صباح حزمي الزهيري
الحوار المتمدن-العدد: 8569 - 2025 / 12 / 27 - 10:04
المحور:
الادب والفن
حَدَّثَ عيسى بنُ هشامٍ قال : كُنتُ بمدينةِ (( السلام )) , في زمنٍ عزَّ فيه المَقام , فبَينا أنا أطوفُ بأسواقِ الكَرْخ , وأتنسَّمُ شذى العطرِ من كلِّ فَخ , انتهيتُ إلى مَجلسٍ قد غَصَّ بالنُّجباء , وحُفَّ بالأدباء والشعراء , وفي صَدرِ المَجلسِ شيخٌ جَهبذ , لسانُه من لؤلؤٍ يُنبذ , يُقلّبُ دفاترَ القلوب , ويستخرجُ منها خفيَّ العيوب , يدعوه (( أبو عبد الله العباسي )) , فسمعتُه يقول : (( يا مَعشرَ العُشّاق , إنَّ الهوى لَذو طِباق , وإنَّ أعجبَ ما في السِّير, وما حكاهُ الرُّكبانُ في المَسير , هو ذلك النُّزوعُ الذي لا يُحدّ , والشَّوقُ الذي لا يُرَدّ , نحو (( الأختِ )) التي بانتْ , وللقلبِ استعانتْ , حتى جرى فيها المَثَل , ونَطقَ بها في البوادي الغَزل )) , ثمَّ تنهَّد تنهيدةً خَرقتِ الحِجاب , وقال : (( ألا تَرون لوعةَ هذا ( العراقيِّ ) الذي سحقَهُ الوجد , ولم يَجد في الحظ بُدّ , حينَ رأى الجمالَ يَمشي الهُوَينا , فتمنى لو أنَّ الأقدارَ كانت لغيرِ ما عَينا ؟ حيثُ يقول في بَليغِ شَجنه , وصادقِ وَهنه : (( أجت تمشي ويسترهه بختهه , مزيونة وتتباهه بختهه , يريت الباري جمعني بختهه , وعساهه من تموت تصير ليه )) .
قال عيسى بن هشام: فقمتُ إليهِ إجلالاً , وسألتُه استيضاحاً لا إغفالاً : (( يا سيدي , ما سرُّ هذا العَناد , في طلبِ (( الأختِ )) دونَ سائرِ العِباد ؟ فهل هو ضيقُ ذاتِ اليد , أم هو طَمَعٌ في الغَد؟ )) , فتبسَّم الشيخُ تبسُّمَ العارفِ بالسرائر, وقال : رويدَك يا بُني , فإنَّ النفسَ مَجبولةٌ على حُبِّ المَمنوع , والتَّوقِ إلى ما هو وراءَ السُّتوع , وإنَّ هذا البخت الذي ذكرهُ صاحبُ الأبوذية , هو ذاتُه القدر الذي عَبثَ بقلبِ الوليدِ بن يزيد, ذاك الخليفةُ الذي لَم يَنقُصْهُ الجمالُ ولا المال , ولكنَّ قلبهُ استعصى على المَنال , لقد كان الوليدُ يرى في (( زينب )) زوجتَه القريبة , لكنَّه يرى في (( سُليمى )) رُوحَه الغريبة , ففي كتاب (( الأغاني )) , لِأبي الفرجِ خَبَرٌ يَهتزُّ له الإيوان , والقصة باختصار أن الوليد كان متزوجاً من (( زينب (ابنة عمه هشام بن عبد الملك , ولكنه شغف حباً بأختها ((سليمى ) (وفي بعض المصادر سلمى , ويُقال إنه طلق زوجته طمعاً في الزواج من أختها , أو أنه كان يتغزل بها سراً وعلانية مما سبب له مشاكل مع عمه الخليفة , حيثُ كان الوليدُ يَنظرُ إلى سُليمى وهي تَميسُ كالغُصنِ الرَّطيب , فيتأفَّفُ من زينب وكأنها الموتُ القريب , فأنشدَ قوله الذي صارَ للدَّهرِ عُنواناً : (( يَا سَلْمُ مَا لِعَيْنَيْكِ وَمَالِي؟ أَرَقْتِ لِي بِالرَّانَةِ الخَوَالِي , إِنِّي أَرَى زَيْنَبَ كَالمَلالِ وَأَنْتِ يَا سَلْمُ عَلَى بَالِي )) .
ثم أطرقَ الشيخُ مليّاً وقال : تأملْ يا بُني هذا العَجب , العراقيُّ يَطلبُ الأختَ رَجاءً في بختِها , والوليدُ يَطلبُها فِراراً من أختِها , فصاحبُ الأبوذية يُريدُ الاستزادةَ من النُّور , والوليدُ يُريدُ الاستبدالَ بالسرور , وكِلاهما قد وَقعَ في شَرَكِ (( الجِناسِ )) , فالعراقيُّ جَانَسَ بينَ (البختِ) و (الأخت) , والوليدُ جَانَسَ بينَ (الوصالِ) و (الخيال) ,فالرابطُ بينهما ليسَ لُحمةَ القَرابة , بل هو (ظَمأُ الرُّوحِ) لِما لم تُدرِكْه النَّباهة , فكلُّ زينبٍ عندَ المُحبِّ مُملّة , وكلُّ سُليمى هي الغايةُ المُستقلّة , وما ذِكرُ الأخت إلا كنايةٌ عن (( الجمالِ الموازي )) الذي نراهُ ولا نَملكه , ونَلمسهُ ولا نُدركه )) , وقال عيسى بن هشام: فخَرَجتُ من المَجلسِ وأنا أُرددُ مع نفسي : (( للهِ دَرُّ القلوب , كيفَ تَتفقُ على الهوى رغمَ تباعدِ المَدى , وكيفَ يَظلُّ (البختُ) هو الحائل , و (الأختُ) هي المَطلبُ الغائبُ والماثِل )) .
أضاف عيسى بنُ هشامٍ : لَمَّا استوفيتُ من الشيخِ بَيانَه , ورأيتُ لؤلؤاً يَتساقطُ من لِسانه , قُلتُ له : يا زينَ العارِفين , وزينةَ السَّامرين , زِدني من أخبارِ هذا الخليفةِ الذي قَطَّعَ القلوبَ بوَصْفه , كما قَطَّعَ الأمانيَّ بخلفِه ,فاهتزَّ الشيخُ طرَباً , وانثنى عَجباً , وقال : (( يا بُني , إنَّ الوليدَ لم يكن مَحضَ عاشقٍ يَهيم , بل كان مِعماراً للجمالِ يَبني من اللفظِ النعيم , فلو رأيتَهُ وهو يصفُ (سُليمى) وقد أخذَ منها الوَجْدُ مأخذه , ورشقَتْهُ عيونُها بما لا مَهْرَبَ منه ولا مَأخذه , لرأيتَ العَجبَ العُجاب , لقد صوَّرَ لوعتَها بدموعٍ لا تُشبهُ الماء , بل هي جواهرُ الأرضِ ونجومُ السماء , حيثُ أنشدَ والقلبُ منهُ مَكلوم والدمعُ مَسجوم : بكت فَأَستمْطَرَتْ لُؤْلُؤاً مِنْ نَرْجِسٍ وَسَقَتْ وَرْداً وَعَضَّتْ عَلَى العُنَّابِ بِالبَرَدِ )) , فقال عيسى بن هشام : فشهقتُ من حُسنِ التشبيه , وقلتُ : (( للهِ دَرُّه , كيفَ حشدَ كلَّ هذا الجَمالِ في مَقام؟ )) .
فقال الشيخ : (( تأمل يا فتى هذه الصَّنعة , وانظر كيفَ رَبطَ بَينَ الدَّمعِ واللَّوعة , فقد جَعلَ (الدَّمع) لؤلؤاً , و(العين) نرجساً , و(الخدَّ) ورداً , و(الشفاه) عُناباً , و(الأسنان) بَرَداً , وهذا والقدرُ هو عينُ ما يَبتغيهِ صاحبُ الأبوذية حينَ قال (مزيونة وتتباهه بختهه) , فهو يرى في تلك المرأةِ جَمالاً يَستحقُّ أنْ يُباهيَ به البخت , ولكنَّ حَسرتَه تَقومُ حينَ يرى ذاك (اللؤلؤ) يَنهمرُ من (نرجسٍ) ليسَ له , و(ورداً) يُسقى لغيرِ ظمئه , فالوليدُ حينَ قال: ( وَأَنْتِ يَا سَلْمُ عَلَى بَالِي ) , كان يَرسمُ بكلماتِه صورةً تَعجزُ عنها الألوان , فكأنَّ سُليمى حينَ بكتْ , قد سَحرتِ الكون مَعهُ وسبتْ , ولو بكتْ تلكَ (المزيونة) صاحبةُ (البخت) لقالَ صاحبُ الأبوذية بلهجتِه الشجيّة : (( تِصبْ لولو من النَّرجس يَبختي , وتِسگي الورد لوعاتي ويَبختي , أنا المَسحور بختهه ويَبختي , عساها بْدال أختها اتصير ليّه )) .
ثم ختم الشيخُ قوله: يا عيسى بن هشام , إنَّ بَلاغةَ الوليد في (العُنابِ والبَرَد) هي ذاتُها حرارةُ الوجدِ في (الأبوذية) عندَ عتباتِ السَّرَد , فالعراقيُّ يَبحثُ عن (سترِ البخت) في جَمالِ الأخت , والوليدُ يَستنزلُ (مطرَ اللؤلؤ) ليُغرقَ فيه مَلالَ الوقت , وكِلاهما صريعُ جَمالٍ , قتيلُ دلال , فقال عيسى : فلَمّا استبنتُ من الشيخِ أسرارَ اللؤلؤِ والنرجس , ورأيتُ كأني في حانِ العشقِ أحتسي وأحتس , قُلتُ له : يا شيخ , لَقَد وصفتَ دمعَها فأسلْتَ عيونَنا , وذكرتَ عُنابَها فكويتَ شجونَنا , فهلْ وصَفَ الوليدُ طَلعتَها وهي مُقبلة , قبلَ أن تبيتَ بالدمعِ مُثقلة؟ فانتفض الشيخُ كأنما مسَّه الوجد , وقال : سألتَ عن الشمسِ في رابعةِ النهار , نعم يا بُني , لقد جَعلها الوليدُ آيةً لِلمتأملين , وعِبرةً لِلمتيمين , حينَ رآها تمشي بوقارِ الملوك , وتجتذبُ القلوبَ كالمغناطيسِ في السلوك , فأنشدَ يصفُ فَرادَتَها بينَ الغواني , سارقاً لُبَّ القوافي والمعاني : (( تَخَالُهَا كَوْكَباً فِي الجَوِّ مُنْفَرِداً لاَ تَهْتَدِي صُحْبَةٌ إِلَّا بِهِ فِي الدُّجَى )) .
ثم أردفَ الشيخُ قائلاً: تأمل يا فتى هذا الرَّبط العجيب , فصاحبُ الأبوذية بدأ كلامه بعبارة ( اجت تمشي ) ,وهي مِشيةُ الواثقِ المتبختر , الذي يَسحرُ العيونَ ولا يَتعثر, فكأنَّ هذه (المزيونة) التي (تتباهى بختهه) هي ذاتُها (الكوكبُ المنفرد) الذي ذكرهُ الوليد , فكلاهما يَمشيانِ في سترةِ الجمال , ويتركانِ الخَلْقَ في حيرةٍ وذهال , فالوليدُ يرى في (سُليمى) نوراً يُهتدى به في ظلماتِ النفسِ ومَلالِ الزوجات , وصاحبُ الأبوذية يرى في تلكَ الجميلةِ (بختَاً) يُستترُ به من نائباتِ الدهرِ والشتات , غيرَ أنَّ الشاعرَ العراقيَّ , بذكائهِ الفطريِّ وجناسهِ السحريِّ , أرادَ أن يختطفَ هذا (الكوكب) لنفسه , وأن يجعلهُ حلالاً لِأمسهِ ويومه , فقال: (( يريت الباري جمعني بختهه )) , فلو أنَّ الوليدَ سَمعهُ لقال : (صدقتَ يا أخَ العرب , فما زينبُ عندي إلا ليلٌ كمد , وما سُليمى إلا كوكبٌ مُنفرد ) .
ثم أنشدَ الشيخُ خاتماً مَقامته : (( كوكبٌ في السما يزهو بسِتره , ومِشيةُ الغُصنِ تجرحنا بكسره , أنا الراضي بظلمِ العشقِ وأسره , بشرطِ الأختِ تصبحُ لي هديّه )) , قال عيسى بن هشام: فاستعبرتُ من جودةِ المَقاصد , وعلمتُ أنَّ الوليدَ وصاحبَ الأبوذية نبعاً من مَعينٍ واحد , وإنْ فرَّقت بينهما القرونُ والوهاد , فقد جَمعهما التَّوقُ لِمَن بَعُدَ من السَّكنِ والبلاد , فودَّعتُ الشيخَ وأنا أقولُ في نَفْسي : (يا لَبراعةِ مَن نَظمَ الجُمان , وجمعَ بينَ الأغاني وأهلِ الزَّمان ) .
صباح الزهيري .
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟