في العزلة عن الجماهير


جلال الصباغ
الحوار المتمدن - العدد: 7411 - 2022 / 10 / 24 - 19:10
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

هنالك العديد من الاطراف والجهات والافراد الذين يسعون من خلال مواقفهم السياسية والفكرية الى تناول القضايا الخاصة بالواقع الذي تعيشه الجماهير، وتختلف تصورات كل فريق من هؤلاء بحسب مصالحه بالدرجة الاولى ومن ثم بحسب الفلسفة السياسية والاقتصادية التي يعتنقها والتي ترتبط هي الاخرى بالمصالح ايضا.

ولا نتناول هنا سياسة ومواقف الاحزاب والتيارات الاسلامية والقومية الحاكمة في العراق، وشركائهم الاخرين المتبنين لمشروع السلطة، اذ تسلك هذه الجهات خطا واضحا يمثل مصالحها، والذي يؤدي بشكل حتمي الى افقار الجماهير وزيادة بؤسها ومعاناتها، فهي تجسد بمن معها طبقة اجتماعية تهيمن على ثروات البلاد وتمثل مصالح الرأسمال العالمي والاقليمي وتسير على خطاه في تطبيق السياسات الاقتصادية لهذه الاطراف.

في مقابل ذلك، هنالك العديد من الجهات التي تلاقي لدى بعض المخدوعين والسطحيين والانتهازيين تأييدا واقبالا، لكنها تبقى في جوهرها بعيدة عن التطلعات بالتغيير الجذري. وينقسم هؤلاء الى مجاميع من المثقفين والاكاديميين، او الى احزاب يسارية اصلاحية، او الى تكتلات معارضة تطالب بالعلمانية او مدنية الدولة او الى افراد وناشطين يعتقدون انهم قادرين على تغيير الواقع ببعض الجمل والكليشيهات الفارغة والمعلقة في الهواء، والبعيدة عن الواقع اصلا.
ما يميز غالبية هؤلاء او جميعهم، انهم يدعون الى التغيير من فوق، أي انهم يسلبون غالبية المجتمع من ادواته وقدرته على التغيير من خلال طروحاتهم وافعالهم هذه، والتي تدعوا الى ان "النخبة" هي صاحبة الامكانية في التغيير، وما على المواطنين الا الانصياع لما تقرره هذه النخبة.

فمن هي هذه النخبة؟ وكيف بإمكانها قيادة التغيير؟ والاجابة عن هذه الاسئلة بسيطة وهي ان هذه النخبة، هي مجموعة المثقفين والاكاديميين والخبراء ومن على شاكلتهم، وهؤلاء ليس لديهم أي تصور للتغيير الذي يخدم الجماهير المعترضة، سوى طرحهم لاستراتيجيات اصلاحية في افضل الاحوال، وفي كثير من الاحيان تتميز مواقفهم تجاه الكثير من القضايا بالرجعية والتخلف، بل ان قسما كبيرا منهم يلقي باللائمة على المجتمع باعتباره المسؤول عن اختيار وصعود احزاب القتل والنهب، متناسين بطبيعة الحال المال والسلاح والمليشيات والاجهزة الامنية القمعية، بالإضافة الى القوانين والتشريعات والقضاء الذي يسير على هواهم، ناهيك عن الدعم الاقليمي والدولي الذي يحافظ على هذا النظام، ويحرص على تصوير كل عملية انتخابية على انها انتصار للدمقراطية، فهم دائما ما يتجاهلون كل هذه المعطيات ليلقوا بالمسؤولية على المجتمع.

يلهج مثل هؤلاء بضرورة فتح الابواب للقطاع الخاص والشركات العملاقة للعمل والاستثمار، باعتباره الطريق السحري لتوفير الخدمات والقضاء على البطالة وتحقيق رفاهية المواطنين! فيصيبهم العمى ولا ينظرون الى مئات المليارات التي تنهبها اطراف المحاصصة وعصاباتها وميليشياتها التي تحكم البلاد بالحديد والنار، وكأنهم يقولون ان هذه الاموال من حقهم، وفي قرارة انفس نخبنا ومثقفينا يقولون لا بأس بان تتحول جميع المدارس والجامعات والمستشفيات والمصانع وكل الخدمات بيد الشركات واصحاب رؤوس الاموال، لأنهم يحبون ان يكون الجميع خدما لأصحاب رأس المال ليضيفوا الى الاموال المنهوبة اموالا اخرى، ناتجة من كد وعرق الغالبية التي يجب ان تبقى كذلك، خدمة لديمقراطيتهم المزيفة.

يعيش بعض الحالمون الرومانسيون السطحيون، بعيدين عن هموم ومشكلات الناس، وما ان تتحدث معهم في اسباب الانحدار الحاصل في كل مفاصل معيشة المواطنين نتيجة حكم هذه الطغمة، حتى يتشدق قسم منهم بانهم لا يحبذون الحديث في السياسة، في موقف يعبر عن انتهازية وسلبية وانعزالية، عن كل ما يمس حياة الغالبية العظمى، والسبب واضح هو انهم لا يريدون المجازفة بما يحصلون علية من وظائف ومناصب، فهؤلاء جزء من البرجوازية الصغيرة، التي لا تغير مواقفها الا عند وصول الحراك الثوري الى مديات بعيدة وهذا ما لمسناه بشكل واقعي ابان انتفاضة اكتوبر في 2019 عندما التحق قسم كبير من البرجوازية الصغيرة بركب الانتفاضة، لكنهم سرعان ما تخلو عنها عندما اخذت بالتراجع بفعل القمع وتأثيرات قوى الثورة المضادة.

كذلك تبتعد الاحزاب والقوى المحسوبة على اليسار عن الاسباب الحقيقية التي تفاقم من معانة الناس، وتذهب بالاتجاه الاصلاحي الذي يبقي النظام على ما هو عليه، فسياسة هذه الاحزاب لا تمثل الكادحين والعمال والمعطلين عن العمل، وغالبا ما يغازل هذا النوع من اليسار القوى المهيمنة على السلطة ويستخدم لغتها ذاتها، فهو الاخر لا يؤمن بقدرة الجماهير على الثورة، بل انه رغم حمله لاسم الشيوعية، لا يطرح في ادبياته ومواقفه أي ذكر للصراع الطبقي الذي يشكل العمود الفقري في اية سياسة ماركسية فعلية، بل انه يحاول قدر الامكان الابتعاد عن كل نقد ماركسي تجاه الظواهر السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وكأن الماركسية التي يدعي الانتساب اليها تهمة يجب البراءة منها!

تبقى القوى والشخصيات التي تطرح نفسها معارضة للنظام القائم، وهذه الاطراف ليست شيئا واحدة فهي خليط غير متجانس من الليبراليين والوطنيين والعلمانيين والقوميين وحتى قسم من الطائفيين والعشائريين، ودائما ما حاولت هذه الاطراف قيادة انتفاضة اكتوبر عام 2019، دون القدرة بالطبع على تنظيمها، رغم الشعبية التي يحظى بها قسم منهم، ولفترات محدودة بالطبع، فهؤلاء لا يمتلكون في حقيقتهم أي بديل سياسي او اقتصادي للجماهير، فهم اما يريدون تدخل ورعاية دولية من اجل تنفيذ مشاريعهم، او انهم يريدون ازاحة هذه السلطة عن طريق انقلاب عسكري ( ولا احد يعلم كيف يحدث ذلك)، او انهم يطالبون ويعملون على مجرد تحشيد الناس على الخروج في الانتخابات وقلب الطاولة على قوى السلطة وميلشياتها واجهزتها الامنية، كما يدعون! كل هذه السيناريوهات الخيالية هي وسائلهم لتحقيق التغيير.

ان هذه الرؤى والتطلعات بالنسبة لكل القوى التي تمتلك شيئا من التأثير في اوساط معينة، او القوى الاصلاحية من شتى الاصناف، وحتى قوى المعارضة الفاقدة لأي مشروع يصب في مصلحة الجماهير ويمثل تطلعاتها، جميعها تشكل عقبة حقيقة في وجه تنظيم الجماهير، ودائما ما تخدم جميع هذه الاطراف مشروع السلطة بشكل مباشر او غير مباشر، مرة من خلال سلبيتها وعدم تدخلها واخرى بسبب تخبطها وغياب بديلها الجماهيري وثالثة وهي الاهم وقوفها بوجه التنظيم الفاعل لأية حركة احتجاجية ودفعها الى الامام، ورابعة من خلال سلب الغالبية العظمى من قوتها وقدرتها على التغيير وحصر أي تغيير بالنخب، وغيرها من الاسباب التي تعزل نفسها عن عامة الناس التواقة للتحرر والخلاص.

#جلال_الصباغ