صباح حزمي الزهيري
الحوار المتمدن-العدد: 8531 - 2025 / 11 / 19 - 10:27
المحور:
الادب والفن
مقامة العبر :
في رياضِ المعاني , وعلى ضفافِ الحكمةِ ومهدِ العِبَر , تنتصبُ المقاماتُ كمناراتٍ تُضيءُ دروبَ السالكين , إنّ الحياةَ ليستْ مجرّدَ سِلسلةٍ من الأحداثِ العابرةِ , بل هي مَشْهَدٌ مُركَّبٌ , تُرى فيهِ عُقلياتٌ تحتَ المِقصلةِ لتُعلِّمَنا ثَمَنَ الكلمةِ , ويَرقُدُ فيهِ صَيادٌ قانعٌ تحتَ الشمسِ ليُعيدَ تعريفَ النجاحِ , وتَرتفِعُ فيهِ نبتةُ الخَيزرانِ الصينيِّ بعدَ طولِ صَمتٍ لتُقدِّسَ الصبرَ وعَمَلَ الجذورِ , إنّ هذه المقامةَ هي نَسجٌ بديعٌ من ثلاثِ حِكاياتٍ , كلُّ واحدةٍ منهنّ مَشعلٌ , تُنادي : ليسَ المهمُّ ما تَملِكُهُ من معرفةٍ , بل كيفَ ومتى تَستخدِمُها , ليسَ العِبرةُ في بلوغِ القمةِ , بل في الاستمتاعِ بالرحلةِ , وليسَ النجاحُ وليدَ اللحظةِ , بل ثمرةَ صَمتِ السنواتِ , فَلْنُبحِرْ سَوِيّاً في هذه الرؤى المتناغمةِ , لِنَستخلِصَ منها ما يُقوِّمُ السلوك , ويُروِّضُ الطموح , ويُبجِّلُ الحكمة .
عقليات تحت المقصلة .
صدر حكم الإعدام بالمقصلة على ثلاثة رجال: عالم دين , ومحامٍ , وفيزيائي , وجاء دور تنفيذ الحكم على التوالي , أولًا : عالم الدين والإيمان , حيث وقف أمام المقصلة , وسُئل عن كلمته الأخيرة , فقال بثبات ويقين لا يتزعزع : (( الله , هو من سينقذني )) , نزلت المقصلة الثقيلة بسرعة مرعبة , لكنها توقّفت بأعجوبة على بُعد شعرة واحدة من رقبته , ذُهل الجميع , ورأوا في ذلك آية أو معجزة إلهية تدل على براءته , وبما أن المقصلة لم تقطع رأسه , أُطلق سراحه , وجاء بعده دور المحامي, وعندما طُلب منه كلمته الأخيرة , قال بهدوء ووعي بالأنظمة : (( لستُ كعالم الدين , لكني أعرف القانون وأؤمن بالعدالة , وهي ستُنقذني )) , ومرة أخرى , نزلت المقصلة وتوقّفت عند رقبته تمامًا مثلما حدث مع سابقه , اعتقد الحاضرون أن العدالة قد أنصفت هذا الرجل الذي يعرفها حق المعرفة , ولأن التنفيذ لم يكتمل , أُطلق سراحه هو الآخر , وأخيرًا , جاء دور الفيزيائي , وقف بثقة العالم الذي يدرك قوانين المادة والحركة , وقال : (( لستُ كعالم الدين , ولا أعرف العدالة كالمحامي , لكني أعلم أن هناك عقدة في حبل المقصلة تمنعها من النزول في كل مرة )) , نظر الجلادون بتشكك , لكنهم بحثوا في آلية المقصلة بناءً على إصرار الفيزيائي , وفعلاً وجدوا العقدة التي كانت تُعرقل السقوط الكامل للشفرة , بكل هدوء , قاموا بإصلاح العطل الميكانيكي , ثم أنزلوا المقصلة الخالية من أي عيب , والتي وضعت حدًّا لحياته.
الحكمة والعبر المستخلصة , القصة لا تدور حول الإيمان أو العدالة أو العلم بحد ذاتها , بل تدور حول حسن استخدام المعرفة وتوقيت الإفصاح عنها , خاصة في المواقف المصيرية , والدرس الأهم , في بعض المواقف الحرجة والمفاجئة , لا يكون الذكاء في قول كل ما تعرفه , بل في أن تعرف متى تصمت , ومتى تتظاهر بالجهل , كان بإمكان الفيزيائي أن ينجو لو أنه اكتفى بالصمت أو تذرّع بالإيمان أو العدالة , والعبرة هنا ان الصمت قد يكون نجاة , وأن معرفة الفيزيائي بالعيب الميكانيكي كانت هي سبب موته , فقد يكون توهّجك بالمعرفة وكشفك للأسرار في اللحظة الخطأ هو ما يجلب عليك الخطر , لأن المعرفة سلاح ذو حدين , وفي ملخص بسيط , قد يُنقذك الصمت والتكتم على المعلومة , بينما قد يقتلك إظهار الذكاء والتفوق في اللحظة غير المناسبة.
صياد السمك والفيلسوف .
كان هناك صياد سمك فقير جالسًا على شاطئ البحر يرمي سنارته كل صباح , ويكتفي بصيد ما يسد حاجته ليوم واحد فقط , ثم يعود ليقضي بقية يومه في الاسترخاء تحت الشمس , وفي أحد الأيام , مر به فيلسوف شهير ورآه مسترخيًا في منتصف النهار , توقف الفيلسوف متعجبًا وقال للصياد: لماذا لا تصطاد المزيد من السمك يا رجل؟ إن الطقس رائع , والبحر غني ؟ قال الصياد: وماذا سأفعل بالسمك الزائد؟ قال الفيلسوف: تبيعه وتكسب المزيد من المال , رد الصياد: وماذا سأفعل بالمال الزائد؟ اجاب الفيلسوف: تشتري قاربًا أكبر, وتصطاد كميات أكبر, فتزيد ثروتك , سأل الصياد: وماذا سيحدث بعد ذلك؟ قال الفيلسوف: تصبح رجل أعمال غنيًا , ثم تشتري أسطولًا من القوارب , وتوظف رجالًا للعمل لديك , وتصبح ثريًا جدًا , تساءل الصياد: وكم سيستغرق هذا؟ الفيلسوف: ربما عشرون عامًا من العمل الشاق والمستمر , هنا سأل الصياد : وبعد هذه السنوات العشرين , ماذا سأفعل؟ قال الفيلسوف : هنا تكمن الحكمة , بعد ذلك , يمكنك أن تتقاعد وتسترخي , وتجلس تحت الشمس , وتستمتع بوقتك دون قلق , ابتسم الصياد بهدوء وأشار إلى البحر والشاطئ من حوله : (( ألا ترى يا سيدي؟ أنا أفعل ذلك بالفعل الآن )) .
هذه القصة تُعلّم درسًا قويًا حول تعريف النجاح والسعادة وقيمة الرضا الفوري مقابل التضحية طويلة الأمد: هو الرضا مقابل الطموح , والعبرة لا ينبغي أن يكون النجاح دائمًا مرتبطًا بالثروة الهائلة أو التوسع اللامتناهي , ما يعتبره البعض نهاية مثالية لحياة من العمل الشاق (الراحة) , قد يكون متاحًا للآخرين بالفعل في بداية رحلتهم , والدرس, يجب أن نقيّم أهدافنا الحقيقية , هل نسعى حقًا للهدف النهائي (الراحة والاستمتاع) , أم أننا وقعنا في فخ السعي المستمر لـ (( المزيد )) كغاية في حد ذاتها ؟ ان الحياة ليست دائمًا خطة عمل , فبعض السعادة لا يمكن تأجيلها إلى ما بعد تحقيق الأهداف المادية الكبرى.
حكايات الخيزران الصيني
تُعتبر قصة الخيزران الصيني (Bamboo) مثالًا كلاسيكيًا للحكمة المتعلقة بالصبر والعزيمة , عندما تُزرع بذور الخيزران الصيني , يحدث شيء غريب , في السنة الأولى , يقوم المزارع بريّ البذور وتغذية التربة , ولا يظهر أي شيء على السطح , وفي السنة الثانية , يواصل المزارع الري والاعتناء , ولا يظهر أي شيء على السطح , في السنة الثالثة والرابعة , يستمر المزارع في رعاية البذور وتغذيتها وصبره لا ينفد , ولا يزال لا يرى شيئًا ينمو فوق الأرض , فيشعر الكثيرون باليأس في هذه المرحلة , يتساءلون: هل البذور ميتة؟ هل العمل بلا فائدة؟ في السنة الخامسة , فجأة , وفي غضون ستة أسابيع فقط , ينمو نبات الخيزران ليبلغ ارتفاعه 90 قدمًا (أكثر من 27 مترًا) , السؤال هنا , هل نما نبات الخيزران 90 قدمًا في ستة أسابيع؟ بالطبع لا , لقد استغرق خمس سنوات كاملة لينمو , حيث كان خلال السنوات الأربع الأولى يعمل بصمت وقوة تحت الأرض , يبني نظام جذور ضخم وقوي يمكنه من دعم النمو الهائل والسريع الذي سيحدث لاحقًا.
تُقدم قصة الخيزران الصيني دروسًا عميقة حول طبيعة النمو والنجاح الحقيقي , وقيمة العمل غير المرئي (الصبر) , والعبرة هي ان النتائج الكبيرة تتطلب أساسًا قويًا , والكثير من الجهد الذي نبذله في حياتنا (سواء كان تعلم مهارة , بناء علاقة , أو تأسيس عمل) هو عمل تحت السطح لا يراه أحد , والدرس , لا تستسلم عندما لا ترى نتائج فورية , أنت تبني الجذور , الصبر ليس الانتظار السلبي , بل هو العمل الجاد والمستمر رغم غياب الدليل المرئي للتقدم , والإيمان بالعملية , فيجب أن يكون لديك إيمان بأن ما تفعله صحيح , حتى عندما لا تتلقى أي تعزيز أو مكافأة خارجية لفترة طويلة , المزارع كان يثق في طبيعة الخيزران , فحافظ على روتينك وجهدك , اذ ان الفشل في رؤية النتائج لا يعني الفشل في النمو , قد يعني أنك في مرحلة بناء الأساس الداخلي.
وهكذا , يكتملُ المَشهدُ في (( مقامةِ العِبر)) , تاركاً في النفسِ صَدىً عميقاً يدعونا إلى إعادةِ النظرِ في مسلماتِنا الكبرى , لقد رأينا كيفَ أنَّ الحكمةَ ليستْ مجردَ إتقانِ علومٍ أو فقهِ قوانينَ , بل هي فنُّ الموازنةِ بينَ الإفصاحِ والإخفاءِ , فكَمْ من كلمةٍ بَرَّاقةٍ جَرَّتِ الويلاتِ على صاحبِها , وكَمْ من صَمتٍ في التوقيتِ المُناسبِ كانَ طوقَ نجاةٍ , كما تعلَّمنا أنَّ السعادةَ ليستْ غايةً مؤجّلةً تُنالُ بعدَ عِشرينَ عاماً من الشقاءِ , بل هي حالةٌ حاضرةٌ تُزهرُ في الرضا والقناعةِ باليسيرِ, وأنَّ الطموحَ إذا تجاوزَ حدودَ اللذةِ الفوريةِ أصبحَ سِجناً , وفي الختامِ , ذكَّرَنا الخيزرانُ بأنَّ أثمنَ العملِ هو ذاكَ الذي لا يُرى , وأنَّ أوقاتَ الجمودِ الظاهريِّ هي في الحقيقةِ سنواتُ بناءٍ وتأسيسٍ , فالنهاياتُ الباهرةُ لا تنبعُ إلا من جذورٍ قويةٍ وصبرٍ لا يَنفدُ , فلْتَكُنْ هذه المقامةُ دليلاً لنا , لِنتَحسَّسَ مَواطنَ حِكمتِنا , ولْنَتَذوَّقَ حلاوةَ الرضا , ولْنَتَحلَّى بالصبرِ على مراحلِ البناءِ الصامتةِ , مُدركينَ أنَّ الحياةَ رحلةٌ متكاملةٌ , وليستْ سباقاً نحو الأهدافِ الماديةِ فحسب.
صباح الزهيري .
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟