صباح حزمي الزهيري
الحوار المتمدن-العدد: 8555 - 2025 / 12 / 13 - 09:10
المحور:
الادب والفن
(( اسمي آدم , وأنا الإنسان , الحب أسكرني في الوليمة الأزلية , وأنا الآن أرى العالم في نشوة سكرى , أنا ثمل في ملكوت الله , وسأبقى ثملاً فلا أصحو قبل يوم الحساب , منذ مولدي عشقت , وأقررت بسكري , حين فاض العقل الكوني وبأمره (كن) اندفع العالم سكران بنشوة الخلق )) .
احتفل الأذربيجانيون عام 1973 مع اليونسكو ومجلس السلم العالمي بذكرى مرور 600 عام على ميلاد عماد الدين نسيمي، وفي عام 1989 أهدت الحكومة الأذربيجانية مدينة حلب تمثالاً له , ووُضع في الجناح الإسلامي بالمدينة , كما أهدى الوفد إلى اتحاد الكتاب العرب ديوان نسيمي المطبوع بالتركية وديوانه المطبوع بالفارسية , وفي عام 2018 , أعلن الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف , في كلمته التي ألقاها في اجتماع مجلس الوزراء المكرّس لنتائج التنمية الاقتصادية الاجتماعية في باكو , أن عام 2019 , سيكون عام الشاعر الأذري عماد الدين نسيمي , حيث تحتفل أذربيجان بذكرى مرور 650 عاماً على ميلاد شاعرها في هذا العام.
عماد الدين نسيمي (1369–1417م) شاعر صوفي تركماني , يُعد من أعظم شعراء الأدب الأذري والتركي القديم , أحد أهم ممثلي المذهب الحروفي , ويُعدّ اليوم في تركيا وأذربيجان وإيران والعراق شهيداً ووليّاً , ونتيجة لهذه المكانة أحيطت شخصيته وحياته بهالة من الأساطير والحكايات , يُستدل من ديوانه باللغة التركية على أنه رجل عميق الثقافة والمعرفة على صعيد التصوف وعلوم القرآن والحديث النبوي , وكان من أتباع الطريقة الحروفية التي أسسها فضل الله الأسترابادي , وهي طريقة تؤمن بأن الحروف والأسماء الإلهية تجسيد للوجود الإلهي في الإنسان , وهي أفكار خُصِّص لها الاضطهاد في عصره , وكان شعرنسيمي مليئًا بالحب الإلهي , الفناء , والمعاني العرفانية العميقة , ومن أشهر أبياته : (( أنا الجسد والروح ولكن الجسد والروح لا يسعاني )) , قصائده أثّرت بعمق في الشعر الصوفي لقرون بعد موته , لكن جرأته الروحية , وحماسته للدفاع عن الحروفية , جعلته هدفًا للسلطات العثمانية والمملوكية والدينية في كل مكان ذهب إليه.
اعتنق النسيمي (( الحروفية )) وأصبح واحداً من دعاتها , وسافر لأجل ذلك إلى تبريز وبغداد فأقام فيهما مدّة , وقد تزوج ابنة أستاذه فضل الله النعيمي (( فاتحة الكتاب )) بوصية منه , وقد ترك باكو عام 1396 م , بعد إعدام أستاذه متجهاً إلى بلاد الروم , حيث لقي الإكرام من شعرائهم , فالتفوا حوله , وسحرهم بإشراق بيانه وروعة شعره , وما أظهره من تصوّف , غير أنه عندما بدأ التصريح بدعوته (( الحروفية )) , رأى العلماء أنها خروج على الإسلام , فثاروا ضده , ولاحقته السلطات العثمانية , وتعرض إلى السجن والتعذيب , ثم غادر الدولة العثمانية متجهاً إلى حلب.
تعمَّق عماد الدين نسيمي في دراسة الفلسفة و الأدب اليونانية الشرقية والقديمة والفلك والمنطق والرياضيات وتاريخ الأديان , وألمَّ بثقافة عصره وتاريخ من سبق , ومن أهم أساتذته الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي والحسين بن منصور الحلاج وجلال الدين الرومي وأستاذه المباشر فضل الله النعيمي الاسترابادي , وكان يجيد اللغة التركيّة والعربيّة والفارسيّة الى جانب لغة الام لهجة التركية الأذربيجانية , وقد كتب بهذه اللغات أشعاراً صوفيّة , واستطاع أن يبدع تحديداً في لغته الام الأذربيجانية التركية , وقد ترك اكثر من عشرة آلاف بيت شعري في مختلف الموضوعات , تتميز لغة قصائده الأذربيجانية بغناها وقربها من الخطاب الشعبي والأمثال والأقوال والحكم .
اعتبرالعلماء التقليديون أفكار الحروفية زندقة وكفرًا , خاصةً إيمانهم بأن الإنسان مرآة للحق الإلهي , واتهموهم بـ : (( نشر عقائد باطلة بين العامة , ادعاء حلول الذات الإلهية في الإنسان , التحريض على التمرد الروحي , إفساد عقيدة الشباب والشعراء )) , ورأوا شعرهم (( كفرًا صريحًا )) , و كان الحروفيون من أشدّ المعارضين السياسيين لتمورلنك , والتقى النسيمي بمؤسس الحروفية فضل الله النعيمي , ويعد النسيمي واحد من الشعراء العالميين الذين يرقون إلى منزلة الشاعر الكوني , له عالمه الخاص الذي يحملنا إليه بسحر البيان , وعالمه هو الإنسان , التزم بقضيته , وناضل من أجل حريته , وأعلى منزلته , ومن أجل ما دعا إليه قدم حياته ثمناً , يقول : (( وجه الإنسان أصبح الآن هو الحقيقة/ ما نحن لهذا الإنسان الجدير بالمعرفة )) , وبهذا يصبح الإنسان هو السلطة نفسها , وهو الطريق والغاية , وهو العاشق والمعشوق , يقول: (( عمل الله عجينة من الماء والتراب/ وصاغ منها الإنسان مرآة الكون )) , وسماه : سلطاناً , جمالاً , وزيراً , حبّاً عاشقاً , معشوقاً , واندمج الحبّ في الوحدة )) .
وصل إلى حلب بعد رحيل تيمورلنك عنها في عام 1401 م , ويبدو أنه قد أحدث تأثيراً حسناً في نفوس القائمين عليها , فاجتمع بتلامذته ومريديه , يشرح لهم أفكاره ويقرأ عليهم شيئاً من أشعاره , وأثار استمرار النسيمي في دعوته عليه بعض المتدينين , ولكن رغم التحذيرات التي تلقاها , إلا أنه استمر في دعوته وكثر أتباعه , ويروى أنّ أحد تلاميذه كان يتغنى بأشعار أستاذه في أحد أسواق حلب , وتمّ إلقاء القبض على هذا الشاب , وأثناء المحاكمة نسب الشعر إلى نفسه ليدرأ الخطر عن أستاذه , فحكم عليه بالإعدام , لكن النسيمي سارع وردّ الشعر إلى نفسه , وأحضر إلى دار العدل , وقد حضر الجلسة مجموعة من العلماء والفقهاء , وحضرها نائب حلب الأمير يشبك اليوسفي , واتهم النسيمي بالكفر والإلحاد والزندقة , لكن القضاة والعلماء والحاضرين , لم يوافقوا على الحكم بإعدامه , وقال نائب السلطان : (( أنا لا أقتله , وسأنتظر ما يرسم السلطان فيه )) .
وانفض المجلس , وأرسلت الفتوى مع آراء هيئة القضاة والعلماء إلى السلطان في القاهرة , ثم جاء الردّ بإعدام النسيمي وسلخ جلده والتشهير به بحلب سبعة أيام , وينادى عليه وتقطع أعضاؤه , إن خصوم النسيمي لم يجدوا عليه مستمسكاً شرعياً أو قانونياً يدينونه به , وهو صاحب الحجج القاطعة قبل الاتهام , لزم الصمت المطبق وكان يلفظ الشهادتين , إنّ يوم إعدام النسيمي يوم مشهود , فقد تقاطر الناس من كل مكان , وكان أثناء تنفيذ الحكم يستعين على ذلك بنظم الأشعار وإنشادها , وفي عام 1417 م , لفظ النسيمي آخر أنفاسه أمام أسوار قلعة حلب , فانطوى بوفاته واحد من أكبر فلاسفة الحروفية ودعاتها , وعلم من أعلام الشعر الإنساني والصوفي.
يُعتبر إعدام نسيمي واحدًا من أكثر الإعدامات بشاعة في التاريخ الإسلامي , قرار الجلد الحيّ , حُكم عليه بـ سلخ جلده وهو حيّ حرفيًا , أحضر الجلادون السكاكين الكبيرة ,
وقُيِّد نسيمي في ساحة عامة , وأمر القاضي بسلخه بالكامل , لأن (( جلده نطق بالكفر)) حسب زعمهم , بدأ الجلادون يمزقون جلده من كتفيه , ثم من صدره , ثم من ظهره , كان الناس يشاهدون المشهد , بعضهم يصرخ , بعضهم يبكي , وبعضهم مذهول من ثبات الرجل , ويُروى أنه كلما سلخوا جزءًا منه , ظل يردد الأذكار والآيات والأشعار, حتى قال أحد الجند إنه شعر بالرعب لأن صوت الرجل كان ثابتًا كأنه فوق الألم , ولم يفقد الوعي بالرغم من النزيف الرهيب , وكان ينظر للجلادين ويقول : (( لن يبقى شيء منّي ,إلا حبّي لله )) , ومع كل شقّ جديد في جسده , كانت الدماء تغرق الأرض ,لكن ملامحه ظلت مطمئنة , وكأنه في حالة سكر روحي بعيد عن هذا العالم , وبعد أن سلخوا أغلب جسده ,
قطعوا رأسه ورفعوه أمام الناس , بينما جلده الممزق كان معلقًا على خشبة.
عند بداية سلخ جلده , قال له القاضي الذي افتى بسلخ جلده باستهزاء : إذا كنت الحقَّ كما تدّعي فلماذا بدأ وجهك بالشحوب ؟ فرد عليه نسيمي قائلاً : (( الشمس تشحب دائماً عند المغيب , لتشرق من جديد )) , وتقول الروايات الشعبية في حلب : (( عندما حمل أحد الجنود جلد نسيمي , دخلت شظية من جلده في يد الجندي , فنزف ومات بعد أيام , فخاف الناس وقالوا : (( من مات من أجل الله , لا تقترب من دمه )) , آخر كلماته يُقال إنه قال قبل موته : (( اقتلوا الجسد إن شئتم , فالروح لا تُقتل )) , وقال لأحد تلاميذه : (( سلخوا الجلد , لكن لم يمسّوا ما في القلب )) .
آمن النسيمي أن الله يعلن عن ذاته من خلال الإنسان , لذا كان ينصح مريديه أن ينحنوا للإنسان حتى لا يضلوا الطريق , الأرض والسماء عنده هما جوهر الحق , أنا الحق , ينطق بها الدف والناي , وإذا كان التصوف بحسب قول أبي سعيد ابن أبي الخير: أن تدع ما في فكرك , وأن تعطي ما في يدك , وأن تندفع بما يأتي عليك , فاندفع النسيمي يعبّر عن تجربته الروحية شعراً , فأخبر عن نفسه قائلاً : خليع أنا وفاجر , جعلت بيتي ركن الحانة , منذ مولدي عشقت , وأقررت بسكري , جميع الأشياء من الأرض إلى الثريا : آدم وحواء , حوريات الفردوس , الربيع والشجر, الملاحدة والمؤمنون , خرقة الدرويش وزنار المسيحي , القيثارة والمزهر , الناي والكمان , المتكلم والكلمة , كلهم ثملون مثلي بنشوة الخلق , أنا الروح والمادة , أنا المكان والزمان , أنا الجسد والروح , أنا النجم والسماء , أنا الغابة المحترقة , أنا البحر , أنا الكنز الإلهي الدفين.
يقع ضريح النسيمي في الزاوية المعروفة باسمه (( زاوية النسيمي )) على سيف حي الفرارة بحلب تجاه القلعة , وفي الجهة الشمالية منها غربي المدرسة الإسماعيلية قرب حمام السلطان .
صباح الزهيري .
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟