أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - صباح حزمي الزهيري - المقامة الباكسرومانية في جدل السلام والهيمنة.














المزيد.....

المقامة الباكسرومانية في جدل السلام والهيمنة.


صباح حزمي الزهيري

الحوار المتمدن-العدد: 8548 - 2025 / 12 / 6 - 13:34
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


حدثنا أبو العبرة الواضحة , قال : كنتُ أسير ذات يومٍ في سوق الأفكار , أتأمل بضاعة الزمن , وأقلّب في دفاتره المطوية , فاستوقفني شيخٌ وقور , قد نَقَشَتْ على وجهه تجاعيدُ القرون , وعينُه لا تريمُ عن النظر في مرآة التاريخ , فقلت له: يا حكيم العصر, ما خطبُ هذا الهرج والمرج الذي أرى؟ أيُّ سلامٍ هذا الذي يُبشَّرُ به , ويُسمّى (( باكس )) أوغسطيّاً أو أمريكيّاً ؟ أهو سِلمٌ ارتضته القلوب , أم هُدنةٌ فرضتها السيوف ؟ فقال لي الشيخ وهو يتكئ على عصا السرد الطويل: يا فتى , سلّمتَ , ولكنْ , ليس السلامُ سِلْمَ القلوب الطائعة , بل هو سكينةٌ مفروضةٌ بسطوة القوة القاهرة , ألا تسمع بالباكس رومانا ؟ ذاك سلامٌ دام قروناً , نعم , ازدهرت فيه التجارة والفنون , وعمّ الرخاء أرجاء الإمبراطورية العظمى من المحيط إلى الشرق , ولكنه لم يقم إلا على صليل الحديد الروماني , وسطوة الجيش الذي لا يُقاوَم .

ثم تنفس الصعداء وقال: وها نحن اليوم , نشهدُ العصرَ الحديث , حيث الباكس أمريكانا , سَلامٌ بعد الحرب العظمى الثانية , ساد في أطراف العالم الغربي , فطابَ العيشُ في دول الشمال واليابان والأنغلوفونيِّين , نَسِيَ هؤلاءُ ويلاتَ القتال , وانتقلت الصراعات إلى أطراف الأرض القصيّة , تُرَى على الشاشات , وتَمَسُّ أناساً آخرين , فهل غيَّرت القوةُ العظمى وجهها ؟ أم أنها , كالرومان من قبلها , تستبطنُ الغطرسة التي ترى لنفسها حقَّ التدخل والوصاية , وتَفرِضُ مصالحها بالقوة الاقتصادية , ووراءها شوكة العسكر؟ فالتاريخُ يعيدُ ذاته , لا بالهيئة نفسها , بل بتبادل الأدوار والمصالح .

فقلت له : يا مولاي , أليس السلامُ هو الأصل , والحربُ طارئة ؟ فنفض الشيخ يده وهو يغمغم: هيهات , لقد أضلَّكَ الوهمُ يا بُنيّ , فلو قرأتَ كتب ماكميلان , علمتَ أن السلام ليس الحالة الطبيعية للبشر , بل إن الصراعات هي التي شكَّلَتْ المجتمعاتِ , والمجتمعاتُ أنتجت صراعاتٍ في دورةٍ لا تنقضي , فالحربُ , يا ولدي , هي المنطلقُ الرئيسُ للقيم والأفكار , وهي التي تُحَدِّدُ الهياكلَ الاجتماعيةَ والسياسية , وتُرَتِّبُ الأوامرَ والنواهي اللوجستيةَ التي تفوقُ تعقيدَ الأنشطة السلمية , وارتفعت نبرته وهو يسترسل: وللهِ في خلقه شؤون , فكم دفعت هذه الحربُ , بفظاعتها , إلى تقدمٍ تقنيٍّ لم يكن ليتحقق في زمن السلم , فـ(( مانهاتن )) النووي , و(( البنسلين )) العلاجي , كلاهما وُلِدَا في حمَّى القتال , حيث تُجيزُ الضرورةُ ما لا يُجيزه الرخاء , وتُفرضُ الضرائبُ الاستثنائيةُ لتمويل مشاريعَ طموحة , بل إن المساواةَ بين طبقات المجتمع ارتفعت في فترات الحرب العالمية , وشهدت بريطانيا العظمى في خضمها تحولاً اجتماعياً بتمكين المرأة من التصويت , بعد أن أثبتت كفاءتها في ميادين الإنتاج والإدارة , حين غاب الرجالُ عنها.

فقلتُ متعجباً: إذن , فالحربُ شرٌّ لا مفرَّ منه , وطريقٌ نحو التقدم لا بد منه ؟ فأجابني الشيخ بنظرةٍ حكيمة: لا أُزكِّيها , ولا أُبشِّرُ بزوالها , فالحربُ تبقى عملاً منظَّماً من أعمال العنف , غايته إجبارُ الآخر على الخضوع , ولكنه واقعٌ , فالتاريخُ لا يُخبرنا بنهايةٍ للحرب , بل يعلِّمنا أن الصراعَ يغيِّرُ أشكالَه , فمن سيوفِ الرومان إلى القنبلةِ النووية , ومنها إلى الحروب السيبرانية التي تشلُّ نُظُمَ الحياة اليومية , وختم كلامه قائلاً: إن القناعةَ الواثقةَ التي نخرجُ بها من هذا الجدل هي : الحروبُ لن تنتهي من الحيثيات الإنسانيةِ في أي وقتٍ قريب , فسواء كان (( باكس )) على نسق الروماني أو الأمريكي , فاعلم أنه سلامٌ موقوتٌ , تحته جذوةٌ من صراع كامن , فهل أنت مستعدٌ لتقبُّلِ هذه المفارقة ؟

إن المتأمل في هاتين الفترتين من (( السلام المفروض)) ليجد أوجه شبهٍ لا تُنكَر , فكلاهما قام على فكرة المركز المُهيمِن الذي يفرضُ النظامَ والاستقرار بالقوة العسكرية أولاً , ثم بالقوة الاقتصادية والثقافية ثانياً , فكما بسطت روما نفوذها بجيوشها التي لا تُقهَر على حوض المتوسط , بسطت أمريكا سيطرتها على النظام الدولي بعد انهيار السوفيت , ولكن الفارق الأهم يكمن في طبيعة النظام نفسه , فـ (( الباكس رومانا )) كان هيمنة مطلقة لإمبراطورية واحدة تتخذ شكل ديكتاتورية , بينما (( الباكس أمريكانا )) هي هيمنة نسبية ضمن نظام دولي متعدد الأقطاب , لا تستطيع فيه أمريكا إلغاءَ القوى الأخرى تماماً , بل تتعايش معها في توازنات معقدة , مما يجعل سلامها أكثر هشاشة وأقل استدامة.

كما أن أدوات القوة اختلفت بين النموذجين , فبينما اعتمدت (( باكس رومانا )) على القوة العسكرية الرومانية بشكل أساسي لفرض النظام واستخلاص الموارد , توسعت أدوات (( باكس أمريكانا )) لتعانق القوة الاقتصادية ( الدولار, التجارة العالمية ) والثقافية ( السينما , التكنولوجيا , الأفكار) , لقد كانت شرعية روما مستمدة من قوتها الذاتية وقدرتها على القتل الجماعي المنظم , أما أمريكا , ورغم اتهامها بـ(( الغطرسة )) , فهي تعمل تحت مظلة شبكة من المؤسسات الدولية ( الأمم المتحدة , الناتو , البنك الدولي ) , وإن كانت توجهها لمصالحها , هذه الفروقات تجعلنا نخلص إلى أن تحديات إدارة الهيمنة في العصر الحديث أكثر تشابكاً , فالقوة ليست في السيف وحده , بل في النفوذ الذي يتسرب إلى عقول الناس وأنظمتهم المالية.

صباح الزهيري .






ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مقامة الأقصاء : من إفراد البعير المُعَبَّد إلى تفكيك المجتمع ...
- مقامة الميمر: عذوبة اللحن وغموض الأصل .
- مَقامَةُ عَلْوَةِ النَّجَفِيّ والوَفَاءِ الهَالِكِ .
- مقامة مأزق فارس الملل : اللومُ عادةُ مَن لا يُغامرون , فلسفة ...
- مقامة تأجيل الصدمة .
- ألمقامة الاستغنائية .
- مقامة غجرية : وُضوءُ الغَجَر وسُكْرُالوَجْد ...قُبْلةُ المَو ...
- مقامة الشجاعة : اذا حلت المقادير بطلت التدابير.
- مقامة الحلم الطويل .
- المقامة الإسماعيلية في فضائل السلالة الخليلية .
- مقامة جشع الورثة وسوء خاتمة التركة.
- مقامة الخلجات .
- مقامة حميد يا مصايب الله : صرخة الهور والحب الضائع .
- مقامة رحى الخزاف .
- مَقَامَةُ حِفْظِ السِّرِّ بَيْنَ الْأَمَانَةِ وَالْحِكْمَةِ ...
- مقامة أبانا .
- مقامة العبر .
- مقامة تجليات قلق الورّاق .
- مقامة ام الكعك .
- مقامة غنائية .


المزيد.....




- صورة صادمة كيف غرقت منطقة بأكملها تحت الماء.. إليك أثر مزيج ...
- سوريا.. مالك جندلي يوضح موقفه من -إلغاء- حفل مُرتقب له في حم ...
- كبسولة زمنية تُفتح بعد 133 عامًا في كانساس.. ماذا وُجد بداخل ...
- من الدائرة القطبية إلى جبال سويسرا الثلجية.. أبرز رحلات قطار ...
- مفاوضات ميامي: اتفاق إطاري بين واشنطن وكييف على الأمن والردع ...
- مظاهرة في حماة إحياء للذكرى الأولى لعملية ردع العدوان في سور ...
- الاتحاد الأوروبي: -الدعم السريع- ارتكبت جريمة حرب في كلوقي
- بين واشنطن وطهران.. ما مسارات تشكيل الحكومة العراقية؟
- تقرير أممي: عام 2024 الأشد حرارة تاريخيا في العالم العربي
- الجيش الأوكراني: إسقاط 615 هدفا معاديا خلال الليلة الماضية


المزيد.....

- اليسار الثوري في القرن الواحد والعشرين: الثوابت والمتحركات، ... / رياض الشرايطي
- رواية / رانية مرجية
- ثوبها الأسود ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- شيوعيون على مر الزمان ...الجزء الأول شيوعيون على مر الزمان ... / غيفارا معو
- حكمة الشاعر عندما يصير حوذي الريح دراسات في شعر محمود درويش / د. خالد زغريت
- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت
- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت
- جسد الطوائف / رانية مرجية
- الحجز الإلكتروني المسبق لموسم الحنطة المحلية للعام 2025 / كمال الموسوي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - صباح حزمي الزهيري - المقامة الباكسرومانية في جدل السلام والهيمنة.