البديل الاقتصادي للجماهير بين الليبرالية الجديدة والاشتراكية


جلال الصباغ
الحوار المتمدن - العدد: 7458 - 2022 / 12 / 10 - 13:55
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

رغم الازمات المتتالية التي انتجها النظام البرجوازي الاسلامي القومي بعد عام الفين وثلاثة، ورغم الفقر الرهيب الذي يسود اغلب قطاعات المجتمع، والعمليات الممنهجة لتصفية الصناعة والزراعة، والتردي المتواصل في تقديم الخدمات الصحية والتعليمية، واشتداد ازمة السكن والكهرباء، وتهالك البنية التحتية للمدن ورداءة الطرق، الا ان الحديث عن السياسة الاقتصادية المتبعة من قبل النظام لا يعد القضية الجوهرية التي ادت لكل هذه المصائب والويلات من غالبية القوى المحسوبة على المعارضة. فيما يتم التركيز على عمليات سوء الادارة والفساد المستشري لدى النظام الحاكم في العراق ما بعد 2003، وهذه العمليات لا يستهان بها بالطبع كونها الاداة بتنفيذ مشروع الليبرالية الجديدة؛ لكنها ليست العامل الحاسم بقدر منهج الدولة الاقتصادي وما تعمل عليه من سياسات اقتصادية تنعكس بشكل مباشر على حياة الملايين.
غالبا ما تدعو القوى المعارضة للنظام والقوى الاصلاحية الى تشكيل نظام سياسي جديد او لإجراء تغييرات هنا وهناك من اجل ايجاد حلول للواقع المعيشي المتردي لغالبية الجماهير، لكن عند سؤال هذه الاطراف عن البديل الاقتصادي للنظام الحالي، تكون الاجابة اما السكوت او المطالبة بالاستعانة بالخبراء الاقتصاديين والاكاديميين لحل مشكلات الفقر والبطالة وانعدام الخدمات، او بإجراء خطوات معينة مثل تسهيل الاستثمار وتشجيع القطاع الخاص او غيرها من الاجراءات التي تتبنى ذات السياسة المتبعة من قبل حكومات ما بعد الاحتلال. فهذه القوى في غالبيتها لا تمتلك البديل السياسي والاقتصادي للدولة.
لقد مثلت حكومة مصطفى الكاظمي السياسة الليبرالية الجديدة بكل وضوح، وعملت بكل طاقتها، وبدعم من التيار الصدري في حينها، على تطبيق الورقة البيضاء، والتي رسخت من رفع يد الدولة عن اي دعم للقطاعات المختلفة، واتخذت مجموعة من الاجراءات منها خفض قيمة الدينار امام الدولار، محدثة عجزا كبيرا في القدرة الشرائية للمواطنين، كما انها اجهزت على اي امل بعودة قطاعات الصناعة والزراعة للعمل مرة اخرى، وفتحت الابواب مشرعة امام القطاع الخاص الذي تشكل المافيات التابعة والمرتبطة بأحزاب وقوى السلطة عصبه الرئيسي، والتي نهبت ولا تزال اموال الدولة، لتنتشر الجامعات والمدارس والمستشفيات والمولات والمجمعات السكنية الخاصة كوسيلة لتطبيق هذه السياسة، بالإضافة لغسيل الأموال المنهوبة، يقابلها انتشار الامية والعشوائيات والفقر وزيادة اسعار المحروقات والبضائع والسلع ، ناهيك عن مضاعفة اعداد المعطلين عن العمل والمتسولين ومدمني المخدرات، واستفحال أزمات السكن والجفاف والتلوث.
لم تأتي هذه السياسية على يد حكومة الكاظمي تحديدا، فمنذ الغزو الامريكي واستلام السلطة من قبل الاسلاميين والقوميين وشركاؤهم من التوجهات المختلفة، وبتوجه من الحاكم الامريكي بول بريمر، والعمل مستمر في سبيل تحويل العراق، وهو احد اكبر منتجي النفط على مستوى العالم، الى بلد تكون ثرواته بيد سلطة نهّابة شريكة للقوى العالمية في تطبيق السياسة الليبرالية الجديدة، بل إن القوى المنبثقة عن انتفاضة أكتوبر والتي أفرزت حركة امتداد على سبيل المثال، تطالب على لسان زعيمها علاء الركابي بأن يكف المواطنون عن المطالبة بالتعيين على القطاع العام، لان الدولة بحسب علاء الركابي ليست المسؤولة عن تعيين الشباب والشابات المعطلين عن العمل، بل إن قوى الانتفاضة التي لم تشترك في الانتخابات هي الأخرى لا ترى في غالبيتها بان مسألة توفير العمل وضمان البطالة من مسؤوليات الدولة وهي ترى ان المشكلة تكمن في ضعف القطاع الخاص وعدم السماح للمستثمرين بالدخول إلى السوق العراقية بالشكل المطلوب.
من مهام اللبرالية الجديدة في بلدان مثل العراق هي إيهام الجماهير عبر السلطة وإعلامها ومثقفيها ومستشاريها الاقتصاديين، بان الحل يكمن بالتطبيق الحرفي لاقتصاد السوق، الذي يعني بقاء البلاد رهينة بإملاءات المؤسسات المالية الامبريالية وشروطها وبان تتخلى الدولة عن كل مسؤولياتها تجاه المجتمع، فيما تستخدم في ذلك أدواتها القذرة في تقسيم المجتمع إلى مكونات وطوائف وقبائل متقاتلة فيما بينها من جهة، ومتفقة على رفع يد الدولة عن اي رعاية صحية او تعليمية او خدمية من جهة أخرى ، ومهما كانت ثروات هذه الدولة، فهي الآلية التي تضمن التحاق العراق بالمعسكر البرجوازي الليبرالي، وتسمح بتدفق رؤوس الأموال إلى الرعاة الدوليين وتطبيق مشروعهم في السيطرة على العالم.
تقفز القوى المحسوبة على المعارضة على واقع الملايين الذين خرجوا إبان الانتفاضة، وجلهم من المعطلين والكادحين والمعدمين الذين انتفضوا على نظام سرقهم وافقرهم وجعل من الدولة أداة لقمعهم واسكاتهم ووسيلة لتنفيذ برنامج خبيث يعفيها من اي مسؤولية تجاه الأزمات الطاحنة التي تعصف بالمجتمع. وتتناسى هذه القوى ان هذه الازمات هي نتيجة لسياسات الخصخصة والتحول نحو اقتصاد السوق.
كل هذا الواقع المرير لا تراه قوى المعارضة الليبرالية وجزء من اليسار الإصلاحي، بالإضافة إلى القوى "الوطنية" والقومية والإسلامية المعارضة، فالمشكلة بالنسبة لهؤلاء ليست في تطبيق الليبرالية الجديدة واقتصاد السوق، انما في الأحزاب والأشخاص التي تطبق هذا النهج السياسي.
ان نهج الليبرالية الجديدة لا يشكل عبئا على مواطني البلدان الأكثر فقرا، التي تسودها الاضطرابات والحروب او بلدان ما يسمى بالعالم الثالث، انما أثر بشكل فعلي على حياة الناس في مختلف البلدان المصنفة على أنها بلدان مستقرة وذات اقتصاد قوي، لان هذا النهج يجعل حياة الغالبية العظمى رهينة بيد الشركات وأصحاب المليارات الذين يتم اعفائهم من الضرائب بينما يتحمل العمال والكادحون الجزء الأعظم منها.
ان الأوهام حول الجنة الموعودة التي توفرها الليبرالية الجديدة قد بددها الواقع وتجربة الكثير من البلدان التي أجبرت بفعل الهيمنة الامبريالية على تطبيقها خير دليل على ذلك، فالجماهير في هذه البلدان عاشت الفقر بفعل سياسات الخصخصة وهيكلة الصناعة المحلية بحجة عدم قدرتها على المنافسة، وتخلي الدولة عن واجباتها تجاه المواطنين.
يشكل الوقوف بوجه السياسة الاقتصادية للنظام ومعارضيه من الحاملين لنفس المنهج، أساس نضال القوى الاشتراكية التي تتبنى النقيض التام لكل السياسات البرجوازية. ورغم اننا هنا لسنا بصدد تفاصيل الطرح الاشتراكي ولكن ذلك لا يمنع من الاشارة الى بعض اهم الإجراءات التي يناضل هذا البديل في سبيل تحقيقها، ومنها الملكية الاجتماعية لوسائل الإنتاج، وتوفير فرص العمل وصرف ضمان البطالة للجميع، وتوفير الخدمات الصحية والتعليمية الحديثة بشكل مجاني، والعمل على توفير الخدمات الأخرى من ماء وكهرباء واتصالات وسكن وغيرها من المتطلبات المرتبطة بتوفير الرفاهية لعموم المجتمع، من خلال ادارة جماهير العمال والكادحين والمفقرين والشبيبة والنساء وكل التحررين للدولة، هو الحل للازمات التي احدثتها الليبرالية الجديدة في العراق.