أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صباح حزمي الزهيري - مقامة رحى الخزاف .















المزيد.....

مقامة رحى الخزاف .


صباح حزمي الزهيري

الحوار المتمدن-العدد: 8534 - 2025 / 11 / 22 - 11:20
المحور: الادب والفن
    


مقامة رحى الخزاف :

ومضة من عصف أفكار صالون د. تحسين طه أفندي , عندما أستشهد الدكتور بمطلع أحد رباعيات الخيام الشهيرة ((رأيت خزافا رحاه تدور )) يعبر فيها الشاعر عمر الخيام عن نظرته الفلسفية للوجود , حيث يرى الخزّاف يصنع أواني الخمر من الطين , ويشبهه بالقدر الذي يخلط فيه مصائر البشر, فصاغ دنان الخمر من طين جمجمة الشاه بساق الفقير , وفكرة خلط جمجمة الشاه بساق الفقير في طين الأواني هي تعبير عن أن الجميع , بغض النظر عن طبقتهم الاجتماعية (الغني والفقير) , يتساوون في النهاية أمام الموت , وتصبح أجسادهم طيناً في رحى الدهر , ويربط الخيام هذه الصورة بالاستمتاع باللحظة الحاضرة وشرب الخمر قبل فوات الأوان , كما ورد في البيت التالي للرباعية : (( أفق وهات الكأس أنعم بها واكشف خفايا النفس من حجبها وروّ أوصالى بها قبلما يصاغ دنّ الخمر من تربها)) .

وبعيداً عن الجدل التاريخي حول قصة الثلاثي (حسن الصباح - عمر الخيّام - نظام الملك الطوسي) , ننتقل مباشرة لإلقاء الضوء على فلسفة عمر الخيّام في الحياة كما تجلت في رباعياته , نجد صدى الفلسفة الوجودية التي يتردد صداها في ملحمة جلجامش العراقية ثم في سفر الجامعة في التناخ وفي فلسفة العبقري الآخر (( أبو العلاء المعرّي )) وسواهم , ولذلك فخير متعة ينشدها فيلسوف مثله هي التمتع بالحب : (( أولى بهذا القلبِ أن يَخْفِقا , وفي ضِرامِ الحُبِّ أنْ يُحرَقا , ما أضْيَعَ اليومَ الذي مَرَّ بي , من غير أن أهْوى وأن أعْشَقا )) , ولا ينسى الخيام هنا أن يناجي الخالق مجدداً بشأن حكمته في تحريم إشباع غريزة هو من خلقها في البشر: (( القلبُ قد أضْناه عِشْق الجَمال , والصَدرُ قد ضاقَ بما لا يُقال , يا ربِ هل يُرْضيكَ هذا الظَمأ , والماءُ يَنْسابُ أمامي زلال ؟ )) , ثم تتوالى الرباعيات التي تتغنى بالخمر وعذوبتها وتأثيرها : (( سمعتُ صوتًا هاتفًا في السحر , نادى من الغيب غفاة البشرهبوا املأوا كأس المُنى قبل أن , تملأ كأسَ العمر كفُ الَقَدر, هلْ في مجالِ السكونِ شيءٌ بديعْ , أحلى من الكأسِ و زهرُ الربيعْ ؟ عجبتُ للخمَّارِ هل يشتري , بمالهِ أحسنْ مما يبيعْ ؟ )) , حتى أن الخيّام يوصي أصحابه بأن يشربوا فوق قبره بعد رحيله , وأن يسكبوا الخمر فوق قبره لعل عظامه تنتعش : (( إذا سقاني الموتُ كأس الحِمام , وضَمَّكُم بعدي مجال المُدام , فأفردوا لي موضعي واشربوا , في ذِكر من أضحى رهينَ الرجام )) , بل يرجو الخزّاف أن يخلط بقايا جسده -التي عادت إلى صورتها الأولى كطين- ببعض الخمر وأن يصوغ منها أواني الخمر لعلها تعود إلى الحياة : (( إن تُقتلع من أصلها سرحتي , وتصبح الأغصان قد جفّت , فصِغ وعاء الخمر من طينتي , واملأه تَسرِ الروح في جُثّتي )) .

يحيرنا عمر الخيام برباعياته , فعندما نستشف ملامح رحلته الفكرية والتأمليّة العميقة التي مر بها متأمّلاً وباحثاً , ثم قانطاً ويائساً , ثم عابثاً ولاهياً , ثم راجياً ومؤمناً , نمسي على خلافٍ بشأن موضع كل من هذه الأطوار من حياته بسبب جهلنا بترتيب زمن تأليفه لرباعيات كل مرحلة منها , في البداية يتأمل الخيّام في شئون البشر والحياة من حوله , فلا يجد سوى عشوائية وضربات قدر غير مفهومة , حتّى يتخيل البشر وحياتهم كبيادق في لعبة شطرنج كونية ضخمة تتعاقب فوق رقعتها الأجيال : (( وإنَّما نحنُ رخاخ القضاء , ينقلنا في اللوحِ أنّى يشاء , وكلُّ مَن يفرغ مِن دورهِ , يُلقَى به في مستقّرِ الفناء )) , فيُخاطب قلبه ممنياً إيّاه بألّا يحزن , فكل ما يلقاه الإنسان في حياته هو قدر مكتوب لا فَكاك منه : (( ويا فؤادي تلكَ دُنيا الخيال , فلا تنؤ تحتَ الهموم الثقال , وسلّم الأمر , فمَحوَ الَّذي خطّت يدُ المقدار أمرٌ مُحال )) , ويتأمل الخيام فيما يصنعه الخزّاف في طينته عندما يوسِعها ضَرباً وعَجْنا , فلا يجد في ذلك سوى صورة لصنائع الأقدار مع البشر: (( مررتُ بالخزّاف في ضحوةٍ , يصوغ كوب الخمر من طينة , أوسعها دَعّاً فقالت له: هل أقفرَت نفسك من رحمةٍ ؟)) , ولا يستنكف الخيام أن يُناجي الخالق مستفسرا : (( طبائع الأنفس ركّبتَها فكيف تجزي أنفساً صغتَها ؟ وكيف تُفني كاملا أو تري نقصاً بنفس أنت صوّرتها ؟ خلقتني يا ربْ ماءً وطين , وصغتني ما شئتَ عزاً وهون , فما احتيالي والَّذي قَد جرى , كتبتهُ يا ربْ فوقَ الجبين ؟ )) .

وعن ألتشاؤم بين أبيقورية الخيّام ورواقية المعرّي نلاحظ الاختلاف الكبير بين الشاعرين , فأهم نزعة في ديوانَي ابي العلاء المعرّي هي التشاؤم من الدنيا والناس , والزهد في المكاسب , ونقد المخازي والآثام وتصوير شقاء النفوس , وتعاسة الفئات المحرومة , والتعبير عن مشاعر الحرمان , وضعف الانسان امام قوى القضاء وأحكام القدر , وبهذا قدّم المعرّي للدنيا وجها كالحا شاحبا تنعدم فيه السعادة ويعمّه البؤس والعناء , وقد دعا المعرّي الى الزهد والقناعة والإعراض عن الدنيا إعراضا كليّا , واما في الفلسفة الانقلابية التي تعرف اليوم بالموبيليزم , فإن بين ابي العلاء والخيّام تشابها تاما , ومن ابرز الشواهد على ذلك قصيدة ابي العلاء التي مطلعها (( غير مُجد في ملتي واعتقادي نوح باكٍ او ترنّم شادي )) وهذه القصيدة نجد جميع ما فيها من الافكار في رباعيات الخيّام , لقد كان نظر الخيّام الى الحادثات نظرا فلسفيا علميا ينطبق انطباقا شديدا على الفلسفة العلمية التي ذهب اليها الفلاسفة الطبيعيون (The naturalists) واستقراء رباعياته المفصحة عن آرائه وافكاره التي من هذا القبيل يجعلنا نقطع بأنه من الملتزمين فلسفة الانقلاب , ففي نظر الخيّام : (( ان هذه الكائنات سيل يستمر يندفع من الأزل الى آخر الأبد , والانسان في هذا السيل كدقاق العيدان يقذفها ويمضي بها , وهو في ذلك جاهل لا يدري من اين اتى ولا الى اين يذهب , جميع العناصر في تركب وانحلال دائم , الاجزاء البسيطة التي تتركب منها الموجودات في دائما في تجمع وتفرّق , فالانسان الذي يموت وتودع جثته بطن الثرى , ذلك المعمل الكبير الذي نسميه ( الطبيعة) تنحل عناصره وتتبعثر , وقد يدخل بعض هذه العناصر المتبعثرة في عفصة سروة او زهرة خبيزة , وربما صار بعضها الآخر الى كتلة طين فيصنع منه الخزّاف عروة لإبريق او أذنًا لجرة ولعل في اكواب الشراب التي يطوف بها الساقي ذرات من جمجمة كيخسرو او قحف جمشيد , وربما كانت الزنابق التي تزين ضفاف الجداول شفة حسناء او قلب معمود , وهكذا يستمر العالم في هذا الانحلال والتركب دون ان يعرف الانقطاع او التوقف.

صباح الزهيري .






ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مَقَامَةُ حِفْظِ السِّرِّ بَيْنَ الْأَمَانَةِ وَالْحِكْمَةِ ...
- مقامة أبانا .
- مقامة العبر .
- مقامة تجليات قلق الورّاق .
- مقامة ام الكعك .
- مقامة غنائية .
- مقامة الرجاء الشطرنجية : في وصفِ لعبةِ التَّشظّي .
- مَقَامَةُ لَبَنِ العُصْفُورِ.
- مقامة الأنتخابات .
- مقامة لمحات من ذلك الزمان : أحداث ورجاء .
- مقامة الخبب : في رحلة العمر والأدب .
- مقامة القيمر الأسمر.
- مقامة الفلْس الدّوّانِقِي : نوادر البخلاء ومآثرهم .
- مقامةُ الأفندي تحسين في بَتانِ بغدادَ وبَطِّها .
- الغطرسة : الداء والجلاء .
- مقامة العبارة الضيقة : ما أوسع رؤيتها ؟
- مَقَامَةُ الْأَحْفَادِ وَمَتَاعِبِ الْأَجْدَادِ .
- مقامة شذرات من السيرة الذاتية .
- مقامة نجاة الصغيرة : ( الضوء المسموع ) , وهمسٌ يغوص في أعماق ...
- المقامة البغدادية في تَلَوُّنِ الأوطانِ وبكاءِ الأحياءِ .


المزيد.....




- مصر.. الأفلام الفائزة بجوائز مهرجان -القاهرة السينمائي- الـ4 ...
- فولتير: الفيلسوف الساخر الذي فضح الاستبداد
- دموع هند رجب تُضيء مهرجان القاهرة السينمائي في دورته الـ46
- توقيع الكتاب تسوّل فاضح!
- فيثاغورس… حين يصغي العقل إلى الموسيقى السرّية للكون
- العلماء العرب المعاصرون ومآل مكتباتهم.. قراءة في كتاب أحمد ا ...
- -رواية الإمام- بين المرجعي والتخييلي وأنسنة الفلسطيني
- المخرج طارق صالح - حبّ مصر الذي تحوّل إلى سينما بثمن باهظ
- -إنّما يُجنى الهدى من صُحبة الخِلّ الأمين-.. الصداقة الافترا ...
- مؤسس -هاغينغ فيس-: نحن في فقاعة النماذج اللغوية لا الذكاء ال ...


المزيد.....

- يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال ... / السيد حافظ
- ركن هادئ للبنفسج / د. خالد زغريت
- حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني / السيد حافظ
- رواية "سفر الأمهات الثلاث" / رانية مرجية
- الذين باركوا القتل رواية ... / رانية مرجية
- المسرواية عند توفيق الحكيم والسيد حافظ. دراسة في نقاء الفنون ... / د. محمود محمد حمزة
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة. الطبعة الثانية / د. أمل درويش
- مشروع مسرحيات مونودراما للسيد حافظ. اكسبريو.الخادمة والعجوز. ... / السيد حافظ
- إخترنالك:مقال (الثقافة والاشتراكية) ليون تروتسكي. مجلة دفاعا ... / عبدالرؤوف بطيخ
- المرجان في سلة خوص كتاب كامل / كاظم حسن سعيد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صباح حزمي الزهيري - مقامة رحى الخزاف .