حول ازمة التعليم في العراق


جلال الصباغ
الحوار المتمدن - العدد: 7594 - 2023 / 4 / 27 - 17:36
المحور: التربية والتعليم والبحث العلمي     

تشير أرقام منظمة “هيومن رايتس ووتش” إلى أن 6 ملايين عراقي يعانون الأمية المطلقة، أي ما يعادل أكثر من 15% من سكان البلاد، ورغم ان هنالك احصاءات محلية ودولية تؤكد ان نسب الامية في العراق تصل لأكثر من 40%، تبقى اقل هذه النسب في حقيقتها ظاهرة خطيرة تعصف بالمجتمع، وتبين توحش هذا النظام، وحجم المآسي التي انتجها من خلال سياسة اقتصادية لا يهمها سوى تطبيق شروط المؤسسات المالية الدولية والحفاظ على الامتيازات المالية المتأتية من عمليات السرقة وغسيل الاموال، بالإضافة الى الايغال في تجهيل المجتمع سعيا في السيطرة عليه عن طريق بث الاوهام والخرافات.
يؤشر انتشار الامية في الاوساط الاجتماعية داخل العراق على تدني المستوى المعاشي للمواطنين بسبب عدم قدرتهم على تحمل تكاليف دراسة ابنائهم، ما يجبرهم لتشغيل الاطفال في اعمار صغيرة وترك مقاعد الدراسة، دون اية اجراءات ملموسة من طرف الدولة لمحاربة هذه الظاهرة، وذلك في تعبير عن تخليها عن مسؤوليتها تجاه توفير التعليم المجاني المواطنين.
ان حجم الامية في العراق لا يعكس لوحده ازمة التعليم في البلاد، بل هو احدى انعكاسات هذه الازمة، فالتعليم الابتدائي والثانوي والجامعي في اسوء احواله، اذ يعاني قطاع التعليم من التراجع والانحدار على امتداد عقود من الزمن، حتى وصل الى ادنى مستوياته في السنوات الاخيرة، فالبلاد بحاجة الى اكثر من عشرة الاف مدرسة، من اجل فك الاختناقات الحاصة في المدارس وذلك بحسب احصائيات وزارة التخطيط، بالإضافة الى ان اغلب المدارس الحكومية الموجودة حاليا هي مدارس متهالكة وخالية من ابسط شروط التعليم الحديث، ووجود اكثر من 500 مدرسة طينية وعشرات المدارس الكرفانية! وتكتظ غالبية الصفوف بعشرات الطلبة دون وجود رحلات دراسية او كتب مدرسية، كما تخلو هذه المدارس من المختبرات العلمية ولا تحتوي على اماكن للترفيه والرياضة او من المسارح والقاعات الخاصة بالنشاطات الموسيقية والفنية والمسرحية بالإضافة لانعدام المرافق الصحية في الكثير منها، وهي تعاني من انقطاع التيار الكهربائي بشكل مستمر، كل هذا وغيره من المشكلات التي تتعلق في جزء منها بطبيعة المناهج التي تروج للعنف والإرهاب والطائفية مرورا بعدم تأهيل معلمين مقتدرين يواكبون التطورات المتسارعة في الأساليب الحديثة للتعليم وتقنياته وهي من ابرز علامات تدهور التعليم.
في مقابل الانهيار الكبير في المنظومة التعليمية الحكومية، تشهد البلاد تزايدا في اعداد المدارس الاهلية، اذ بلغت اعداد هذه المدارس بحسب احدى الاحصائيات في عام 2020 الى حوالي 3300 مدرسة، دون وجود اية قوانين واضحة تنظم عملها وتنصف معلميها ومدرسيها، اذ ان راتب المعلم في المدارس الاهلية لا يتجاوز المئتين وخمسين دولارا في افضل الاحوال، فيما لا يتجاوز المئة وخمسة وعشرون دولارا في اغلب هذه المدارس، مع حرمانه من مخصصات الاطفال والزوجية والزيادة السنوية في الراتب، كل هذا مع امكانية فصله من العمل متى ما قرر المالك ذلك، ما يجعل هذه الشريحة في قلق دائم على مستقبلها بسبب هذا الواقع. على رغم من ان قانون التعليم الاهلي والاجنبي لسنة 1968 ينص على "ان يعامل مديرو المعاهد والمدارس الاهلية والاجنبية ومدرسيها معاملة زملائهم في المدارس الحكومة بكل المخصصات المالية والامتيازات من تطبيب وترفيع واجازات" الا ان هذا القانون لا يتم تطبيقه، فيما تستعين السلطة الحالية بقوانين البعث في خنق الحريات ومحاربة النقابات والقوانين المستخدمة في قمع النساء على سبيل المثال.
ورغم ان حق التعليم هو احد الحقوق الاساسية الواجب على الدولة توفيرها للجميع بشكل مجاني، ووفق اخر التطورات الحاصلة في تقنيات وطرائق التعليم، ورغم الميزانيات المليارية التي رافقت مجيء هذا النظام، نجد هذا الواقع المزري والكارثي لهذا القطاع، مع الاصرار الحكومي على خصصة التعليم في العراق، كما بين ذلك احد الوزراء في حكومة الكاظمي اذ قال "ان التعليم الجامعي الحكومي، لم يعد قادرا على استيعاب الطلبة المتخرجين من الدراسة الاعدادية، الذين بات عددهم يتضاعف في كل عام، مبينا ان حصة التعليم الجامعي الاهلي تصل الى حوالي ٣٠٪ من الطلبة المقبولين سنويا، والهدف هو ان نرفع هذه النسبة الى ٥٠٪" ولم يخبرنا السيد الوزير لماذا لا يستطيع القطاع الحكومي استيعاب اعداد المتخرجين من الدراسة الاعدادية، والجواب على هذا السؤال بسيط للغاية، وهو ان سياسة الخصخصة وتهديم القطاع الحكومي هي احدى ابرز سياسات النظام الاقتصادية وذلك يشمل بالتأكيد قطاع التربية والعليم، فمشكلة التعليم الحكومي وتراجعه جاءت نتيجة سياسة مخططة ومدروسة اساسها هو فسح المجال امام استثمار التعليم من قبل القطاع الخاص، يقابله اهمال التعليم العام وتركه عرضة للفساد والمحاصصة.
افتتحت في العراق اكثر من خمسة وسبعين جامعة اهلية وحال هذه الجامعات ليس بافضل من المدارس الاهلية، لا من حيث حقوق العاملين فيها ولا من جهة مخرجاتها من الخريجين في مختلف الاختصاصات، ورغم الاقساط النقدية العالية المستحصلة من الطلبة وعائلاتهم، الا ان العاملين فيها من تدريسيين واداريين وعمال ليست لديهم اية ضمانات، واجورهم متدنية بالمقارنة مع اقرانهم في الجامعات الحكومية، ناهيك عن ان هذه الجامعات اصبحت مجرد واجهات لغسيل اموال السياسيين بعيدا عن أي محتوى علمي.
ان مشكلة التعليم في العراق هي مشكلة متعددة الابعاد، لكن الحاكم الاساس في هذه المشكلة يتعلق اولا برفع يد الدولة عن دعم هذا القطاع والتخلي عن مسؤوليتها تجاه المجتمع والسير الحثيث باتجاه فسح المجال امام الاستثمار والقطاع الخاص، في مقابل التخلي عن التعليم المجاني واهماله ومحاولة تسيسه باتجاه خدمة النظام واهدافه الطائفية والعشائرية والرجعية، وتتعقد المشكلة حين يسيطر هؤلاء الطائفيون والعشائريون عن طريق المحاصصة السياسية على وزارات التربية والتعليم العالي وعلى رئاسة الجامعات الحكومية، وحتى على الاقسام العلمية داخل هذه الجامعات، اما فيما يخص الجامعات والمدارس الاهلية فهي في حقيقتها مجرد دكاكين لبيع الشهادات مقابل الربح المالي.
تصرف عشرات المليارات سنويا على الوقفين السني والشيعي وعلى الاماكن الدينية والمزارات والعتبات وعلى تأسيس وتسليح المليشيات والاجهزة الامنية المختلفة لان هذه المؤسسات تخدم النظام وتحافظ عليه، كما تذهب مليارات اخرى لحسابات زعماء الاحزاب والقوى السياسية من خلال عمليات النهب والفساد، بينما خطة هذا النظام لحل ازمة التعليم هي انشاء المزيد والمزيد من المدارس والجامعات الاهلية!
ان حل مشكلة التعليم في العراق يتطلب رؤية سياسية تتبنى توفيره للجميع بشكل مجاني والزامي خصوصا في مراحل التعليم الأولي، وابعاد شبح القطاع الخاص عن التعليم بشكل نهائي، والعمل على بناء الالاف من المؤسسات التعليمية سواء اكانت مدارس او جامعات او غيرها من المرافق المعنية بالعملية التعليمية، وتوفير كل متطلبات الطلبة والتدريسيين بما يمكنهم من الارتباط بالمجتمع والمساهمة في اعادة بناءه بما يخدم مصالح الغالبية العظمى من السكان ، وهذا الامر غير قابل للتحقق في ظل سيطرة القوى الطائفية القومية البرجوازية التي تتبنى نهج الليبرالية الجديدة وتعمل على رفع يد الدولة في توفير الخدمات الصحية والتعليمية بالإضافة لخدمات الماء والكهرباء والسكن وغيرها لجميع المواطنين.