صباح حزمي الزهيري
الحوار المتمدن-العدد: 8554 - 2025 / 12 / 12 - 09:32
المحور:
الادب والفن
مقامة عفونة العقل : حين يموت العقل قبل الجسد
حسب تقرير بثته (( العربية نت )) , كشفت دراسة حديثة أن زيادة استخدام وسائل التواصل الاجتماعي من قبل الأطفال تضر بمستويات تركيزهم وقد تسهم في ارتفاع حالات اضطراب فرط الحركة وتشتت الانتباه (ADHD), وأن الضرر ليس محصوراً في عافية عقول ونفوس الأطفال , وإن كان ذلك يكفي ضرراً , ولكنه يسري إلى العقل البشري العام , حيث تتكرس السطحية والعجلة والخفة والضجر والاستهلاك الشره واستباحة حيوات الناس , والتصعيد في إثارة الانتباه للحصول على أرقام متابعة وإعجاب واشتراك أعلى , هذه السمات المدمرة تكون على حساب نقيضها مثل الأناة والعمق والاحترام وصون الخصوصية وتعزيز القيم غير النفعية وهيمنة السلوك الاستعراضي الجارف.
رداً على سؤال حول (( ما هو الاختراع الذي جعل البشر في وضع أسوأ ؟ )) , أجاب أيلون ماسك: (( أعتقد أنها الفيديوهات القصيرة )) , في إشارة إلى فيديوهات تيك توك وإنستغرام ويوتيوب وسناب شات القصيرة , وشرح رأيه ذلك بالقول إن تلك المقاطع المصورة القصيرة أفسدت عقول البشر , و(( عفّنت )) تفكير الناس , وفق تعبيره , وحين يكون الرأي حول أثر السوشيال ميديا , أو أحد آثارها , يصبح الانتباه لما يقوله واجباً , فهو ليس رأي عالم وقور مراقب للسلوك البشري في صومعته العلمية , يهزأ منه التافهون وصناع التفاهة , بل هو رأي أحد كبار كهنة المعبد الرقمي الجديد , في موازاة رأي إيلون ماسك هذا , أقدمت دولة غربية (( ديمقراطية )) كبيرة , هي أستراليا , على قرار نوعي سيكون له صداه الجهير حيناً من الدهر, أستراليا منعت رسمياً على مَن هم دون سن الـ16 استعمال منصات التواصل على أنواعها , وأعلنت شركة (( إكس )) التي يملكها ماسك , أنها ستلتزم بالحظر الأسترالي الذي يمنع مَن هم دون 16 عاماً من استخدام وسائل التواصل الاجتماعي , وذكرت في بيان مع دخول القرار الرائد عالمياً حيز التنفيذ أن (( ذلك ليس خيارها , بل ما يتطلبه القانون الأسترالي )) , وكانت (( إكس )) آخر منصة من بين 10 مواقع للتواصل الاجتماعي شملها القرار, تحدد كيف ستنفذ الحظر الأسترالي .
(( عفونة العقل )) , أو (( تعفن الدماغ)) Brain Rot مصطلح دارج يصف التدهور الإدراكي الناتج عن الاستهلاك المفرط للمحتوى الرقمي التافه على الإنترنت , مما يؤدي إلى صعوبات في التركيز, بطء التفكير, فقدان الذاكرة , والتعب الذهني , ويُعتبر تحذيرًا من مخاطر الحياة الرقمية السطحية على الصحة العقلية والقدرات المعرفية , خاصة بين الشباب , مع التأكيد على أهمية التوازن بين العالم الرقمي والأنشطة المحفزة للعقل, وقد تفوق مصطلح (( تعفن الدماغ )) على مصطلحات أخرى كانت تنافسه هذا العام وأهمها مصطلح slop أي : (( المحتوى الرديء الذي تم إنشاؤه بالذكاء الاصطناعي , مكتوبا كان أم مصورا )) , يعرف مصطلح (( تعفن الدماغ )) بأنه عبارة عن تدهور في الحالة العقلية أو الفكرية للشخص , وينظر إلى هذا الداء كنتيجة منطقية للإفراط في استهلاك المحتوى السريع والتافه وغير المفيد , وقد اكتسب هذا الداء أهمية متزايدة خلال عامي 2024-2025م , وتم استخدام المصطلح من قبل الخبراء والمتخصصين للإشارة وللتعبير عن المخاوف بشأن تأثير استهلاك كمياتٍ مفرطة من المحتوى الإلكتروني رديء الجودة , لا سيما المحتوى المنشور على منصات التواصل الاجتماعي.
حذّر البروفيسور الدكتور آشقين أسن خاصتورك , أخصائي جراحة الدماغ والأعصاب , الذي يعمل في مستشفى أبحاث السرطان والتدريب التابع لوزارة الصحة بالعاصمة التركية أنقرة , في مقابلة , أن الاستخدام غير الضروري والترفيهي لوسائل التواصل الاجتماعي يسبب تعفن الدماغ , وإن تعفن الدماغ يؤثر على جميع الفئات العمرية , وأوضح أن مصطلح تعفن الدماغ يرتبط بالاستخدام المفرط والمستمر لوسائل التواصل الاجتماعي والمحتوى اللا متناهي في تلك المنصات , مما يؤدي إلى تخدير الدماغ , ورغم أن هذا المصطلح قد يبدو مخيفا في البداية , فإنه يجب ألا يُفهم كتشخيص طبي إنما توصيف لحالة صحية، وفق قول خاصتورك , وتابع أن استخدام وسائل التواصل الاجتماعي بشكل مفرط يؤدي إلى تدهور الوظائف الفكرية للإنسان , مثل الذاكرة , والانعزال الاجتماعي وبالتالي تطور حالات من الاكتئاب بسبب العزلة.
دائمًا ما تُقترن كلمة (( التعفن )) بالأطعمة والمشروبات التي تمر عليها فترة زمنية طويلة دون أن تُحفظ بعناية , ومن ثم تتعفن , فتفوح رائحتها الكريهة , وتشمئز منها النفوس , إلا أن المشهد اليوم انقلب رأسًا على عقب , فمن كان بالأمس يشمئز من هذه الراحة , أصبح الناس ينفرون من رائحة عقله المتعفن اليوم , ويفرون من آرائه المضللة ومعرفته السطحية , وسرعان ما انتشر هذا الداء في المجتمع , ليعاني منه الصغير والكبير , الشاب والفتاة , المتعلم والجاهل , الأمر الذي جعل كلمة أكسفورد لعام 2024م تُجسد في مصطلح (( تعفن الدماغ )) , ويوجد العديد من العوامل التي تؤدي إلى إصابة الدماغ بالتعفن , ولعل أبرز هذه العوامل الإفراط في استهلاك المعلومات الفارغة أو التافهة التي لا قيمة لها , وذلك مثل المحتوى السريع , والأخبار المفبركة , والشائعات , والمنشورات سريعة الانتشار , والانغماس في الترفيه السلبي , والمحتوى المهتم بنشر الفضائح أكثر من العلم , إلى جانب الألعاب التي انتشرت على الشبكة العنكبوتية لتستهلك الوقت دون فائدة , هذه الأمور تجعل العقل عاجزاً عن طرح أي أسئلة للتحقق من صحة المعلومات , وبالتالي تغيّب عنه الوعي النقدي , وتجعل الانقياد والتقليد الأعمى يحلان محله , الأمر الذي ينعكس سلبًا على نشاط الدماغ ويجعله كسولًا غير قادر على التمييز بين الصواب والخطأ , ومن ثم فإن الغضب المستمر, وضعف القدرة على التركيز , وزيادة الاضطرابات النفسية كلها أمور تدل على الإصابة بتعفن الدماغ .
توجد عديد من العلامات أو الأعراض تدل على إصابة الشخص بتعفن الدماغ , وتتمثل هذه العلامات في صعوبة التركيز والتشتت المستمر دون قدرة على الانتباه , وتكرار الخطأ ذاته أكثر من مرة , والانغماس في المعلومات الفارغة دون قدرة على تجنبها , كأن يفتح المستخدم صفحات وسائل التواصل الاجتماعي وينتقل من منشور إلى آخر, ومن صورة إلى أخرى وهو يعلم أنه لا يستفيد شيئاً لكنه لا يستطيع أن يتوقف , ومن علامات تعفن الدماغ أيضاً فقدان الفضول العلمي والتفكير النقدي , وعدم القدرة على اتخاذ القرار , ومن ثم الاعتماد على الآخرين في أي شيء يتعلق بالفكر, إن هذا الداء لا يضر الفرد فحسب , بل يمتد أثره ليصل إلى المجتمع بأسره , فهو يجعل الإنسان عاجزًا عن التفكير السليم واتخاذ القرارات الصحيحة , كما يزيد من انفعالاته السلبية كالغضب والحقد والحسد , الأمر الذي يؤدي إلى إضعاف القدرة على التواصل البناء مع الآخرين , وحينما تتجمع هذه العقول المتعفنة في مجتمع واحد , ينتشر الجهل , ويعم الفقر, وتضعف القيم , وتزداد الانقسامات والصراعات , فيصبح المجتمع أكثر عرضة للخداع والتطرف , وأقل قدرة على الابتكار والتقدم , ناهيك عن كثرة الجرائم , وغياب الضوابط لأنك بالأحرى تتحدث عن مجتمع بلا عقل حقيقي ,باختصار , إن (( تعفن الدماغ )) يحوّل الفرد والمجتمع إلى أرض خصبة للأفكار الفاسدة والانحرافات الفكرية.
على الرغم من خطورة هذا الداء , وأثرة الكبير على العقل والجسد , والفرد والمجتمع , فإن هناك عدة إستراتيجيات يمكن من خلالها التغلب عليه , وتتمثل هذه الإستراتيجيات في تنقية الفكر بالاطلاع على المصادر الموثوقة , والمطالعة العلمية الناقدة , والقراءة الدائمة المنظمة , وعدم تضييع الوقت في المحتوى غير المفيد , وتجنب الترفيه السلبي , لا سيما التافه منه , واستبدال أنشطة مفيدة للعقل به كتعلم المهارات , والتفكير النقدي بتدريب العقل على تحليل المعلومات والتأكد من صحتها قبل تخزينها في الذاكرة أو الإدلاء بها , من هنا يتبين أن (( تعفن الدماغ )) أخطر من أي مرض جسدي , ذلك لأنه يفسد أعمق ما في الإنسان , عقله وروحه , وحتى نحمي عقولنا من هذا الداء لا بد أن نغذيها بالعلم المفيد , والمعرفة الصحيحة , والحق , والفضيلة , لبناء مجتمع صحي قادر على التفكير السليم واتخاذ القرارات الصائبة.
صباح الزهيري .
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟