بن سالم الوكيلي
الحوار المتمدن-العدد: 8425 - 2025 / 8 / 5 - 23:20
المحور:
الادب والفن
في قلب الجبل، حيث تعانق السماء ذرى الصمت، وتتكئ الحقول على كتف الريح، يرقد دوار عين السي عمار، وادعا كحكاية في صدر الزمن، منسيا كوشم قديم على ذاكرة الخريطة. هناك، في حضن هذا المكان الذي لم تطأه التنمية، ولا زارته الوفود، ولدت أسطورة من لحم وضياء… اسمها يسرى.
ليست يسرى مجرد امرأة من المدينة، تعبر الطرقات لتؤدي عملا رسميا في روض صغير. إنها سيدة النور، كما تسميها نساء القرية، امرأة تمشي على الأرض بقلب من سماء. في كل صباح، تغادر بيتها في مولاي إدريس زرهون، وتشق طريقا من التعب والضباب نحو الدوار، لا تستقبلها فيه لافتات ولا إشارات، بل أذرع مفتوحة وقلوب تعرف امتنان الأرض لمن يرويها.
هي تأتي محملة بمحبة لا تشترط، وعطاء لا يقاس بالراتب أو الحوافز. تستأجر سيارة من مالها الخاص، إذ أن الدوار الذي تتنقل إليه لا يتوفر على وسائل نقل رسمية، مما يضطرها إلى تحمل هذه التكاليف. تطبع أوراقا، تحضر القصص، وتخبئ الهدايا في حقيبتها الصغيرة، وكأنها تحمل العيد في يديها لأطفال لا يعرفون إلا الأعياد التي تأتي معها.
في قسم الروض، حيث تتشابك الألوان مع ضحكات البراءة، تنحني يسرى أمام الطفولة، لا لتلقن الحروف فحسب، بل لتزرع الحلم، وتنثر الإيمان في قلوب لم تعرف غير حدود الجبل، وسماء القرية. تقول للأمهات إن المستقبل ليس حكرا على المدن، وإن القرى يمكن أن تنجب الأطباء والمهندسين… إن هي فقط آمنت بأطفالها.
لم تعد نساء عين السي عمار ينتظرن دورهن في المراكز الصحية أو في طوابير المساعدات، بل ينتظرن يسرى كل صباح كما ينتظر المطر. في عيونهن، هي المعلمة والمربية، وهي الرفيقة والنصيحة، وهي الوجه المضيء وسط تعب الأيام. تعلم أطفالهن الحروف، وتعلمهن هن أن الكرامة تبدأ من المعرفة، وأن الحلم، حين تزرعه امرأة، يورق في قلوب أمة بأكملها.
يسرى، التي جاءت أول مرة غريبة، أصبحت اليوم جذرا في ذاكرة المكان، وعنوانا للثقة، وصوتا للحق وسط صمت التهميش. بفضلها، صار التعليم في هذا الدوار لا يرى كمجرد مرحلة، بل كمصير يمكن أن يغير كل شيء.
هي أم ثانية، وأخت كبرى، وصديقة طفولة مؤجلة. حضورها لا يقتصر على الجدران الأربعة للروض، بل يمتد إلى الأزقة، وإلى المجالس النسائية، وإلى قصص تروى على ضوء القنديل.
وهكذا، تظل يسرى، المرأة التي جاءت من المدينة لتحمل مشعل التنوير، علامة مضيئة في ليل طويل. تشبه القصائد حين تقال بصدق، والنجوم حين ترشد التائهين. تبقى سيرتها تتردد في الحقول، وعلى ألسنة الأمهات، وتروى للأجيال كما تروى الحكايات الجميلة قبل النوم.
يسرى... ليست فقط معلمة. إنها نبوءة قرية آمنت أخيرا بأن الغد ممكن.
#بن_سالم_الوكيلي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟