أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - بن سالم الوكيلي - الحلايقية... حين كان للطفولة مجد آخر














المزيد.....

الحلايقية... حين كان للطفولة مجد آخر


بن سالم الوكيلي

الحوار المتمدن-العدد: 8476 - 2025 / 9 / 25 - 20:39
المحور: الادب والفن
    


في عمق الذاكرة، حيث تتوارى التفاصيل خلف ستائر الزمن، وتفوح روائح الماضي كالعطر العتيق من صندوق طفولة نسيه الزمان على رف القلب، تلوح أمامي مشاهد من زمن لم يكن عاديا… زمن كنا فيه ملوكا صغارا، نحكم عوالمنا البسيطة بالبراءة، ونرسم على تراب قرية كرمة بن سالم ملامح حياة لا تشبه شيئا سوى الجمال الخالص.

كنا آنذاك تلاميذ، أو هكذا ظن الكبار، لكننا كنا أكثر من ذلك بكثير. كنا فرقة من الحالمين، نجتمع كل صباح في قاعة مهجورة تسمى "القروية"، بناية قديمة أنقذتنا من الشتات، فحولت نفسها، رغم تصدعاتها، إلى مدرسة. كانت تلك القاعة الخربة، التي شيدت على أساس مقر الجماعة القروية كرمة بن سالم منذ أمد، قد أهملت طويلا حتى دب فيها صمت الحنين… ثم جاءنا المعلم بن سعيد، ليوقظ الحجارة، ويزرع في الجدران صوت الحياة.

دخلنا المدرسة بأحذيتنا الممزقة وقلوبنا الممتلئة، وكان بن سعيد في انتظارنا، كما تنتظر الشجرة أول قطرة مطر. لم يكن معلما عاديا؛ كان لنا أبا، مخرجا، راويا، وفيلسوفا. كان يعرفنا واحدا واحدا، وينادينا بأسمائنا كما تنادي الأم أبناءها. لكنه، حين كنا نتحلق بعد الحصص، نُنشّط، نؤدي، نرتجل، نُضحك ونبكي، كان يضحك من قلبه ويصيح: "آه يا الحلايقية!"

نعم، كنا الحلايقية الصغار.
نصنع من باحة المدرسة حلقة، نرسمها بقلوبنا لا بأرجلنا، ونجتمع فيها كما يجتمع الرواة الكبار في ساحات المدن العتيقة. كان لكل منا دور، ولكل منا موهبة.

كنت أنا السارد، أجلس في وسط الحلقة، أتشرب نظرات من حولي، وأتفنن في الحكاية.
كانت القصص تخرج من لساني كأنها ولدت لتروى، بصوت مفعم بالشغف، وحركات ترافق الكلمة كأنها ظلها. وكنت، في تلك اللحظات، أتحول إلى راو مسكون بالسحر، أتحكم بإيقاع الحلقة، أنقلها من ضحك إلى دهشة، ومن دهشة إلى تصفيق.

إلى جانبي، كان محمد بن لمقدم، عبد اللطيف قداش ومحمد بوزرع، ومعهم آخرون من الرفاق، يلعبون أدوارا ساحرة؛ يرقصون بالأيدي، يصفقون، يتحركون داخل الحلقة إذا تطلب الأمر ذلك، يجسدون الشخصيات، يبعثون الحياة في المشاهد، ويشعلون نار التفاعل في عيون الحاضرين.

كان هشام الوكيلي يفتتح العرض، بصوته القوي وثقته التي لم نرها في أحد من الكبار.
وكان عبد الجليل أقديم يبدع في تقليد الشخصيات، يخطف الضحك من الأفواه ويزرع الدهشة في العيون.
عبد العالي المجاهد، كان ذا حضور مهيب، صوته عميق ونظراته حادة، يقف في وسط الحلقة وكأنه شاعر جاهلي أو خطيب من زمن آخر.

وكنا نضحك، ونصرخ، ونتجادل، ونبدع دون أن ندري أننا نمارس فنا عريقا، وأننا نعيد إنتاج تقاليد الحكواتيين في أنقى صورها، بنقاء طفولتنا.

لم نكن وحدنا… فقد كان معنا كثيرون، رفاق وأصدقاء عبروا في حياتنا كنسائم الصباح، كل منهم كان نغمة في سمفونية تلك الطفولة الراقية. لا أتذكر الجميع، لكن وجوههم ما زالت تعيش في عمق الذاكرة، تومض كلما استدعيت تلك الأيام.

ولعل واحدة من تلك اللحظات التي لا تنسى، أنني كنت طفلا في السنة الرابعة أو الخامسة من الابتدائي، حين اصطحبونا ذات صباح إلى قرية بني مرعاز المجاورة. هناك، شاركنا في تنشيط حفل تدشين سد "تيزورين"، بعد أن مر موكب والي جهة مكناس آنذاك، فغادر كما غادر معه السد... أما نحن، أطفال "القروية"، فقد ارتشفنا الشاي، وتذوقنا الحلوى، وتركنا في المكان أثراً صغيراً من بهجة طفولتنا.

أما بن سعيد، معلمنا الذي لم يكن ينتظر شكرا ولا جزاء، فكان دائما هناك، ينصت لنا، يضحك معنا، يصوب لنا أخطاء اللغة، ويعلمنا كيف نرتقي بالفكرة. لم يكن يعاملنا كأطفال، بل كصناع للحلم، كجيل يجب أن يمنح الأمل.

كان يأتي قبل الجميع، ويغادر بعد أن يغادر الجميع. يحمل دفاتره القديمة، ويكتب لنا من نور قلبه لا من صفحات المنهج. كان إذا تحدث عن الوطن، دمعت عيناه. وإذا قرأ علينا قصة، أحسسنا أن الزمن يتوقف، وأن الحكاية أكثر من مجرد كلمات.

ومع كل ذلك، لم تكن حياتنا سهلة. كنا نحمل على ظهورنا حقائب مثقلة لا بالكتب فقط، بل بالحلم، بالجوع أحيانا، وبالخوف أحيانا أخرى. لكننا كنا نؤمن، دون أن نعرف كيف تعلمنا ذلك، أن المدرسة بوابتنا إلى العالم.

واليوم، بعد أن أُغلقت "القروية"، وسكتت أصواتنا عن باحتها، لا تزال جدرانها تحكي قصتنا لمن يمر. ربما تنهار يوما، لكن ذكرياتنا لن تنهار.
لا تزال ضحكاتنا، ونقاشاتنا، وصراخنا الطفولي، ورقصاتنا الدائرية في فن الحلقة، تسكن بين شقوق الحيطان.
ولا يزال صوت بن سعيد، بشاربه الكث، وصوته الدافئ، يصدح في الأفق: "ها هما جايين الحلايقية!"

وها أنا أكتب هذه القصة، لا كحنين فردي عابر، بل كهدية من القلب إلى كل الأطفال، حيثما وجدوا على كوكب الأرض… إلى أولئك الذين ما زالوا يبحثون عن مكان صغير يتسع لأحلامهم الكبيرة، وخاصة إلى تلميذات وتلاميذ مجموعة مدارس كرمة بن سالم، أولئك الذين شاركونا المكان، وورثوا الحكاية، والذين قد يصبحون يوما حلايقية جدد، يملكون الجرأة على الحلم، والقدرة على الحكي.

يا معلمي، يا بن سعيد،
هذا النص تكريم لك، ولنا، ولكل من عاش تلك اللحظة التي لا تشبه سواها.
تكريم لرفاقي، لضحكاتنا، لعبثنا، لصراعاتنا البريئة، وأحلامنا الكبيرة.
تكريم لطفولة لا تزال حتى اليوم، رغم قسوة الزمن، تسكننا كأنها الخلاص.

ولن نقول وداعا...
بل إلى لقاء آخر، في حلقة أخرى، هناك… حيث لا يشيخ الحب، ولا تنسى الطفولة.



#بن_سالم_الوكيلي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سروال المملكة المثقوب
- غبار على وجوه الأطفال... وبريق على سيارات الجماعة
- في بني مرعاز... حيث استيقظ المركز الصحي من غفوته الطويلة
- ظل الولي ونور الزائر (من أدب الرحلة الروحية)
- -نداء من قلب مكسور-
- -يسرى... زهرة وسط صخر-
- -بقرار من ميلانيا: باب الأمل في غزة-
- ثمن الشمعة
- لا ظل في الرمل لمن لا ذاكرة له
- الزاوية التي لا تنام
- همس الجبال ونور الأرواح
- -قبل أن أنسى اسمي-
- حبر الندبة في عقدة القمر (بصوت الرجوع، وتنهيدة الختام)
- حبر الندبة في عقدة القمر (بصمت البذور، وتنهيدة الحكاية الساد ...
- حبر الندبة في عقدة القمر (بفم مكموم، وتنهيدة الحكاية الخامسة ...
- أنين القباب في وادي الجني الأسود رواية رمزية – شاعرية – رؤيو ...
- حبر الندبة في عقدة القمر (بنبض الحرف الأخير، وتنهيدة الحكاية ...
- حبر الندبة في عقدة القمر (بحنجرة الرمل، وتنهيدة الحكاية الثا ...
- حبر الندبة في عقدة القمر(بصوت الغياب، وتنهيدة الحكاية الثاني ...
- الاستدعاء الشفهي: حين تتحول الإجراءات إلى فصول من العبث الإد ...


المزيد.....




- افتتاح مهرجان هولندا السينمائي بفيلم -ناجي العلي- وأفلام عن ...
- -شومان- تستعيد أمجد ناصر: أنا هنا في لغتكم
- افتتاح مهرجان هولندا السينمائي بفيلم -ناجي العلي- وأفلام عن ...
- سطو -سينمائي- بكاليفورنيا.. عصابة تستخدم فؤوسا لسرقة محل مجو ...
- فيلم -ني تشا 2-.. الأسطورة الصينية تعيد تجديد نفسها بالرسوم ...
- تعاطف واسع مع غزة بمهرجان سان سباستيان السينمائي وتنديد بالح ...
- -ضع روحك على يدك وامشي-: فيلم يحكي عن حياة ومقتل الصحفية فاط ...
- رصدته الكاميرا.. سائق سيارة مسروقة يهرب من الشرطة ويقفز على ...
- برتولت بريشت وفضيحة أدبية كادت أن تُنسى
- مواسم القرابين لصالح ديما: تغريبة صومالية تصرخ بوجه تراجيديا ...


المزيد.....

- الرملة 4000 / رانية مرجية
- هبنّقة / كمال التاغوتي
- يوميات رجل متشائل رواية شعرية مكثفة. الجزء الثالث 2025 / السيد حافظ
- للجرح شكل الوتر / د. خالد زغريت
- الثريا في ليالينا نائمة / د. خالد زغريت
- حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول / السيد حافظ
- يوميات رجل غير مهزوم. عما يشبه الشعر / السيد حافظ
- نقوش على الجدار الحزين / مأمون أحمد مصطفى زيدان
- مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس ... / ريمة بن عيسى
- يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط ... / السيد حافظ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - بن سالم الوكيلي - الحلايقية... حين كان للطفولة مجد آخر