عندما ينتصر القضاء للشعب.. المحكمة العليا في بنما تلغي قانون التعدين المثير للجدل*


رشيد غويلب
الحوار المتمدن - العدد: 7908 - 2024 / 3 / 6 - 16:22
المحور: العولمة وتطورات العالم المعاصر     

في البداية لابد من تعريف مختصر جدا بالبلاد: بَنَمَا جمهورية برلمانية، تقع في جنوب أمريكا الوسطى. تبلغ مساحتها 78200 كلم مربع، يحدها من الشمال البحر الكاريبي والمحيط الأطلسي ومن الجنوب المحيط الهادئ ومن جهة الجنوب الشرقي كولومبيا ومن جهة الشمال الغربي كوستاريكا. تقع على جزء من اليابسة الذي يربط بين أمريكا الشمالية وأمريكا الجنوبية والذي يبلغ طوله 770 كلم على المحيط الأطلسي و417 كلم على المحيط الهادئ. ويبلغ عدد سكانها وفق احصاء 2021، 4,350 مليون نسمة. من أهم معالمها قناة بنما. لغة البلاد الرسمية الإسبانية وتستخدم اللغة الإنجليزية كلغة ثانية. عملتها بالبوا وتعادل دولار أمريكي. تمتاز بنما بموقع جغرافي استراتيجي. وتمتلك أكبر وأسرع اقتصاد من حيث النمو في منطقة أمريكا الوسطى.

في منتصف كانون الاول 1989، غزت الولايات المتحدة بنما، واستمر الغزو إلى أواخر كانون الثاني 1990، بعد أن رفض الجنرال اورتيغا الصديق القديم للولايات المتحدة إطاعة أوامرها وانتقل للتعاون مع الاتحاد السوفيتي وحلفائه في العالم. أطلقت الولايات المتحدة على الغزو اسم «عملية القضية العادلة»، وجاء الغزو بعد عشر سنوات من تصديق اتفاقيات توريخوس-كارتر لنقل ملكية قناة بنما من الولايات المتحدة إلى بنما بحلول الأول من كانون الثاني عام 2000. بعد الغزو، انحلت قوات الدفاع البنمية وأدى غييرمو إندارا قسم الرئاسة. كالعادة، بررت الولايات المتحدة الغزو بحماية أرواح المواطنين الأمريكيين في بنما، وأكثرهم من العاملين بالقواعد العسكرية الأمريكية. بلغ مجموعهم الكلي 35 ألف بين عسكري ومدني. وذكر بوش في بيانه أن نورييغا كان قد أعلن عن وجود حالة حرب بين الولايات المتحدة وبنما وأنه هدد حياة المواطنين الأمريكيين فيها. أضاف، الدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان في بنما، محاربة تجارة المخدرات وعمليات غسيل الاموال، والحفاظ على اتفاقية قناة بنما التي تمنح الولايات المتحدة «حق» التدخل العسكري.

في الفترة من (نشرين الأول – كانون الأول 2023)، شهدت بنما أكبر احتجاجات على مستوى البلاد منذ الغزو الامريكي قبل 34 عامًا. وكان سبب اندلاع الغضب الشعبي إقرار قانون ينظم تعدين النحاس في أكبر مناجم التعدين في أمريكا الوسطى منجم” كوبري بنما». يقع المنجم المفتوح في غابة ذات تنوع بيولوجي كبير.

خلال عهد حكومة لورينتينو كورتيزو الحالية والتحالف الحاكم بين الحزب الديمقراطي الاجتماعي، الذي يتبنى في الواقع الليبرالية الجديدة والحزب الليبرالي القومي المحافظ، كانت هناك ثلاث موجات كبرى من الحراك الاجتماعي: طالبت الاحتجاجات الحاشدة في عام 2019 بتغيير الدستور. وكانت احتجاجات 2022، رافضة لارتفاع أسعار البنزين والسلع اليومية وانتشار الفساد، وكان لهذه الاحتجاجات تأثير قوي على النسيج الاجتماعي في بنما. ولكن موجة الاحتجاجات الأخيرة في عام 2023 تجاوزت حجم وتأثير سابقاتها. وجاءت الاحتجاجات الأخيرة بسبب اعتماد القانون 406، الذي منح شركة «منيرا بنما»، التابعة لشركة «فيرت كوانتوم الكندية للتعدين»، حقوقًا واسعة النطاق كجزء من امتياز التعدين، مثل إمكانية التوسع في مناطق إضافية أو الوصول إلى قاع البحر المتمتع بالحماية. بالإضافة إلى منع الطيران فوق موقع المنجم في منطقة دونوسو على ساحل المحيط الأطلسي.

وكان الإقرار السريع للقانون بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير. لقد نزل أكثر من 50 ألف بنمي إلى الشوارع للتظاهر دون توقف لأكثر من 40 يومًا. وكثيراً ما أغلقوا الشوارع، على الرغم من قمع الشرطة الشديد، باستخدام الغاز المسيل للدموع والقنابل الصوتية. بالإضافة شح المواد الغذائية الأساسية بسبب إغلاق الطرق.

أكثر من ألف معتقل
رأت أوساط من السكان والعديد المنظمات أن شل الحياة اليومية في البلاد هو الوسيلة الوحيدة لممارسة الضغط على حكومة لا تستمع لشعبها. وتمكنت منظمات مثل نقابة عمال البناء، جمعية المعلمين، حركات الفلاحين والسكان الأصليين والطلابية التي اجتمعت معًا في التحالف الشعبي المتحد من أجل الحياة، وتجمعات شبابية في وسائل التواصل الاجتماعي، من حشد أكبر انتفاضة في السنوات الأخيرة.

ووقعت خلال التظاهرات مواجهات بين المتظاهرين وكاسري الاحتجاجات، أسفرت عن مقتل أربعة متظاهرين. وفقد مصور عينه برصاصة أطلقتها الشرطة. وبحسب صحيفة لا برينسا اليومية، تم اعتقال أكثر من 1061 شخصا خلال التظاهرات، وفتحت قضايا جنائية ضد 175 منهم بتهمة التخريب.

بدأت الاحتجاجات ضد قانون التعدين في عام 2017، عندها رفضت المحكمة العليا في بنما عقد استغلال المنجم، الذي تم إقراره في عام 1997، باعتباره غير دستوري وكان يعود آنذاك إلى شركة «مينيرا بيتكولا». ولم يتم التفاوض على عقد جديد مع الحكومة حتى عام 2021، وخلال هذه السنوات واصلت شركة « مينيرا بنما» العمل بشكل غير قانوني دون عقد. ولم تدفع الشركة أية ضرائب او رسوم، بما في ذلك الإتاوات. ودخل العقد الجديد حيز التنفيذ في 20 تشرين الأول 2023 بعد أن رفضت الحكومة الاستماع إلى صوت الشعب خلال جولات التفاوض العديدة. وخلال يوم واحد فقط، أقر البرلمان القانون، وتم التوقيع عليه ونشره في الجريدة الرسمية. رغم ان العقد الجديد لم يختلف عن سابقه.

ولذر الرماد في العيون، أقر البرلمان حظرًا على امتيازات التعدين الجديدة في 3 تشرين الثاني، مع عدم تطبيقه بأثر رجعي، كما طالب المحتجون، لذلك لم يكن، للقانون 406 تأثير يذكر. وبعد عدة أسابيع من الضغط الشعبي، أعلنت المحكمة العليا أخيراً في 28 تشرين الثاني أن القانون 406 غير دستوري هو الآخر. وإنه ينتهك 25 مادة من دستور جمهورية بنما.

لقد ازداد غضب البنميين على قانون التعدين، لأن الوضع في البلاد لم يتحسن. بل على العكس من ذلك، أصبحت قضايا الفساد وانعدام الشفافية في السلطتين التنفيذية والتشريعية هي السائدة. وفي مقابلة مع عالم الاجتماع خيسوس أليمانسيا يقول: “من أجل فهم كيفية وقوع أحداث تشرين الأول والثاني 2023، لا بد من الاعتراف بوجود مستويين للصراع: عموما يعود الأمر إلى الآثار الاجتماعية للسياسة الاقتصادية لليبرالية الجديدة خلال الثلاثين عامًا الماضية. وعلى المستوى الآخر، سئم السكان قضايا الفساد المتسعة وهم غير راضين».

لقد كان قطاع التعدين يعاني من الفساد والظلم وعمليات الإفلات من العقاب. وكان إقرار قانون التعدين الذي عانى من نواقص في هذه القضايا على وجه التحديد بمثابة الشرارة التي اشعلت الفتيل. لقد وصل صبر البنميين إلى نهايته، بالإضافة إلى ان جزءًا كبيرًا من القوى الاقتصادية والسياسية في البلاد كانت مهتمًة بالتعدين، وتمكنوا من الحصول على مساحة واسعة في الإعلام.

عمل نائب الرئيس البنمي، غابرييل كاريزو خيان، قبل توليه منصبه الحكومي، محاميا لشركة التعدين «منيرا بيتاكويلا». ويمكن العثور أيضا في محيط وزير التجارة والصناعة السابق، ألفارو بويد على شبكة من نقابيين ومختلف المنظمات غير الحكومية القريبين من شركة «مينيرا بنما».

معطيات البنك الدولي
يعود هذا الربيع الاجتماعي البيئي الثوري إلى غضب السكان من الظلم المستمر في البلاد. وفقًا للبنك الدولي، يبلغ الناتج المحلي الإجمالي لبنما 63,61 مليار دولار أمريكي. وبنما واحد من أكثر البلدان التي تعاني من عدم المساواة في أمريكا اللاتينية: وفق معامل جيني لقياس عدم المساواة، بالنسبة لبنما، تبلغ القيمة 49، وفي عموم بلدان المنطقة 46 فقط. على الرغم من النمو الاقتصادي القوي، انخفض عدم المساواة في البلاد بشكل طفيف نسبيًا، وبلغت نسبته في عام 2007، 2.4 في المائة، بالمقابل يبلغ متوسط الانخفاض أمريكا اللاتينية 4.5 في المائة.

ويرى ألبرتو أغرزال من لجنة العدل والسلام التابعة للكنسية، سببا آخر لحجم الاحتجاجات “تعيش الأجيال الجديدة في المجتمع البنمي حالة صحوة. وبسبب ملف التعدين، نشأ الوعي بأهمية البيئة وحمايتها، ومدى أهمية تعبئة المجتمع» ويضيف «يرتبط هذا أيضًا بالنضج التي تخلقه مختلف المنظمات البيئية والحركات المجتمعية». ووفقا لدراسة أجراها المركز الدولي للدراسات السياسية والاجتماعية عام 2023، يعتقد اثنان من كل ثلاثة من المشاركين، أن البيئة أكثر أهمية من النمو الاقتصادي. وعلى الرغم من ذلك، لم تظهر هذه القضية في المناقشات البرلمانية قبل انطلاق الاحتجاجات في أواخر تشرين الأول. وقال الناشط رامون ريفيرا، من منطقة دونوسو لشبكة «أخبار أمريكا اللاتينية: «نحن لسنا عمال مناجم، نحن بلد حماية البيئة، يؤمن بالحفاظ عليها. ويعيش الناس في منطقتنا بطريقة سلمية متناغمة معها».

تؤكد المحاضرة الجامعية والصحفية المحلية كلوديا فيغيروا على جانب مهم آخر: انه «أكثر من مجرد وعي بيئي، إنه علاقة جذرية بالمنطقة، لأننا عانينا من مشكلة قناة بنما (استيلاء الولايات المتحدة الأمريكية على منطقة القناة- المحرر) شيء من هذا القبيل لا ينبغي أن يحصل مرة أخرى. لذلك أعتقد أن الأمر يتعلق أكثر بوعي تنامى بين السكان من خلال التعليم والثقافة».

نجاح غير عادي
لم تتوقع الحكومة وشركة التعدين مثل هذه الانتفاضة الاجتماعية الضخمة، وهذه التأثيرات الواضحة. لم يكن أحد يتخيل أنه في الساعة الرابعة من عصر يوم أحد ستكون الرسالة على وسائل التواصل الاجتماعي: “هل ستذهب إلى التظاهرة؟ دعنا نذهب!» ولا يزال الشعور بالانتصار في المعركة، ضد شركة عملاقة فوق قومية، منتشرا بين سكان البلاد. لقد كان النضال يجري في عدة جبهات: في الأحياء الحضرية، وفي مناطق السكان الأصليين، وعند حواجز الطرق، وفي العديد من الأماكن، وفي النقابات وغيرها من القطاعات المنظمة في المجتمع. وحتى مصايد الأسماك ورجال القوارب في دونوسو ناضلوا جنبًا إلى جنب: بجهد كبير، ومنعوا السفن من الاستمرار في التقاط النحاس والذهب المستخرج من المناجم المفتوحة في ميناء بونتا رينكون.

في 11 كانون الثاني الفائت، قام وفد من مختلف المنظمات الحكومية والمجتمع المدني بزيارة تفقدية إلى موقع المنجم بهدف ضمان إغلاق منظم وشفاف للمنجم المكشوف. لكن السكان يطالبون بالمشاركة المباشرة بمجموعات العمل التي تقوم بهذه الزيارات. ووفقاً لماريو ألمانزا، أحد المتحدثين باسم « التحالف الشعبي المتحد من أجل الحياة»، فإن الزيارة التفقدية كشفت عن وقاحة، فلا توجد اتفاقيات، ولا حتى جدول زمني للعمل.

من ناحية أخرى، هناك هدوء ظاهري في الأسابيع الأولى من هذا العام. وهي إشارة للمرشحين السياسيين الذين سيخوضون الانتخابات الرئاسية في الخامس من أيار المقبل. ينبغي عليهم التركيز على الاستماع إلى السكان ومطالبتهم بظروف معيشية أفضل وأخذ شكاواهم واستعدادهم للتعبئة على محمل الجد، فهم في بداية عملية لا رجوع فيها، تتطلب عملية نضج وتنظيم وتأهيل عميقين لكافة قطاعات المجتمع. وان ما يجري ليس مجرد نجاح. إنه انتصار الشعب من الأسفل: العمال وسكان الريف والسكان الأصليين والشباب والطلاب ضد استخراج المعادن في المناجم المفتوحة في بنما.

ــــــــــــــــــ

*- اعدت المادة عن مقالة بقلم: كارلوس إسكوديرو نونيز. نشرت في 14 شباط في موقع «اخبار أمريكا اللاتينية» الألماني.