في مواجهة املاءات المراكز الرأسمالية / البرتغال .. الحكومة تحقق تقدما اجتماعيا نسبيا


رشيد غويلب
الحوار المتمدن - العدد: 5416 - 2017 / 1 / 29 - 00:08
المحور: اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم     

اندلعت الأزمة المالية في البرتغال في عام 2007، وتركت في البلاد اثارا عميقة. وعمدت الحكومة اليمينية حينها إلى إنقاذ البنوك المتعثرة عبر تخصيص مليارات اليوروات ،ونتيجة لذلك ارتفع عجز الدولة المالي من 3,8 في المائة الى 11 في المائة. بعدها اعتمدت الحكومة سياسة تقشف متطرفة قادت الى تراجع اقتصادي كبير وصعود هائل لمعدلات البطالة, وفي انتخابات تشرين الأول 2015 العامة خسر التحالف الحاكم المشكل من الحزب الديمقراطي الاجتماعي المحافظ وحزب الشعب القومي الكاثوليكي الأكثرية المطلقة التي كان يتمتع بها. وبعد شد وجذب بين الكتل البرلمانية، توصل الحزب الاشتراكي (وسط) الى اتفاق مع الحزب الشيوعي وحزب "كتلة اليسار" على تشكيل حكومة اقلية اشتراكية بزعامة اتونيو كوستا تحظى بدعم حزبي اليسار دون ان يشاركا فيها. وعلى الرغم من الاكثرية المحدودة التي تتمتع بها الحكومة، الا ان التعاون بين الأحزاب الثلاثة يسير حتى الآن بشكل جيد. وقد استطاعت الحكومة تمرير موازنتين بالضد من مواقف بيروقراطيي الاتحاد الأوربي.

ضغط الماني

لقد حاول وزير المالية الالماني شويبلة التدخل ضد توجهات الحكومة البرتغالية. وحاول في البداية ، دون نجاح يذكر، دفع المفوضية الأوربية إلى اقرار عقوبات ضد الحكومة التقدمية بحجة وجود عجز مفرط في موازنة البرتغال يتعدى الحدود الموضوعة من منطقة اليورو. بعدها حاول تجميد الدعم المقدم من الاتحاد الأوروبي، ودعم صندوق تمول الهيكلة. وكان لموقف مفوض الموازنة في الاتحاد الأوربي البلغارية كريستالينا غورغيفا دور في افشال مساعي الوزير الألماني. والسؤال الى متى تستطيع الحكومة البرتغالية الاعتماد على المساعدات القادمة من بروكسل؟ لاسيما ان غيورغيفا ستتولى منصبا في البنك الدولي وسيحل محلها الالماني وعضو حزب شويبلة الديمقراطي المسيحي غونتر اوتنغر.
وفي هذه الأثناء اصبح عمل الحكومة الجديدة منظورا، فمن المتوقع ان يشهد عام 2017 نموا اقتصاديا بنسبة 1,6 في المائة، وانخفاض معدل البطالة من 12,5 الى 10 في المائة. وفي قطاع الخدمات العام، واعيد العمل بنظام 35 ساعة عمل في الاسبوع. وهناك وعد برفع الحد الادنى للمعاش التقاعدي، خلال العام الحالي من 530 الى 557 يورو. واهداف الحكومة واحزاب اليسار الداعمة لها واضحة: تفعيل الطلب في السوق الداخلية، خفض معدل البطالة، والحد من العجز في موازنة الدولة.
ويعود الفضل في النمو الاقتصادي وانخفاض نسبة البطالة، اساسا الى الواردات المتحققة من قطاع السياحة. وتعتبر البرتغال من بين البلدان الأكثر استقبالا للسائحين، حيث بلغ عددهم 17 مليون سائح. والان بدأ تصاعد الطلب الداخلي. ويشكل قطاع الخدمات ثلثي الناتج الإجمالي المحلي، في حين تواجه الصادرات، وخصوصا الأنواع الجيدة للنبيذ منافسة عالمية قوية.
ولكن حالة العاملين في القطاع السياحي غير مستقرة. فبعض اصحاب المطاعم في المناطق السياحية في العاصمة، استطاعوا بالكاد الصمود في وجه الأزمة المالية - الاقتصادية. ويبدو سحر الازقة القديمة الضيقة والمتعرجة، وارضية البيوت المرسومة بشكل متقن خادعا. فالكثير من المحلات الصغيرة أقفلت في سنوات الأزمة الأولى ابوابها. والآن يأمل الكثيرون العودة ثانية، ويبقى الصراع من اجل البقاء صعبا. ويتركز السواح بشكل رئيس في المنطقة المحيطة بالعاصمة لشبونة والطرف الجنوبي من البلاد،المنطقة الساحلية. وفي الشتاء ينحسر مد السائحين، ولا احد يتنبأ بالكيفية التي سيتطور فيها القطاع السياحي، عندما تنتهي الأزمة في تركيا، ويصبح العنف والعمليات الارهابية في بلدان شمال افريقيا جزءا من الماضي. ولكن الثابت ان القطاع السياسي، حقق رغم سياسة التقشف ارباحا لافته.
وعلاوة على ذلك يزادا عدد الفنادق والبيوت الريفية العامة المدارة من قبل الأجانب. وتبقى الوظائف الصغيرة في قطاع الخدمات للبرتغاليين، ولا تقدم قروضا للسكان المحليين لإقامة مشاريعهم الخاصة.
ويرتبط هذا الواقع بالصعوبات التي تواجه القطاع المصرفي البرتغالي. لقد استثمرت الدولة في العقد الماضي قرابة 14 مليار يورو من أموال الضرائب لإنقاذ العديد من المؤسسات المالية، وتم بيع العديد منها بأسعار منافسة إلى مستثمرين أجانب. والان تناضل الحكومة الحالية ضد بيع المزيد منها.
لقد تشابكت في السنوات المنصرمة العلاقة بين عالمي المال والسياسة، وجرى بواسطة التبرعات السخية تخدير الأحزاب المنتفذة، ولهذا كان من الصعب مراقبة الممارسات التجارية المشكوك فيها. ويقول فرانسيسكو لوكا المتحدث السابق لحزب كتلة اليسار: "لا يسمح الاتحاد الأوربي للدولة بان تصبح المصدر الوحيد لتوفير السيولة المالية اللازمة، ويريد خصخصة هذا المصدر المهم".

بلد المهاجرين

لم تتجاوز بعد البرتغال أزمتها. ولكن هناك أنباء عن نجاحات حكومية مثل إعلان شركة رينو الفرنسية لصناعة السيارات عن استثمار 100 مليون يورو لتحديث فرع الشركة في مدينة كاسيا البرتغالية. ولكن التأثيرات السلبية لفضيحة ما يعرف بـ " "جهاز خداع اختبارات انبعاثات العوادم" التي عانت منها شركة فولكس واكن الالمانية لصناعة السيارات ومعها فرع الشركة في مدينة باميلا البرتغالية، الذي يعتبر اكبر رب عمل في البلاد، ما زالت تفعل فعلها.
وانعكست تأثيرات الازمة في الهجرة الواسعة للشبيبة البرتغالية الى البلدان الصناعية الأوربية المتقدمة. وتحتضن فرنسا اكبر تجمع للمهاجرين البرتغاليين بلغ تعداده 1,1 مليون نسمة. واليوم يتوجه المهاجرون مجدد نحو المانيا.

انعدام فرص اليمين الشعبوي

إن غياب الآفاق بالنسبة لأوساط اجتماعية واسعة، الذي نتج عن اضرار ا الأزمة الاقتصادية المالية المستمرة منذ قرابة عقد من الزمن. ووجود اليمين المحافظ في البرلمان، ومشاركته في التحالف الحاكم السابق، لم يؤديا الى ظهور قوة يمنية شعبوية متطرفة . ويعود ذلك لكون البرتغال بالاساس بلد مهاجرين، والكثير من سكانه كانوا في الأصل من الغرباء. وعلى العكس من البلدان الأخرى لم تكن البرتغال محطة لقادمين جدد، اي لاوجود للاجئين يمكن لليمينيين الشعبويين جعلهم كبش فداء للوضع الاقتصادي السيئ.
وفي البلدان الغنية مثل ألمانيا يمكن لليمين القومي ان يطرح نفسه كمدافع عن "الرفاه الألماني" ضد المحتاجين سواء كانوا يونانيين، أم لاجئين من البلدان التي تعصف بها الحروب والأزمات. ان مثل شوفينية الرفاه هذه التي نجدها في بلدان اخرى في الاتحاد الأوربي تختفي في بلد فقير مثل البرتغال. ان حزب "التجديد القومي" هو الحزب اليميني المتطرف الوحيد في البرتغال المعادي للسامية والنساء، والمسلمين، عديم التأثير منذ الثمانينات، ويحصل في الانتخابات على اقل من 1 في المائة.
ان الاستياء من الفساد، وسياسات التقشف واقتصاد القرابة دفعت بالناخبين يسارا، حيث الحزب الشيوعي البرتغالي ذي التاريخ النضالي العريق، الذي استقطب العمال الغاضبين ، وحزب كتلة اليسار الماركسي المنفتح على الوسط الثقافي، اللذين حصلا سوية على قرابة 20 في المائة من اصوات الناخبين.
وبالتأكيد كان للارث النضالي لليسار، والمحطات المهمة في تاريخ البلاد القريب كثورة القرنفل في نيسان 1974 التي انهت دكتاتورية سالازار البغيضة، والغضب على سياسات الأحزاب المتنفذة تاريخيا، والتطلع الى سياسة جديدة لإدارة البلاد، عوامل اضافية حققت هزيمة اليمين، فضلا عن التحول في سياسة الحزب الاشتراكي، الذي فضل دعما مرنا من قوى اليسار على التحالف مع اليمين ، للبدء بتنفيذ سياسة بديلة.