صفحات من تاريخ الحركة الشيوعية الإيطالية


رشيد غويلب
الحوار المتمدن - العدد: 7943 - 2024 / 4 / 10 - 20:48
المحور: اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم     

إ
بدعوة من الحزب الشيوعي النمساوي زارت لوسيانا كاستيلينا فيينا، وخلال زيارتها قدمت العديد من الفعاليات، حاورها موقع الشيوعي النمساوي حول صفحات من تاريخ الحركة الشيوعية في إيطاليا وأسئلة أخرى. وقبل عرض أهم ما جاء في الحوار المنشور في الموقع بتاريخ 28 شباط 2024، لابد من تعريف مختصر بشخصها.

لوسيانا كاستيلينا
ولدت لوسيانا كاستيلينا عام 1929 في عهد فاشية موسولوني، وانضمت إلى الحزب الشيوعي الإيطالي بعد وقت قصير من تحرير إيطاليا، وسرعان ما أصبحت مسؤولة في رابطة الشبيبة الشيوعية. وهي محامية مدربة، عملت أيضًا صحفية، وشاركت في القسم النسوي في الحزب وأصبحت فيما بعد عضوًا في المجلس التنفيذي للاتحاد النسوي، الذي كان منظمة ديمقراطية غير حزبية.

وخلال مسيرتها المهنية كانت أيضًا عضوا في البرلمان الإيطالي لثلاث دورات وعضوا في البرلمان الأوروبي لمدة عشرين عاما. وانتقدت هي ورفاق آخرون علنا مسار الحزب الشيوعي الإيطالي في أواخر الستينيات وأسسوا منصة ومجلة «منفستو» الشيوعية، تم طردها من الحزب مع روسانا روساندا ولوسيو ماغري وآخرين. ولم تعد إلى صفوف الحزب الشيوعي الإيطالي إلا في عام 1984 بدعوة من زعيم الحزب حينها إنريكو بيرلينغوير. وخلال سنواتها الـ 94، شهدت لوسيانا كاستيلينا صعود الحزب الشيوعي الإيطالي، ليصبح أقوى حزب شيوعي في أوروبا الغربية، لكنها شهدت أيضًا نهايته المأساوية وتفككه.

بدأت علاقة لوسيانا بالحزب بعد أيام قليلة من تحرير إيطاليا (25 أبريل 1945)، في تظاهرة من أجل الحرية. كان المكان مليئًا بالعمال، وتأثرت بكلمة ألقيت في التظاهرة شكلت قناعاتها الأولى. ودار الحديث عن الجرائم التي ارتكبها الفاشيون ضد أنصار تيتو في يوغوسلافيا. بعدها اقتنت جريدة الحزب، والتقت في المدرسة بأحد أعضائه الذي دعاها لحضور النشاط الثقافي في الحزب.

حزب جماهيري
منذ عام 1954 وحتى الانتخابات البرلمانية عام 1987، كان الحزب الشيوعي دائمًا ثاني أقوى حزب، وعادةً ما كان متقدما بفارق كبير عن الحزب الاشتراكي. وبالتالي كان الشيوعي الإيطالي حزبا جماهيريا، بلغ متوسط قوته التصويتية 27 في المائة من أصوات الناخبين. ولتفسير ذلك يمكن الاستشهاد بجان بول سارتر، الذي قال ذات مرة: «لقد فهمت أخيراً ما هو الحزب الشيوعي الإيطالي: إنه إيطاليا!». وهذا يصف الأمر على نحو ملائم: لقد ولدت الشيوعية الإيطالية حقا من داخل المجتمع وحافظت دائما على قربها من السكان. وشعر الناس أن هذه الحركة متجذرة بقوة في عاداتهم، وفي ثقافتهم، وبالمقابل طور الحزب حسه تجاه الحركات. بعد عام 1945، أدرك الحزب أنه لا يوجد وضع ثوري وأنه يجب بناء الديمقراطية. لقد وضع سياساته على هذا الأساس، ووصلت عضوية الحزب في فترة الصعود إلى قرابة مليوني مناضل.

سنوات استثنائية
منذ عام 1968 فصاعدا، شهدت إيطاليا موجة من الحركات العمالية المتشددة: من الثورات الطلابية إلى النزاعات العمالية إلى العنف اليساري. وما يسمى بالسنوات الرصاصية من الكفاح المسلح. وعند تقييم ما حدث من الضروري الإشارة إلى الخطأ في ربط عام 1968 بالجنس والمخدرات وموسيقى الروك أند رول. لقد نشأت في إيطاليا حينها ثورة مناهضة للاستبداد، وكانت مناهضة للرأسمالية بشكل واضح ومرتبطة بقوة بالنضالات العمالية في المصانع. لقد اتخذت التطورات بعد ذلك مسارين: تراجع البعض إلى الفردية، وحمل آخرون السلاح. لقد ظنوا أن الثورة ستكون ممكنة غدًا. وعلى النقيض من الحزب الشيوعي، الذي كان يرى في المتطرفين اليساريين مجرد عملاء لمراكز في الخارج، مثل وكالة المخابرات المركزية، أخذ مؤسسو جريدة «منفستو» هذه الجماعات على محمل الجد. وأدركوا أن عمليات الكفاح المسلح كانت بمثابة رد فعل من جانب الحركة، وإن كان رد الفعل هذا، خاطئًا للغاية، وكان من الضروري خوض نضال سياسي ضده، لأنه تسبب في ضرر دائم للحركة العمالية.

إنريكو بيرلينغوير
يعتبر سكرتير الحزب الشيوعي الإيطالي الأسبق كان إنريكو بيرلينغوير، من الشخصيات البارزة في تاريخ الحزب الشيوعي الإيطالي. وكان قد قاد الحزب الشيوعي من عام 1972 إلى عام 1984. ويعتبر أيضًا أبرز ممثلي بالشيوعية الأوروبية. لقد كان بيرلينغير هو من أعاد مجموعة «منفستو» إلى صفوف الحزب. بعد أن لاحظ أن الجناح اليميني يكتسب نفوذاً وبالتالي أراد إعادة بناء اليسار. وكان وراء سياسة السلام المبنية على موقف أوربي مستقل بعيدا عن الكتلتين، الذي طرحته حركة السلام التي كانت قوية جدا في ذلك الوقت. وهنا جسد مطالب الحركة المناهضة للحرب وأطلق عليها اسم «الطريق الثالث». وفي عهده تم تبني «التسوية التاريخية»، أي التقارب مع الديمقراطيين المسيحيين. وأدرك لاحقًا خطأ هذا المسار. وكانت لديه شجاعة الاعتراف بالخطأ. وكان بيرلينغير أيضاً أول من فهم أزمة الديمقراطية الإيطالية وأطلق عليها هذه التسمية، وهي الأزمة التي لا تزال مستمرة حتى اليوم. وإنريكو بيرلينغير هو من فتح الحزب للحركات الاجتماعية، وخاصة الحركة النسوية.

الهوية الشيوعية
يعد الحزب الشيوعي الإيطالي مثالا جيدا للحزب العظيم بسبب الدور الذي لعبه في التاريخ الإيطالي. لقد كان قوة دافعة للتنمية في المجتمع، كما في السياسة. وهنا تعلم الناس أن يصبحوا أبطال تنمية، وموضوعات للسياسة والتغيير. عندما يطلق المرء على نفسه توصيف شيوعي في إيطاليا يرتبط بالحركة الشيوعية الإيطالية، التي تشمل الشيوعية الأرثوذكسية وغير الأرثوذكسية. وبالتخلي عن الاسم، يكون الحزب الشيوعي الإيطالي قد انتحر: فهو لم يغير اسمه فقط، بل تغير الكثير، لقد تخلوا عن جوهر سياساتهم بالكامل لقد ترك هذا القرار صدمة حقيقية: فقد صمت 400 ألف من أعضاء الحزب واختفوا من المسرح السياسي. وأول عمل للحزب الوريث «حزب اليسار الديمقراطي» الذي خرج منه الحزب الديمقراطي فيما بعد؛ تمت الموافقة على العملية العسكرية الإيطالية في العراق على الفور (حرب الخليج الثانية 1991). وكان حل الحزب الشيوعي، الذي صوتت مجموعة «منفستو» ضده، كان بمثابة كارثة تاريخية.

ارتبط حل الحزب الشيوعي الايطالي بتفكك الاتحاد السوفيتي وبلدان المنظومة الاشتراكية، وكان القرار تحت ضغط الإحباط الذي ساد الحركة الشيوعية حينها، والذي لا زال أغلب أحزابها يعاني منه. لقد خلف الحل حالة الضياع التي مر ذكرها، وتحول الحزب الديمقراطي، التنظيم الأكبر من التنظيمات التي خلفت الحزب الشيوعي الأم إلى حزب ديمقراطي اجتماعي يتبنى في الغالب سياسات يمينية. أما التنظيمات الشيوعية التي خلفت الحزب الأم والتي يعتبر «حزب اعادة التأسيس الشيوعي»، إلى جانب «الحزب الشيوعي الايطالي»، و «حزب الشيوعيين الايطاليين» وتنظيمات أخرى أصغر، فقد عانت من سلسلة من الانشقاقات، ولم تنجح في تقديم بديل يساري، وأصبحت جميعها خارج البرلمان. ويمكن القول إن عملية حل الحزب الشيوعي الايطالي الأم هي الأفشل في تجارب الأحزاب الشيوعية التي كانت ذات تأثير كبير قبل اختفاء المنظومة الاشتراكية في أوربا.

التحالفات
كان بإمكان الشيوعيين في إيطاليا أن يحققوا نجاحات كبيرة من موقعهم كحزب معارض. ولكن عندما دعموا حكومات شبه ائتلافية في البرلمان تكبدوا خسارات، سواء كان الحزب الشيوعي الايطالي، او لاحقا حزب إعادة التأسيس الشيوعي، أحد التنظيمات التي خلفت الحزب الأم بعد حله. وهذا لا يعني رفض التحالفات الحكومية عموما. ولكن ليس بأي ثمن؛ بل أن الأمر يعتمد إلى حد كبير على الطبيعة المحددة للائتلاف. وخصوصا في الحكومات المحلية، حيث يمكن اكتساب تجارب سياسية جديدة. وهذا يسمح ببناء ما أسماه غرامشي «القلاع»، وهي قواعد محصنة في المجتمع يمكن من خلالها بناء السلطة وتحقيق الهيمنة. لذلك، فأن نجاحات وتجارب الحزب الشيوعي النمساوي في مدينة «غراتس» مهمة للغاية.

تجري الاشارة إلى نجاحات الحزب الشيوعي النمساوي، في السنوات القليلة الماضية، في الانتخابات المحلية وانتخابات الولايات الاتحادية. لقد توج الحزب سلسلة نجاحاته في مدينة غراتس، ثاني أكبر مدن النمسا، عاصمة ولاية ستيريا، بحصوله في انتخابات ايلول 2021 على 29 في المائة من اصوات الناخبين، بزيادة قدرها 8 في المائة مقارنة بالانتخابات التي سبقتها. وانتخبت القيادية الشيوعية الكا كار عمدة للمدينة، خلفا للعمدة السابق من اليمين المحافظ. وكان ذلك نجاحا تاريخيا، شكل مفاجأة للجميع.

وفي ولاية سالزبورغ، حقّق التحالف “الحزب الشيوعي النمساوي+” في انتخابات الولاية في نيسان 2023، أكثر من 11 في المائة وهي أفضل نتيجة حققها الحزب على الإطلاق في انتخابات مجالس الولايات والمجالس البلدية. وفي عاصمة الولاية أصبح الحزب القوة الثانية بعد حزب الشعب المحافظ، بالإضافة إلى تعزيز نسبي للقوة التصويتية في مدن وولايات أخرى. وبعد هذا النجاح الاستثنائي، منحت استطلاعات الرأي الحزب، في حال إجراء انتخابات برلمانية عامة، 7 في المائة، ما يعني أن الشيوعيين النمساويين سيعودون في انتخابات خريف 2024، إلى البرلمان الاتحادي، بعد آن غادروه في أجواء صعود الحرب الباردة في عام 1949.

تجربة طويلة
بعد 77 عاما من العمل في الحركة الشيوعية الإيطالية، ترى لوسيانا كاستيلينا، إن وضع اليسار في جميع أنحاء العالم لا يبدو جيدًا. وأن الشيء الأكثر أهمية بالنسبة للأحزاب اليسارية والشيوعية اليوم هو الاعتراف بالأزمة الخطيرة التي تمر بها الرأسمالية. واليسار في نقطة تحول تاريخية. لا يمكنك العودة إلى زمن التسوية الديمقراطية الاجتماعية والشراكة الاجتماعية. وكذلك فأن الرأسمالية التوسعية لا يمكن أن تستمر كما هي، لأنها تدمر أسس البيئة. خلاصة القول: «علينا أن نصنع الثورة. علينا أن نناقش الشكل الذي ستتخذه. ولكن هناك أمر واحد مؤكد، هو الحاجة للقطيعة مع الاستمرارية. وعلينا أن ندرك: أننا وصلنا إلى نقطة دراماتيكية في التاريخ».