أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صباح حزمي الزهيري - مقامة تأجيل الصدمة .














المزيد.....

مقامة تأجيل الصدمة .


صباح حزمي الزهيري

الحوار المتمدن-العدد: 8543 - 2025 / 12 / 1 - 14:09
المحور: الادب والفن
    


مقامة تأجيل الصدمة :

في رواية (( قمح داكن على المعصم )) , تقدم الروائية السورية نجاح إبراهيم مفهومًا أدبيًا ونفسيًا عميقًا : (( تأجيل الصدمة )) , يصف هذا التعبير الذي أشاد به صاحبنا حالة نفسية نادرة تتجاوز مجرد تأخير الشعور , إنها آلية دفاعية تُجبر فيها الذات على تأجيل ردود الفعل العنيفة تجاه حدث مروع , ليس بهدف الهروب , بل لتتمكن من مواصلة البقاء.

بين الفكرة والإبداع : ولادة المفهوم , الفكرة هي أساس أي نص , فهي (( الوردة وحسناء النص )) التي يزرعها الكاتب ليقطف القارئ ثمرتها , وُلد مفهوم (( تأجيل الصدمة )) من رحم المأساة التي سردتها الروائية , حيث تجاوزت الأحداث المروعة طاقة التحمل البشري , يتجسد هذا في المشهد المقتبس من الرواية : ((وهو الانشغال بلملمة الاشلاء و سحبها من تحت الانقاض)) , أمام هذا الهول , لم يكن هناك متسع للانهيار الفوري , كان الوعي مشغولًا بما هو أبقى وأكثر إلحاحًا : لملمة الحياة المتبقية , هنا , أظهرت الكاتبة موهبة فطرية في تحويل هذا الواقع الصادم إلى حالة إبداعية متفردة , مما جعل التعبير لا ينسب إلا لها.

بلاغة اللغة وجمال التلقائية , تتميز اللغة العربية بدقة مفرداتها , حيث تخصص لكل حالة تعبيرًا فريدًا , وقد أشار ابن خلدون إلى هذه الظاهرة قائلًا : (( كانت العرب تضع الشّيء على العموم ثمّ تستعمل في الأمور الخاصّة ألفاظًا أخرى خاصّة بها )) , ما فعلته نجاح إبراهيم هو تطبيق عملي لهذا المبدأ , فهي لم تكتفِ بوصف الصدمة , بل ابتكرت لها تعبيرًا خاصًا يختزل معاني عميقة , هذا الإبداع يكمن في عفويته وتلقائيته , حيث تأتي الكلمات معبرة عن أدق الفروقات في المشاعر دون تكلف أو تصنّع , مما يرفع النص إلى مستوى فني عالٍ .

تأملات في واقع مؤلم , الرواية ليست مجرد قصة من الماضي , بل هي مرآة تعكس الواقع المؤلم في سوريا , حيث تتكرر المآسي ويقف العالم متفرجًا , هذا الواقع يثير تساؤلات حول حالة (( المازوخية )) العالمية , وهي حالة نفسية يتلقى فيها الشخص متعة أو إثارة من التعرض للألم , يبدو أن العالم قد أصيب بهذا الداء , حيث بات يتلذذ بمشاهدة الألم , بدلًا من محاولة وقفه.

يمكن للشعر أن يجسد حالات نفسية معقدة , وكيف أن (( تأجيل الصدمة )) قد يأخذ أشكالًا متعددة , من الهروب المؤقت إلى الحنين المؤلم , وصولًا إلى اليأس الكامل , ففي حالة الهروب المؤقت من الواقع , تُعد قصيدة الشاعر السمة بن عبد الله القشيري مثالًا جيدًا على حالة الهروب من الواقع المؤلم وتأجيل الشعور بالصدمة , من خلال العودة بالذاكرة إلى الماضي الجميل , ففي لحظة ابتعاده عن أحبته , يختار الشاعر أن يعيش في ذكرى نجد , ليؤجل بذلك إحساسه بمرارة الفراق : (( أقـول لصاحبي والعيس تهوي بنا بين المنيفة فالضمـار, تمتع من شميم عرار نجد فما بعد العشية من عرار, ألا يا حبذا نفحات نجد وريّـا روضة بعد القـار, وأهلك إذ يحل الحي نجدا وأنت على زمانك غير زاري )) , هنا , يطلب الشاعر من صاحبه أن يستمتع بآخر نفحة من رائحة نجد , وكأنه يمدد اللحظة الجميلة لكي لا يواجه حقيقة الفراق القاسية , إنه هروب مؤقت يهدف إلى تأجيل الصدمة , وهو ما يعكس حالة (( تأجيل الصدمة )) التي وردت في الرواية.

وفي حالة الصدمة المؤجلة التي تتحول إلى حنين , نقرأ قصيدة الشاعر بدر شاكر السياب (( النهر والموت )) , يمكن أن تكون نموذجًا آخر , فالنهر هنا (بويب) يمثل الماضي الجميل , ولكن الشاعر لا يرى النهر كما هو , بل يراه عبر صدمة الموت والفقد : (( أود لو عدت في الظلام أشد قبضتي تحملان شوق عام في كل إصبع كأني أحمل النّذور إليك من قمح و من زهور, أغابة من الدموع أنت أم نهر)) , هنا , يتحول النهر من مجرد مكان إلى (( غابة من الدموع )) , الصدمة لم تأتِ مباشرة عند الفراق , بل تحولت مع الوقت إلى حنين مؤلم , هذا (( التأجيل )) جعل الألم أكثر عمقًا , حيث تحوّل النهر من رمز للحياة إلى رمز للموت.

اما حالة الصدمة التي تؤدي إلى اليأس واللامبالاة , تأتي قصيدة الشاعر جبران خليل جبران التي يقول فيها : (( الخيرُ في الناسِ مصنوعٌ اذا جُبروا , والشرُّ في الناسِ لا يفنى وإِن قُبروا , وأكثرُ الناسِ آلاتٌ تحركها أصابعُ الدهر يوماً ثم تنكسرُ )) , فهذه الأبيات تعكس صدمة من نوع آخر, صدمة اليأس من الطبيعة البشرية , الشاعر هنا لم يعد يستطيع أن يرى الخير في الناس إلا وهو مصطنع , وهو ما يؤدي إلى حالة من اللامبالاة والانسحاب من المواجهة , هذه الصدمة لم يتم تأجيلها بشكل واعٍ , بل أدت إلى حالة من اليأس الكامل.

ختاما : رسالة وفاء للإبداع , في محراب الإبداع , نقف إجلالًا للروائية نجاح إبراهيم , فبما أنها أدركت أن (( النص هو أيقونة الجمال النثري على متحف الإبداع )) , استطاعت أن تستولد من المعاناة صورة إبداعية متوهجة , انه موجع تعبيرك يا راوية الوجع , فإنثيالاتك الشجية ما هي إلا خلاصة معاناة مأساوية مع الذات ومع الموضوع , استولدت هذه الصورة الإبداعية المتوهجة , شكرًا بحجم الكون لهذه الهدية الكريمة , ودام حسك مرهفًا نابضًا بالإبداع والتوهج.

صباح الزهيري .






ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ألمقامة الاستغنائية .
- مقامة غجرية : وُضوءُ الغَجَر وسُكْرُالوَجْد ...قُبْلةُ المَو ...
- مقامة الشجاعة : اذا حلت المقادير بطلت التدابير.
- مقامة الحلم الطويل .
- المقامة الإسماعيلية في فضائل السلالة الخليلية .
- مقامة جشع الورثة وسوء خاتمة التركة.
- مقامة الخلجات .
- مقامة حميد يا مصايب الله : صرخة الهور والحب الضائع .
- مقامة رحى الخزاف .
- مَقَامَةُ حِفْظِ السِّرِّ بَيْنَ الْأَمَانَةِ وَالْحِكْمَةِ ...
- مقامة أبانا .
- مقامة العبر .
- مقامة تجليات قلق الورّاق .
- مقامة ام الكعك .
- مقامة غنائية .
- مقامة الرجاء الشطرنجية : في وصفِ لعبةِ التَّشظّي .
- مَقَامَةُ لَبَنِ العُصْفُورِ.
- مقامة الأنتخابات .
- مقامة لمحات من ذلك الزمان : أحداث ورجاء .
- مقامة الخبب : في رحلة العمر والأدب .


المزيد.....




- مهرجان فجر السينمائي:لقاءالإبداع العالمي على أرض إيران
- المغربية ليلى العلمي.. -أميركية أخرى- تمزج الإنجليزية بالعرب ...
- ثقافة المقاومة: كيف نبني روح الصمود في مواجهة التحديات؟
- فيلم جديد يكشف ماذا فعل معمر القذافي بجثة وزير خارجيته المعا ...
- روبيو: المفاوضات مع الممثلين الأوكرانيين في فلوريدا مثمرة
- احتفاء مغربي بالسينما المصرية في مهرجان مراكش
- مسرحية -الجدار- تحصد جائزة -التانيت الفضي- وأفضل سينوغرافيا ...
- الموت يغيب الفنان قاسم إسماعيل بعد صراع مع المرض
- أمين معلوف إثر فوزه بجائزة أدبية في المكسيك: نعيش في أكثر عص ...
- الدرعية تحتضن الرواية: مهرجان أدبي يعيد كتابة المكان والهوية ...


المزيد.....

- خرائط العراقيين الغريبة / ملهم الملائكة
- مقال (حياة غويا وعصره ) بقلم آلان وودز.مجلةدفاعاعن الماركسية ... / عبدالرؤوف بطيخ
- يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال ... / السيد حافظ
- ركن هادئ للبنفسج / د. خالد زغريت
- حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني / السيد حافظ
- رواية "سفر الأمهات الثلاث" / رانية مرجية
- الذين باركوا القتل رواية ... / رانية مرجية
- المسرواية عند توفيق الحكيم والسيد حافظ. دراسة في نقاء الفنون ... / د. محمود محمد حمزة
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة. الطبعة الثانية / د. أمل درويش
- مشروع مسرحيات مونودراما للسيد حافظ. اكسبريو.الخادمة والعجوز. ... / السيد حافظ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صباح حزمي الزهيري - مقامة تأجيل الصدمة .