بعد سحب دعوتها.. نانسي فريزر: ما حدث وقاحة صارخة


رشيد غويلب
الحوار المتمدن - العدد: 7946 - 2024 / 4 / 13 - 00:47
المحور: اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم     

بعد ان سحبت جامعة كولونيا الألمانية دعوةً وجهتها قبل عامين إلى المفكّرة والفيلسوفة الماركسية الأميركيّة اليهودية نانسي فريزر، كأستاذة زائرة، لتولي أستاذية مقعد ألبرتوس ماغنوس (فيلسوف وأسقف الماني، 1200 – 1280) لعام 2024، والذي يعد منصبا مرموقا وتشريفا، بعد توقيعها على رسالة مفتوحة نُشرت في تشرين الثاني بعنوان "فلسفة من أجل فلسطين"، إلى جانب العشرات من اساتذة الفلسفة في العالم. والرسالة شككت بوجود إسرائيل كدولة "عنصرية عرقية"، ودعا الموقعون على الرسالة إلى مقاطعة إسرائيل أكاديميا وثقافيا.

وقد أحدث قرار الجامعة الألمانية ضجة عالميا في الوسط الأكاديمي، ناهيك عن عموم الأوساط السياسية والثقافية. يذكر ان فريزر رفضت محاولات الجامعة لدفعها لسحب توقيعها والتنازل عن موقفها.

في التاسع من نيسان الجاري، نشرت جريدة "فرنكفورتر روندشاو" الليبرالية الألمانية واسعة الانتشار حوار مع الفيلسوفة الماركسية عن الحدث وتداعياته نقدم فيما يلي عرضا لأهم ما ورد فيه.

من هي نانسي فريزر؟
ولدت الفيلسوفة الأمريكيّة الماركسية نانسي فريزر في 20 أيار 1947 بمدينة البالتيمور من ولاية ميريلاند في الولايات المتحدة. وتعدّ من أهم فلاسفة الجيل الثالث لمدرسة فرانكفورت النقدية. حصّلت على شهادة الماجستير والدكتوراه في الفلسفة من جامعة نيويورك. ودرّست في جامعات عدّة مثل جامعة جورجيا وجامعة ستانفورد وجامعة نورث ويسترن. في 1995 التحقت بالكلّيّة الجديدة للأبحاث الاجتماعية في نيويورك، أستاذةً للفلسفة والعلوم السياسيّة، فحظيت بشهرة أهّلتها لتكون محل ترحاب في عديد من الجامعات الأوروبيّة، حيث تمت دعوتها كأستاذة زائرة في هولندا وفرنسا وألمانيا.
تصّر فريزر حتى اليوم، على أن تحليل جوهر الرأسمالية هو المعيار المركزي للتحليل الذي يرينا واقعنا الاجتماعي والسياسي والاقتصادي. وقد منحها هذا مكانة خاصة في النظرية النقدية. ولها العديد من المؤلفات، بالإضافة إلى العديد من التحليلات المؤثرة في الفلسفة السياسية والنظرية النقدية والنسوية. وقد انصب اهتمامها في الآونة الأخيرة على التشابكات بين "العرق" والطبقة والجنس.
في مقابلة مع جريدة "نويز دويجلاند" (المانيا الجديدة) التابعة لحزب اليسار الالماني، نشرت في 9 نيسان، تروي الفيلسوفة الماركسية نانسي فريزر سبب التزامها باليسار:
مباشرة بعد حرب حزيران 1967، أمضيت نحو ستة أشهر في أحد الكيبوتسات في اسرائيل. تلبية لنداء للتطوع والمساعدة في الحصاد. اعتقدت أن الكيبوتس له علاقة بالاشتراكية، لكن خاب أملي بسرعة ، لأنني واجهت عنصرية معادية للعرب تشبه إلى حد كبير العنصرية ضد السود في الولايات المتحدة. لقد كانت هناك قرية عربية مقابل الكيبوتس، في الجانب الآخر من الشارع، ولم يُسمح للأطفال العرب باستخدام مسبح الكيبوتس. وقلت في نفسي : "يا إلهي، الشيء نفسه مرة أخرى؟" عندما عدت إلى الولايات المتحدة، انغمرت في الالتزامات السياسية لليسار الجديد بتنوعها المتعدد.

إلغاء الدعوة
الدعوة المسحوبة تتعلق بزيارة لعدة أيام ومحاضرات عامة كجزء من برنامج مخصص للتبادل المفتوح. وكانت المحاضرات ستتناول مشروع كتاب فريزر حول الجوانب الثلاثة للعمل في المجتمع الرأسمالي، وهو موضوع لا علاقة له مباشرة بإسرائيل أو فلسطين. وتقول فريزر انها بذلت الكثير من الجهد في كتابة هذه المحاضرات. وأنها، اشتريت أيضًا تذكرة طائرة باهظة الثمن.

في البدء تلقت فريزر رسالة من البروفيسور أندرياس شبير، المسؤول عن تنظيم الاستضافة. أشار فيها عن قلق يساور رئيس جامعة كولونيا، بسبب التوقيع على الرسالة المفتوحة” الفلسفة من أجل فلسطين"، مع مطالبة بتوضيح الموقف. تقول فريزر: " قلت لنفسي يا لها من وقاحة! ما شأنه برأيي حول ما يدور في الشرق الاوسط؟ أنا أستاذة حرة، يمكنني التوقيع على ما أريد". وفي الوقت نفسه لم تسع للمواجهة الفورية. لهذا اكدت في ردها على وجود وجهات النظر مختلفة حول فلسطين وإسرائيل، وهناك الكثير من الألم لدى جميع الأطراف، بما في ذلك الألم الذي عاشته كيهودية.

واقتبست في ردها مقولة لرئيس الجامعة بشأن أهمية المناقشة المفتوحة والمحترمة. وطلبت من السيد شبير، طمأنة رئيس الجامعة بإجراء مناقشة مفتوحة ومحترمة. وبعد وقت قصير رد رئيس الجامعة، بأن ليس لديه خيار سوى سحب الدعوة. بسبب عدم تراجعها وتأكيد موقفها.

لقد عرض رئيس الجامعة إجراء مكالمة هاتفية أو مكالمة عبر دائرة تلفزيونية لشرح موقفه بالتفصيل، ولم يتلق ردا. لان نانسي فريزر ترى ان هذه المسألة عامة، ويستطيع جميع المعنيين تناولها علناً. وهناك توضيح على موقع جامعة كولونيا، تصفه فريزر بالضبابي، يشير إلى انتهاك واضح لسياسة الجامعة المعلنة والقيم المرتبطة باسم ألبرتوس ماغنوس. وهذه القيم، وفق فريزر، هي الحرية الأكاديمية وحرية الرأي وحرية التعبير والمناقشة المفتوحة. وترى فريزر أيضا ان حجج رئاسة الجامعة جوفاء. وان ما حدث يمثل رسالة قوية جدًا إلى العلماء في جميع أنحاء العالم: إذا تجرأت على التعبير عن وجهات نظر معينة حول بعض القضايا السياسية، فانت غير مرحب بك في ألمانيا.

ولا تستبعد الاكاديمية الماركسية اللجوء للقضاء، لكنها تقول أيضا ان هذا لا يمثل أولوية بالنسبة لها، الأولوية بالنسبة لها، اقناع الناس بأن ما حدث، وفق كثيرين، مثال صارخ للتوجه السائد في المانيا. وان المسؤولين في الجامعات والمؤسسات الفنية الألمانية وفي الحكومة الألمانية الذين يوافقون على شيء كهذا ينتهكون المعايير الأكاديمية والدستورية المتعلقة بالحرية السياسية. وسيسبب هذا ضررًا كبيرًا للعلوم الألمانية.

حالة ليست جديدة
إن ما تعرضت له نانسي فريزر ليس جديدا، فمنذ السابع من تشرين الاول تعرض العديد من الشخصيات العلمية والثقافية والفنية، والكثير منهم من اليهود المقيمين في المانيا إلى القمع والمضايقة، بسبب نقدهم لممارسة الابادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني، ويمكن الاشارة إلى: ماشا غيسن، غسان الحاج، ويوديت باتلر، وآخرين.

تؤكد نانسي فريزر ان هذا لا يثير قلقا شخصيا، فهي تعيش في نيويورك وتحظى بالكثير من الدعم، مشيرة إلى رسالة قوية جدًا من رئيسة جامعتها، "المدرسة الجديدة"، دونا شلالا. تبدأ الرسالة بالعبارة الرائعة: "كان ألبرتوس ماغنوس سيشعر بالرعب!"، ومن المثير للقلق بشكل خاص أن تقوم مؤسسة ألمانية بإلغاء دعوة عضو هيئة تدريس في جامعة "المدرسة الجديدة"، التي انقذت العلماء الألمان الفارين من الفاشية حينها، ووفرت لهم مساحة لاستمرار التفكير النقدي الذي منعته المانيا النازية. بالإضافة إلى ذلك ساهمت جامعة” المدرسة الجديدة" في تطوير ما يسمى الآن النظرية النقدية، وهو ما تقوم به نانسي فريزر أيضا. ان ما حدث في كولونيا يمثل إهانة للمدرسة الجديدة ولنانسي فريزر، والأهم من ذلك: انتهاك لمعايير الحرية الأكاديمية.

خطورة ما حدث
إن خطورة ما حدث تكمن في كونه يمثل اتجاها سائدا في المانيا وبدرجة أقل في النمسا. وهذا تطور ضار للغاية. سيكون من المهم أن يبدأ الألمان في التعامل مع تعقيد واتساع اليهودية وتاريخها ومنظورها. لكنهم ملتزمون بفكرة التعهد غير المشروط بالولاء لإسرائيل كتعبير عن التكفير والمسؤولية التاريخية. وارتباطا بما تفعله إسرائيل الآن، فإن هذا التعهد يعد خيانة لبعض أهم جوانب اليهودية كتاريخ ومنظور. ونانسي فريزر تتحدث عن يهودية موسى بن ميمون وسبينوزا وسيغموند فرويد وهاينريش هاينه وإرنست بلوخ.

تؤكد هنا نانسي فريزر، هذا التقليد اليهودي لا يختزل اليهودية في القومية، وبالتأكيد ليس بالقومية المتطرفة التي تدمر قطاع غزة حاليا. وأنها وقعت للتو على رسالة جديدة تتعلق بـ "قتل المدارس" الإسرائيلي أي التدمير استنادا إلى استهداف منهجي للمدارس والجامعات في غزة قُتل أكثر من 100 أستاذ، و9 رؤساء جامعات، وتشدد مجددا انها ليس نادمة على موقفها. والشخصيات اليهودية التي مر ذكرها فيما سبق تمثل بالنسبة لها عينة صغيرة، حفزتهم يهوديتهم على الدفاع عن الحقوق الكونية، وليس عن الهوية القبلية الضيقة.

المصلحة الوطنية واليمين المتطرف

يقول ماشا غيسن في صحيفة نيويوركر بأن التفسير الخاص لـ "المصلحة الوطنية" الألماني ساعد المتطرفين اليمينيين مثل حزب البديل من أجل ألمانيا على اكتساب الزخم في السنوات الأخيرة. لا تريد نانسي فريزر التعليق بشأن حزب "البديل من اجل المانيا " اليميني المتطرف، اما في الولايات المتحدة الامريكية، فتشير فريزر إلى ان اليمين المسيحي لديه تصوره الخاص عن "المكارثية المحبة للسامية"، كما تقول سوزان نيمان. إن تصورهم الخاص هو بحد ذاته شديد العداء للسامية. وما يقلقها بشأن المانيا، ليس حزب البديل من أجل ألمانيا، بل هذا النوع من المركزية اليمينية، التي تكمن في الثقل الحقيقي للرأي العام. وسهولة تأثره بالحجج الوهمية، كالحجة القائلة بأنه لم ينتهك أحد حريتها الأكاديمية.

اليهود وتدمير غزة

يجري استخدام الاتهام بمعاداة السامية في سياق النقاش بشأن إسرائيل وفلسطين، كسلاح ضد الذين يدينون النهج الحالي للحكومة الإسرائيلية ويدعون إلى تصحيح المسار من أجل تحسين وضع الفلسطينيين، وكذلك وضع اليهود في كل مكان.

لقد أصدر البرلمان الالماني قرارا اعتبر فيه مقاطعة المؤسسات الإسرائيلية معاداة للسامية. عبر اسقاط خاطئ تتباه اوساط في المجتمع الالماني ايضا، على المقاطعة اليهود الألمان خلال سنين الحكم النازي.

وترى نانسي فريزر ان هذا الربط مثير للاهتمام، مشيرة إلى عدم وجود دولة يهودية حينها تنفذ مذبحة عسكرية غير مشروعة. قد تكون جنوب أفريقيا مثالاً أفضل بكثير، حيث كانت هناك مقاطعات أكاديمية قوية، ومقاطعة رياضية، ومقاطعة ثقافية، والتي كان لها، إلى جانب المقاطعة الاقتصادية، بعض التأثير وأدت إلى نهاية الفصل العنصري. بالمناسبة: لم يقاطع الألمان اليهود خلال العهد النازي فقط، بل قتلوهم وطردوهم وأرسلوهم إلى معسكرات الاعتقال. لكن الوضع الآن مختلف جدا.

تضامن

لقد أعرب العديد من الأساتذة الألمان عن تضامنهم مع نانسي فريزر. فهل يمثل ذلك وجود إعادة تفكير في ألمانيا؟ تقول انها ليست قريبة بشكل يجعلها الحكم على ذلك، لكن لديها شعور ان التصعيد سيُكسر، ولا تحصر ذلك بما تعرضت له، ربما هناك حالات مقبلة، في الوقت نفسه، تؤكد على وجود قلق متزايد تتلمسه من الناس في نيويورك حيث تعيش.

تؤكد ناسي فيريزر أنها ستقدم المحاضرات المعدة، في بلدان أخرى، وفي المانيا ستقدمها في أماكن اخرى تحت عنوان: " ما لم يُسمح لك سماعه في كولونيا". ونشير إلى استغراب الأكاديميين والمثقفين ليس في المانيا فقط، بل في بلدان اخرى، بما في ذلك القدس. منذ اهتمام الاعلام بقضية ماشا غيسن في بريمن الألمانية على نطاق واسع. والآن المحاولة المتأخرة لسحب جائزة أدورنو من يوديث باتلر، تدور مناقشات كثيرة في عالم الفن والعلوم والصحافة في الولايات المتحدة. ويشعر الناس بالقلق والرعب والغضب أيضًا. لقد تفاعل الكثير من الفلسطينيين والعرب مع ما يحدث، ولكن أيضًا أصوات يهودية بارزة. وتقول نانسي فيزر:” من أنتم لكي تعلمونا، ا ماذا يعني دعم الشعب اليهودي؟

وتعتبر نانسي فريزر نفسها ضحية لمعاداة السامية، المكارثية المحبة للسامية، فسحب دعوتها حدثت باسم المسؤولية الألمانية عن المحرقة النازية. ويجب أن تشمل هذه المسؤولية ايضا الشعب اليهودي. لكن في ألمانيا يقتصر الأمر على دعم سياسة الدولة التي تنتهجها الحكومة الإسرائيلية حاليًا. وتلخص المكارثية المحبة للسامية القضية بشكل جيد، باعتبارها وسيلة لإسكات الناس بحجة دعم اليهود.

غزة وبايدن

تعتبر الولايات المتحدة والمانيا من اشد الداعمين لإسرائيل، لكن نانسي فريزر تعتبر الولايات المتحدة المذنب الاول، وعلى الرغم ذلك يجري الآن في الولايات المتحدة نقاش متوازن حول فلسطين، ولأول مرة تكون الأصوات الفلسطينية حاضرة في الرأي العام. وتتواجد منظمات فلسطينية، وكذلك منظمات يهودية يسارية تنتقد السياسة الإسرائيلية. ويتعرض بايدن لضغوط كبيرة. وقد بدأ الآن في اعتماد لهجة أكثر صرامة عندما يتعلق الأمر بشروط المساعدات العسكرية لإسرائيل. ولكن ما الذي سيعنيه هذا بالنسبة للمساعدات العسكرية؟، هل سيؤدي إلى تخفيضها او جعلها مشروطة؟ وما إذا كان الديمقراطيون سيحاولون فرض ذلك على إسرائيل. لقد أصبحت سياسة المساعدات العسكرية المفتوحة لإسرائيل مثار جدل شديد للغابة في الولايات المتحدة، وتتمنى نانسي فريزر تطور مماثل في ألمانيا أيضًا. اي أن تصبح القضية موضوعًا عامًا يمكن الجدل بشأنه دون الاتهام بمعاداة السامية. أو ان تسحب دعوة سابقة.