أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صباح حزمي الزهيري - مَقامَةُ عَلْوَةِ النَّجَفِيّ والوَفَاءِ الهَالِكِ .















المزيد.....

مَقامَةُ عَلْوَةِ النَّجَفِيّ والوَفَاءِ الهَالِكِ .


صباح حزمي الزهيري

الحوار المتمدن-العدد: 8545 - 2025 / 12 / 3 - 16:29
المحور: الادب والفن
    


(( اهنا يمن جنا وجنت , جينا وكفنا بابك )) , بهذه الرِقّةِ القاسية , وهذا العتابِ الموجِع , ابتدأَ شيخٌ من أهلِ الفراتِ قولَه , حينما كنا نَتَبادَلُ حِكاياتِ الوفاءِ الهالِكِ وعهودِ الصِبا المُتبَدِّدة , يا سادةَ المَحافِلِ وأهلَ الذاكرة , ما مِن بيتٍ في العراقِ إلا ودارتْ على ألسنتِهِ هذه الأبياتُ , التي هي شهادةٌ على غدرِ الزمانِ , وثباتِ الوفاءِ , فما القصةُ يا صاحبي؟ فقالَ: روى مَنْ عاصَرَ الحكايةَ أنَّ هذا البيتَ هو صرخةُ قلبٍ خرجتْ من صدرِ امرأةٍ صانتْ عهدَها لِشابٍّ باعَ عهدَهُ بثمنٍ بَخْسٍ هو زينةُ الدنيا , ولقدْ نَظَمَتْها وهي واقفةٌ أمامَ بابِ مَنْ كان حبيبَها , ثم صارَ تاجرَ الحبوبِ الكبيرَ في المشخاب.

روى شيخٌ من أهل النجف , مُعمَّرٌ , وقد سَبَحَ في بحورِ الشعرِ الشعبيّ , فقال : (( مامن وِزْرَ أثقلُ في ميزانِ الحبيبِ من خيانةِ عهدٍ في حقلٍ أخضر , ولا شرفَ يُعادلُ صمودَ قلبٍ لم يَنثنِ أمامَ سياطِ الزمان )) , وبمناسبةٍ كنتُ أسوقُ بها البذورَ في مدينةِ المشخاب , بلدةِ القَصَبِ والماء , رأيتُ مَن يروي قصةً هي أبلغُ من ألفِ موعظة , وأشدُّ إيقاعاً من ضربِ النحاسِ على الصخر , أيها السادةُ الأكارم , هذه قصةُ (( محمد الجبار )) , تاجرِ الحبوبِ وصاحبِ العلوة , الذي كانت حكايتُه تُروى على ألسنةِ النساءِ كوصمةٍ ودرساً , لقد كان لمحمدٍ عهدٌ في صباهُ وشبابه , مع فتاةٍ من أريافِ النجف , سقاها الحبُّ في سراديبِ النخيل , وعقدتْ عليه الأمانيَ تحتَ ضوءِ القمرِ الذي لا يكذب.

لكنّ الدنيا , يا رعاكم الله , دَوَّارةٌ مَدّارة , إذا مَنحتْ من جهة , أخذتْ من أخرى , فارتحلَ محمدٌ وغرّتْه عِلوةُ المشخاب وزينةُ التجارة , وتناسَلَتْ سنواتُ الغنى , فتناسَلَتْ معها العُقودُ الجديدةُ والزوجةُ والأولاد , وانهارَ حائطُ العهدِ كأنه لم يُبنَ يوماً , أمّا هي , فبَقِيَتْ على سُقوفِ الرَيفِ , تقاومُ خُطّابَها كأنها صخرةٌ نَذَرَتْ نفسَها لِمَوجٍ واحد , وحالَتْ الأعرافُ الباليةُ بينها وبين السُّوقِ وزحمته , وظلَّتْ تَسألُ عن (( صاحبِ العلوة )) حتى إذا غزا الشيبُ رأسَها , وكَبُرَتْ حَتّى سُمِحَ لها بالخروجِ , لم تَرْتَدِ وجهتَها غيرَ عَلْوَةِ الحبيبِ الناسي , وهنا كانت الصاعقةُ, لمحتْهُ يقفُ , تاجراً وقوراً , عظيمَ اللحية , مُمسكاً سبحةَ المِائةِ وواحدة , غارقاً في هَيبتِه المفتعلة , فسلّمتْ , ولم يَجِدْ قلبُه المُغلفُ بقشرةِ النسيانِ شيئاً ليردَّ به سوى البرود , حينئذٍ , فاضَ القلبُ بما حَمَلَ , وتحوّلَ ألمُ سنينَ طويلةٍ إلى لؤلؤٍ من الكلمات , أنشدتْهُ في وجهِه , كأنها صوتُ الوفاءِ يُحاسِبُ الخيانة : (( اهنا يمن جنا وجنت... جينا وكفنا بابك )) , وبلغتْ العتابَ الأقصى حينَ سألتهُ سؤالَ القاضي للرائي : (( اللحية كلي شفادتك / ياصنعه منها تعلمت؟)) , يا لَهُ من درسٍ أليم , لقد كشفتْ القصيدةُ المُقَامَةُ حقيقةَ الأمرِ: أنَّ الوفاءَ أصلُ الدينِ , وأنَّ المظهرَ لا يُغني عن المخبر, وأنَّ التاجرَ الفَخْمَ ذو السبحةِ لم يستطعْ أن يُجيبَ على اتهامِ عجوزٍ بائسةٍ كشفتْ عُورَةَ روحهِ بكلمةٍ.

فتسمَّرَ (( محمد )) , وكأنَّ التاريخَ كلَّه قد قامَ بينَه وبينَ بابه , ولم يستطعْ أن يَرُدَّ حرفاً , حاوَلَ بعدها أن يَرُدَّ بقصيدةٍ , ولكنْ هيهاتَ أنْ يُعادلَ الصدقُ في البؤسِ الصدقَ في الوجاهة, بقيت قصيدتُها هي الأمُّ والخلود , واندثرَ كلامُه كأنه رماد , والدرسُ المُطلقُ في هذه المقامة , أيها السادة , هو: أنَّ الأعمارَ قد تُنسِينا العهودَ , وأنَّ الحياةَ قد تلبسُ لنا ثوبَ الوجاهةِ والبرِّ , ولكنَّ الوفاءَ الحقيقيَّ يظلُّ كشاهدٍ لا ينام , فلتَزِنُوا , يا أهلَ العقول , إخلاصَكم بوفاءِ تلكَ الفتاة , لا ببرودِ ذلكَ التاجر , فإنَّ قلباً صانَ العهدَ في العوزِ أثمنُ من ألفِ عِلوةٍ عامرة.

فانظروا إلى مأساةِ الحُبِّ الذي تَحَوَّلَ إلى حِسابٍ: كانتْ اللقاءاتُ سِرّاً في حقولِ النجف , ثم شاءَ القَدَرُ أن يُصْبِحَ الشابُّ (( محمد الجبار )) صاحبَ عِلوةٍ , وأن يَنخرطَ في ضجيجِ السوقِ حتى سُبِحَتْ به سُبْحةُ النسيان , تزوّجَ , وأنجبَ , ولبسَ ثوبَ الوقار , وأرخى لحيته , وأمسكَ سُبْحَةَ المِائةِ وواحدة , ناسياً تلكَ الوعودَ التي هي أثقلُ في ميزانِ العهدِ من أطنانِ حُبوبِه ,أمّا هي , فبَقِيَتْ أسيرةَ ريفِها وأعرافِ قومِها , التي لا تسمحُ لها بالخروجِ إلا بعدَ أنْ يَأْكُلَ الشيبُ من جَدائلِها , وحينَ أذِنَ لها الزمانُ بالرحيل , كانتْ أولى وجهاتِها هي علوةُ الناسي , لِتَجِدَ التاجرَ الوقورَ لا يعرفُ مَن هي تلكَ العجوزُ التي تقفُ ببابِه.

هنا كانَ العِتَابُ الذي نَزَلَ كالصاعقةِ : ((اهنا يمن جنا وجنت جينا وكفنا بابك , ولف الجهل ماينسي شمالك نسيت احبابك ؟ حبك نسيته ادولشة لو شالك عليه الغوى , كلبي انجوا بنار الهوى شنوه الدوى نكعد سوى , حاسبتك من اهل الوفى وجاعلتك العيني ضوى , ومن أبدى يطول العتب بس افك باب اعتابك , اصحى لزمانك وانتبه واتصور انت شناسي , صليت بلجي الي حوبه من الله من اجشف راسي , وادعي عليك طول الوكت يل نسيت اصحابك , ماينسون أصحاب الك تنسى الولف ماحسبت , اللحية كلي شفادتك ياصنعه منها تعلمت , مزين اللحية قلم وتسبح بسبحة كمت , خير ودين صرت فكرك الناس تهابك , اهنا يمن جنا وجنت جينا وكفنا ابابك )) .

تزخر هذه القصة الشعبية العراقية بالعديد من العِبر والحِكَم التي تتجاوز حدود الحكاية العاطفية البسيطة لتلامس قضايا إنسانية واجتماعية عميقة , وتبرزمأساة الوفاء الفردي في وجه النسيان الجماعي , فالفتاة مثلت الوفاء المطلق , فصانت العهد لسنين طويلة , ودفعت عمرها ثمناً لهذا الثبات , كانت رؤيتها للحب رؤية مثالية لا تتغير بالزمن أو الظروف , هذا الوفاء هو جوهر القصة وسبب خلود القصيدة , ومثّل الشاب (( محمد الجبار )) , الخضوع لمتطلبات الحياة المادية والاجتماعية , حيث انخرط في التجارة , تزوج , وأنجب , و(( نسي عهوده )) , الدرس هنا هو أن الازدهار المادي والاندماج الاجتماعي قد يكونان مدفوعي الثمن بالتنازل عن العهود الشخصية والجميلة , لتأتي العِبرة : الوفاء هو فعل اختياري يقوم على قوة الإرادة لا على سهولة الظروف , وأحياناً يكون الوفاء لشخص واحد هو أعظم مقاومة لتيار الحياة الجارف الذي يدعو إلى النسيان.

تظهرقسوة الأعراف الاجتماعية على المرأة , عندما كانت الأعراف السائدة تمنع المرأة من الذهاب إلى السوق بمفردها , مما حال دون لقائهما لسنوات طويلة , والأعراف الاجتماعية , وإن بدت لحفظ المجتمع , فقد تكون عائقاً قاسياً يحرم الأفراد من حقهم في التواصل أو إتمام وعودهم, لم تستطع الفتاة الوصول إليه إلا بعد أن (( أخذ الشيب برأسها )) كأن المجتمع لا يمنح المرأة الحرية إلا بعد أن يسرق منها شبابها.

وعن أثر الزمن في الذاكرة والقلب , نرى ان الزمن بالنسبة للفتاة كان عاملاً مُصلباً للعهد , وبالنسبة للشاب كان عاملاً ماسحاً للذاكرة ومُنشئاً لحياة جديدة , حيث يظهر هذا التباين أن الزمن ليس محايداً , بل هو مرآة لما يحمله القلب , لمن يختار الوفاء , يكون شاهداً , ولمن يختار النسيان , يكون وسيلة .
السلطة الأزلية للفن في تخليد الحقيقة , لم يستطع الشاب الرد بكلمة واحدة لـ (( هول الموقف )) ,وقصيدته التي كتبها لاحقاً (( لم تلاقي صدى )) قصيدة العاشقة , والدرس هذا يؤكد أن الصدق الروحي والمعاناة الحقيقية هما وقود الإبداع الخالد, و القصيدة لم تخلد فقط القصة , بل خلدت حقيقة أن الوفاء قد انتصر معنوياً , بينما تلاشى نسيان الرجل وضعفه تحت وطأة الكلمات الصادقة.

صباح الزهيري .






ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مقامة مأزق فارس الملل : اللومُ عادةُ مَن لا يُغامرون , فلسفة ...
- مقامة تأجيل الصدمة .
- ألمقامة الاستغنائية .
- مقامة غجرية : وُضوءُ الغَجَر وسُكْرُالوَجْد ...قُبْلةُ المَو ...
- مقامة الشجاعة : اذا حلت المقادير بطلت التدابير.
- مقامة الحلم الطويل .
- المقامة الإسماعيلية في فضائل السلالة الخليلية .
- مقامة جشع الورثة وسوء خاتمة التركة.
- مقامة الخلجات .
- مقامة حميد يا مصايب الله : صرخة الهور والحب الضائع .
- مقامة رحى الخزاف .
- مَقَامَةُ حِفْظِ السِّرِّ بَيْنَ الْأَمَانَةِ وَالْحِكْمَةِ ...
- مقامة أبانا .
- مقامة العبر .
- مقامة تجليات قلق الورّاق .
- مقامة ام الكعك .
- مقامة غنائية .
- مقامة الرجاء الشطرنجية : في وصفِ لعبةِ التَّشظّي .
- مَقَامَةُ لَبَنِ العُصْفُورِ.
- مقامة الأنتخابات .


المزيد.....




- -فاطنة.. امرأة اسمها رشيد- في عرضه الأول بمهرجان الفيلم في م ...
- النجمات يتألقن في حفل جوائز -جوثام- السينمائية بنيويورك
- الأدب الإريتري المكتوب بالعربية.. صوت منفي لاستعادة الوطن إب ...
- شذى سالم: المسرح العراقي اثبت جدارة في ايام قرطاج
- الفنان سامح حسين يوضح حقيقة انضمامه لهيئة التدريس بجامعة مصر ...
- الغناء ليس للمتعة فقط… تعرف على فوائده الصحية الفريدة
- صَرَخَاتٌ تَرْتَدِيهَا أسْئِلَةْ 
- فيلم -خلف أشجار النخيل- يثير جدلا بالمغرب بسبب -مشاهد حميمية ...
- يسرا في مراكش.. وحديث عن تجربة فنية ناهزت 5 عقود
- هكذا أطلّت الممثلات العالميات في المهرجان الدولي للفيلم بمرا ...


المزيد.....

- زعموا أن / كمال التاغوتي
- خرائط العراقيين الغريبة / ملهم الملائكة
- مقال (حياة غويا وعصره ) بقلم آلان وودز.مجلةدفاعاعن الماركسية ... / عبدالرؤوف بطيخ
- يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال ... / السيد حافظ
- ركن هادئ للبنفسج / د. خالد زغريت
- حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني / السيد حافظ
- رواية "سفر الأمهات الثلاث" / رانية مرجية
- الذين باركوا القتل رواية ... / رانية مرجية
- المسرواية عند توفيق الحكيم والسيد حافظ. دراسة في نقاء الفنون ... / د. محمود محمد حمزة
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة. الطبعة الثانية / د. أمل درويش


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صباح حزمي الزهيري - مَقامَةُ عَلْوَةِ النَّجَفِيّ والوَفَاءِ الهَالِكِ .