمية "ريجيا إد للفنون الجميلة" ولكنه وبدلاً من الدراسة أهدر وقته في اللهو والتسكع في أماكن سيئة السمعة.
وتتلخص حياة موديلياني في تلك الفترة باتباع الأسلوب البوهيمي في العيش والسعي إلى الحياة في أوج اشتعالها ولعل ذلك كان نتيجة تأثره بكتابات نيتشه – وبودلير- وكاردوتشي -وكونت دي لوتريامونت - وآخرين ولاعتقاده بأنه لا يمكن بلوغ الإبداع الحقيقي إلا عن طريق التحدي والفوضى.
عام 1906 انتقل موديلياني إلى باريس التي كانت آنذاك النقطة المركزية لانطلاقة الفنانين الناشئين وتزامن وصوله مع قدوم عدد كبير من الفنانين الأجانب الذين تركوا بصمتهم في عالم الفن ليصبح فيما بعد صديق جاكوب إبشتاين اللذان حاولا إنشاء مكان ذي روح جمالية فنية عالية. وقام موديلياني بابتكار رسومات ولوحات من الأحجار الكريمة واستأجر مكانا صغيرا في شارع كولينكورت. وفي مونمارت قضي أغلب تلك الفترة...
كان موديلياني يرسم العراة في أكاديمية ولم يمض عام واحد حتى تغيرت ملامح سلوكياته بشكل صادم فتحول موديلياني من فنان أنيق إلى عابث بوهيمي متشرّد وسرعان ما أمسى بيته ومشغله مكانا يسوده الاضطراب بعد أن رفض جميع أشكال البرجوازية وتخلص من لوحات عصر النهضة الأكاديمية ولم يكتف بذلك بل قام بتدمير كل أعماله الأولى التي وصفها بالأعمال البرجوازية القذرة. ليصل فيما بعد إلى تعاطي المخدرات لتسكين آلامه الناتجة عن مرض السل الذي أخفاه عن معظم من كان حوله وحافظ على حياة صاخبة تعج بالأصدقاء.
في عام 1909 نقل موديلياني مسكنه إلى حي مونبرناس في باريس وبدأ يرى نفسه نحاتا وليس رساما وشجعه على ذلك بول غيوم وهو شاب طموح كان يعمل تاجرا للفنون والذي ساعده في عرض أعماله عام 1912 في "صالون دوتوم.
ومع اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914 ومع صعوبة الحصول على المواد تخلى عن شغفه بالنحت وركز فقط على الرسم. وخلال سنواته الأخيرة (بين عامي 1916-1920) أصبح موديلياني صديقا للشاعر وتاجر الفن البولندي ليوبولد زبوروفسكي، والذي ساعده ماليا، كما نظّم له معرضا في باريس عام 1917، وهو المعرض الفردي الوحيد له خلال حياته، وعرض من خلاله سلسلة لوحات عارية لاقت رفضا من الشرطة بسبب تطرقها للقضايا الجنسية.
التقى موديلياني بأول حب جاد في حياته عام 1910 مع الشاعرة الروسية آنا أخماتوفا والتي كانت تقيم في نفس المبنى. آنا ذات الـ21 عاما بشعرها الداكن وعيونها الرمادية جسّدت مثالية الجمال عند موديلياني. واستمر موديلياني بالتخبط في علاقات قصيرة حتى دخلت الناقدة الفنية بياتريس هاستينغز حياته ومكثت معه نحو عامين وكانت موضوع العديد من صوره ولوحاته.
أنهى علاقته مع بياتريس ليتعرف على جان هيبوتيرن ذات الخلفية البرجوازية المسيحية المتدينة وعلى الرغم من حبهما الكبيرفإن عائلتها وقفت ضد علاقتهما بسبب أصوله اليهودية لكن سرعان ما أصبحت جان محور لوحاته.
عام 1918 غادر موديلياني مع جان العاصمة باريس إلى مدينة نيس هربا من الحرب وأنجبا طفلة أطلقا عليها اسم جين وكانت حياتهما مليئة بالأصدقاء أمثال بيير اوغست ورينوار وبابلو بيكاسو وغيرهم، وبعد عام عاد العاشقان إلى باريس لتحمل جان بطفلها الثاني إلا أن استمرار رفض عائلتها لزواجهما حطم كل خططهما المستقبلية وترافق ذلك بتفاقم مرض موديلياني واقتراب نهايته.
عام 1920 اختفى موديلياني وجان عن الأنظار لعدة أيام وهوما دفع أحد الجيران لتفقد أحوالهما ليجد موديلياني قابعا في فراشه وهو يهذي وما هي إلا أيام حتى وافته المنية.
كانت جان البالغة من العمر 21 عاما حاملا في شهرها الثامن وبعد يوم واحد من وفاته نقلت إلى منزل عائلتها التي لم تهتم بحالة اكسارها وحزنها على حبيبها فما كان منها إلا أن ألقت بنفسها من نافذة الطابق الخامس وتوفيت جان ودفنت بجانب قبر موديلياني في مقبرة العظماء في باريس التي لا تزال شاهدة على قصة عظيمة من المعاناة والحب.
أنجز موديلياني عدة رؤوس نحتية أقرب إلى الطابع الأفريقي واللاتيني، واستطاع بسط سيطرته على الشخوص بطريقة إبداعية فريدة تميزت بتحويرات طولية في أغلب الرؤوس وملامح كما لو أنها كانت منحوتة في الحجر في مزيج تعبيري تكعيبي فاق في رأي كثير من النقّاد تكوينه الجمالي.
خلال حياته قايض موديلياني لوحاته بالطعام ومات فقيرا ومشردا إلا أن صيته ذاع بعد ذلك حيث أصبح محور 9 روايات – ومسرحية - وفيلم وثائقي و3 أفلام روائية - ثم كتبت ابنته "جين" سيرته الذاتية في كتاب حمل اسم "موديلياني... الرجل والأسطورة" وفي عام 2010 أصبحت منحوتته "الرأس" ثالث أغلى تمثال في العالم.
رابط لوحات ومنحوتات موديلياني
https://drive.google.com/drive/folders/16VQRMOpGJLDhCRVE2hqBexA7pGGYFVUP?usp=sharing
14 نوفمبر 2025
الحمامات تونس