أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - بن سالم الوكيلي - حين يبصر القلب














المزيد.....

حين يبصر القلب


بن سالم الوكيلي

الحوار المتمدن-العدد: 8560 - 2025 / 12 / 18 - 09:35
المحور: الادب والفن
    


لم يكن جدي مولاي أحمد بن إدريس يرى.

هكذا كان يظنه الناس.

لكنني، منذ طفولتي، كنت أشعر أن في عماه سرا لا نفهمه، وأن العينين اللتين فقدهما قد تركتا مكانهما لشيء آخر، أعمق وأهدأ.

كنت طفلا، أمسك بيده كل صباح، ونسير معا في الدرب الترابي المؤدي إلى الزاوية التيجانية بقرية كرمة بن سالم. كان الدرب ضيقا، كثير الالتواء، محفوفا بالحجارة والحفر، ومع ذلك لم يتعثر جدي يوما. كنت أراقب قدميه، وأتساءل في صمت: كيف يعرف الطريق؟ وكيف يسبقني بخطوة، وأنا الذي أراه وهو لا يراني؟

كنت أظن أنني أقوده، غير أن شعورا خفيا كان يتسلل إلي كل مرة، يقول إن الأمر معكوس، وإن اليد التي أمسكها إنما كانت تمسكني كي لا أضيع.

كان جدي يؤذن عند باب بيته الطيني، تطوعا، في أوقات الصلاة. يقف ثابتا، يرفع رأسه نحو السماء التي لا يراها، ويطلق الآذان بصوت مبحوح، لكنه صادق. كان النداء يتردد في الحقول، يوقظ الدروب، ويصعد إلى النوافذ المغلقة. لم يكن ينتظر أحدا، ولا يسأل إن أجابه صوت. وحين سألته ذات مرة، بفضول طفل: لماذا لا تؤذن في المسجد يا جدي؟ سكت لحظة، ثم قال بهدوء أربكني: يا بني، كل الأرض مساجد الله، ومن وسع قلبه، وسع الله له المكان.

في المساء، كان يجتمع مع رجال جيله على سطح الزاوية. شيوخ تجاوزوا السبعين، أجسادهم منحنية، لكن أرواحهم منتصبة. كانوا يجلسون في حلقة ذكر بلا ترتيب، بلا إمام، كأنهم تعاهدوا على ألا يتقدم أحدهم خطوة على الآخر. كانت أصواتهم تتعالى ثم تخفت، تتداخل ثم تصمت، حتى يخيل إليك أن السطح نفسه صار يردد معهم.

وقبيل المغرب، يحدث ما كان يثير دهشتي كل مرة. يخرج أحدهم خرقة بيضاء، ناصعة البياض، كأنها قطعة من غيب طويت بعناية. تفرد الخرقة أمامهم، ويجلسون حولها في صمت ثقيل، قبل أن يبدأ الذكر من جديد. كنت أراقب المشهد بقلب طفل، أحاول أن أفهم: لماذا هذه الخرقة؟ ولماذا هذا البياض الذي يشبه الكفن؟

في إحدى الأمسيات، لم أعد أحتمل السؤال. التفت إلى جدي، وهمست: لماذا هذه الخرقة البيضاء يا جدي؟

توقف عن الذكر. شد على يدي، كأنه يريد أن يثبتني في مكاني، ثم قال بصوت خفيض، أقرب إلى سر: من كان واصلا في الإيمان، يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

تجمدت الكلمات في رأسي. كانت أكبر من قدرتي على الفهم. ضحكت، ضحكة سريعة، امتزج فيها الجهل بالجرأة، وأشرت بعيني إلى أحد الرجال وقلت: وهل فلان، بأفعاله هذه، سيرى الرسول يا جدي؟

سكت.

لم يغضب.

ولم يعاتبني.

ابتسم فقط. كانت ابتسامته تلك تحمل يقينا أربكني أكثر من أي توبيخ. ثم قال بهدوء يشبه الحكم: كل يلتقي بأفعاله يا بني. من سار في النور، لقي النور، ومن حمل الظلمة، لم ير إلا ظله.

ثم ضمني إلى صدره. شعرت بدفء غريب، كأنني أعود إلى مكان أعرفه منذ زمن بعيد. وبدأ يردد، كأنه يخاطبني ويخاطب الغيب في آن واحد: ا سالم… ا سالم… اللوحة د الجامع... إن شاء الله يا وليدي.

لم أفهم آنذاك ما قال. كانت عبارته لغزا، تركه في صدري ورحل. كبرت، وابتعدت عن القرية، وتفرقت بي الطرق، ورأيت من الدنيا ما لم أكن أتصوره. رأيت أناسا يصلون كثيرا، لكنهم لا يعرفون الرحمة. رأيت من يرفعون أصواتهم بالذكر، ويخفضون أفعالهم إلى حضيض الأذى. رأيت الدين يلبس كما تلبس الثياب، ويخلع عند أول اختبار.

وفي لحظات الانكسار، حين كانت الحياة تضيق، وتكثر الأسئلة بلا جواب، كنت أتذكر جدي الأعمى، فأفهم متأخرا. أدركت أن الخرقة البيضاء لم تكن كفنا، بل مرآة. من جلس أمامها، لم ير الرسول، بل رأى نفسه أولا. فإن وجد في أفعاله نورا، انعكس نورا، وإن وجد ظلمة، لم ير إلا ظله.

فهمت أن رؤية الرسول ليست رؤية عين، بل لقاء سلوك، وأن الإيمان لا يقاس بما نردده، بل بما نفعله حين نكون وحدنا، وحين لا يرانا أحد.

واليوم، كلما شعرت أن الطرق تتشابه، وأن العالم يضيق علي، أسمع صوته في داخلي، كما كان أول مرة: كل الأرض مساجد الله يا بني. فأهدأ، وأدرك أن من أبصر بقلبه مرة، لن يضيع الطريق، مهما طال العمى حوله.



#بن_سالم_الوكيلي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قصيدة نثرية: «حين يتكلم الحجر بلساني»
- سوق الدجاج في مولاي إدريس زرهون: مملكة الطائر السامي الذي لا ...
- «حين يختفي الساحر وتبقى القبعة: حكاية السياسة المغربية بين ا ...
- البنى التحتية وال«حلاوة» التنموية: قراءة سوسيولوجية في كهربا ...
- من ظلال التجربة إلى حكمة المسير: شهادة لمن يأتي بعدنا
- قصة تولد الآن في مولاي إدريس زرهون
- -مدينة الرحمة الإلكترونية: حين مات كلب وابتسمت الشاشات-
- أحجار في عيوننا: حين يشتعل الطين بين القرى
- مملكة المرايا المكسورة.. أو حين صار كل مغربي شناقا صغيرا
- “العلم الذي أجلس عليه الوطن”
- خبز مدعم بالورق... وأمة تطحن بالوعود!
- -جماعة وليلي – زرهون: إدارة تبحث عن موظفيها في برنامج «مختفو ...
- في بلاد المغرب... حيث تشتكي الأرض من أهلها والجن من قلة الفه ...
- حين يسائل الزمن ظله... وتذبل الخطب القديمة
- -أمة الأغبياء السعداء: حكاية تطور الغباء من خلل عصبي إلى أسل ...
- من رآه فليستعد
- غوستافو بيترو وغزة: حين يطل صوت من الجنوب على جرح مفتوح
- الحلايقية... حين كان للطفولة مجد آخر
- سروال المملكة المثقوب
- غبار على وجوه الأطفال... وبريق على سيارات الجماعة


المزيد.....




- زهرة الصحراء.. أيقونة في قطر تلهم الفنانين للحفاظ على تراث ا ...
- بطل الخيال العلمي -باك روجرز-.. وفاة الممثل الأمريكي غيل جير ...
- جوائز الأوسكار ستنتقل من البث التلفزيوني التقليدي إلى يوتيوب ...
- فنان هولندي يفوز بجائزة الكاريكاتير الأوروبي عن عمل ينتقد ال ...
- منظمة مغربية تطالب بتمكين اللغة العربية ووضع حد لتغول الفرنس ...
- 4 أفلام عربية من بينها العراقي كعكة الرئيس مرشحة لجائزة الأو ...
- حريق مفتعل أم قضاء وقدر؟ جدل حول وفاة الفنانة المصرية نيفين ...
- -صوت هند رجب- يمضي لمسافة أبعد في منافسات جوائز الأوسكار الـ ...
- -صوت هند رجب- و3 أفلام عربية أخرى تقتحم سباق الأوسكار
- الأوسكار في دورته الـ98.. قائمة بأبرز الأفلام المرشحة لنيل ا ...


المزيد.....

- مراجعات (الحياة الساكنة المحتضرة في أعمال لورانس داريل: تساؤ ... / عبدالرؤوف بطيخ
- ليلة الخميس. مسرحية. السيد حافظ / السيد حافظ
- زعموا أن / كمال التاغوتي
- خرائط العراقيين الغريبة / ملهم الملائكة
- مقال (حياة غويا وعصره ) بقلم آلان وودز.مجلةدفاعاعن الماركسية ... / عبدالرؤوف بطيخ
- يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال ... / السيد حافظ
- ركن هادئ للبنفسج / د. خالد زغريت
- حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني / السيد حافظ
- رواية "سفر الأمهات الثلاث" / رانية مرجية
- الذين باركوا القتل رواية ... / رانية مرجية


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - بن سالم الوكيلي - حين يبصر القلب