أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - بن سالم الوكيلي - الزاوية التي لا تنام














المزيد.....

الزاوية التي لا تنام


بن سالم الوكيلي

الحوار المتمدن-العدد: 8397 - 2025 / 7 / 8 - 18:09
المحور: الادب والفن
    


لا تقع على طريق رئيسي، ولا تدلك عليها لافتة.
إنها هناك... مختبئة بين ظلال الجبل ونبض الأرض، في قرية صغيرة تدعى كرمة بن سالم، حيث الصمت صلاة، والنسيم ذاكرة، والزمن يمشي على رؤوس أصابعه كي لا يوقظ النور.

في هذا الركن المنسي من العالم، تنهض الزاوية التيجانية لا كحجارة مرصوصة، بل ككائن حي، يتنفس الذكر، ويحرس بركة قديمة تتردد في جدرانه، كأنها ترتل من كتاب غير مكتوب.

كانت الزاوية يوما مهوى قلوب، وملاذ أرواح هجرتها ضوضاء الحياة لتستدفئ بأنفاس المحبة الإلهية.
هناك، تحت سقف من خشب البرتقال، تخرج الأرواح من قوقعة الأسماء، وتغدو مجردة، نقية، مرفرفة كدعاء يطير بلا جناحين.

مر من هنا رجال، لا يعرفهم التاريخ، لكن الأرض تعرف خطاهم، والسماء تحفظ أسماءهم.
منهم جدي، المرحوم مولاي أحمد بن إدريس، رجل كان يرى بالقلب، ويهتدي بعصاه، لا بعينيه.
في كل فجر، كان يبدأ التهليل من باب منزله ويؤذن للصلاة، اعتقادا منه أن الأرض كلها بيت الله، وأن كل لحظة تستفتح بذكر، لا تضيع.
لم يكن يتحدث كثيرا، لكنه إذا نطق باسم النبي ﷺ، خفتت الأصوات وارتجف الهواء، وكأن الكلمات خرجت من جوف نور لا من فم بشري.

وحوله، آل بلمقدم، واليحياوي، وآل الوكيليين أمثال المرحوم الحاج بلحسن، وعمي السي أحمد "الزعيم"، وأهل الله من أهل النور، كانوا يأتون الزاوية لا ليلقوا دروسا، بل ليذيبوا نفوسهم في محبة لا تقال، وليقيموا الليل وهم جلوس، في حضرة لا يعرفها إلا من ذاق.

أسماؤهم قد لا تذكر في الخطب، لكن ريحهم ما زالت في المكان... كأنهم رحلوا ليظلوا.

ثم مر زمن النسيان.

بردت الأرائك، وسكت الذكر، وغادر الضوء ببطء كغريب لا يريد أن يوقظ أحدا.
غابت الوجوه، ولم يبق في الزاوية إلا عتبة تشبه القلب، وصمت يشبه الدعاء.

إلا رجلا واحدا...
عمي محمد خيي.

كان آخر من تبقى من السلالة التي تتوضأ بالمحبة، وتصلي على نور البصيرة.
كان يمشي في الفجر كمن يوقظ ذاكرة المكان، بعصاه، وعينين سكن فيهما الزمن.
يفتح الباب القديم، يربت على الحيطان، يعد الوسائد كما تعد أم سرير طفلها الغائب، ثم يجلس تحت شجرة البرتقال العتيقة ويبدأ الذكر.

لم يكن يحدث الناس، لكنه كان يحدث الله.

وذات صباح، جلس بجانبه ابنه، يدعى عبد الله، سأل بخفوت يشبه الرجاء:

"لماذا تأتي إلى هنا، أبي؟"

أجابه عمي محمد، وصوته يقطر محبة:

"لأني لا أريد لهذا الضوء أن يموت."

"أي ضوء؟"

ابتسم العجوز كمن يسلم سرا:

"ذاك الذي لا يرى، لكنه يضيء من يبحث عنه...
نور مر من هنا، وترك أثره في كل شيء... في الجدران، في الهواء، فينا."

مرت السنوات، ورحل عمي محمد كما يرحل العطر... دون ضجيج، تاركا أثرا لا يمحى.
ساد الصمت في الزاوية، وذبلت شجرة البرتقال قليلا، حتى ظن الناس أن الباب قد أغلق إلى الأبد.

لكن في صباح رمادي، عاد عمي عبد الله، رجلا هذه المرة.
لم يطرق الباب. فتحه كما تفتح الذكرى في القلب.
دخل، وجلس، وبدأ الذكر... بصوت خافت، لكنه مليء بحياة كاملة.

جلس حيث كان يجلس والده، شعر وكأن النسيم يعرفه، وكأن البرتقالة العتيقة ابتسمت له خفية.

وفي المساء، حين مر أحد القرويين بجانب الزاوية، قال لجاره:

"هل تسمع؟... كأن هناك أحدا يذكر الله."

فهمس الآخر، دون أن يلتفت:

"الزاوية لا تنام يا صاحبي... النور لا يموت."



#بن_سالم_الوكيلي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- همس الجبال ونور الأرواح
- -قبل أن أنسى اسمي-
- حبر الندبة في عقدة القمر (بصوت الرجوع، وتنهيدة الختام)
- حبر الندبة في عقدة القمر (بصمت البذور، وتنهيدة الحكاية الساد ...
- حبر الندبة في عقدة القمر (بفم مكموم، وتنهيدة الحكاية الخامسة ...
- أنين القباب في وادي الجني الأسود رواية رمزية – شاعرية – رؤيو ...
- حبر الندبة في عقدة القمر (بنبض الحرف الأخير، وتنهيدة الحكاية ...
- حبر الندبة في عقدة القمر (بحنجرة الرمل، وتنهيدة الحكاية الثا ...
- حبر الندبة في عقدة القمر(بصوت الغياب، وتنهيدة الحكاية الثاني ...
- الاستدعاء الشفهي: حين تتحول الإجراءات إلى فصول من العبث الإد ...
- حبر الندبة في عقدة القمر (بلسان العفاريت، وتنهيدة الحكاية ال ...
- -الذين لم يصفق لهم… لكنهم يستحقون الوطن-
- -خرائط على جثث الطيور-
- كرمة بن سالم تروي... حين تتكلم القرى ويسكت بعض المسؤولين
- -الريح التي لا تعرف الحدود-
- الكبش الذي نجا من السكين: مرثية القيم في زمن الأضاحي المزيفة
- قلب مطفأ داخل آلة
- دوار الكرامة... لا ماء يباع، ولا صمت يشترى
- -كرمة بن سالم... حين تصلي الأرض ويرق قلب السماء-
- قلب على الموج: ملحمة مادلين


المزيد.....




- أنقذتهم الصلاة .. كيف صمد المسلون السود في ليل أميركا المظلم ...
- جواد غلوم: الشاعر وأعباؤه
- -الجونة السينمائي- يحتفي بـ 50 سنة يسرا ومئوية يوسف شاهين.. ...
- ?دابة الأرض حين تتكلم اللغة بما تنطق الارض… قراءة في رواية ...
- برمجيات بفلسفة إنسانية.. كيف تمردت -بيز كامب- على ثقافة وادي ...
- خاطرة.. معجزة القدر
- مهرجان الجونة يحتضن الفيلم الوثائقي -ويبقى الأمل- الذي يجسد ...
- في روايته الفائزة بكتارا.. الرقيمي يحكي عن الحرب التي تئد ال ...
- في سويسرا متعددة اللغات... التعليم ثنائي اللغة ليس القاعدة  ...
- كيت بلانشيت تتذكر انطلاقتها من مصر في فيلم -كابوريا- من بطول ...


المزيد.....

- المرجان في سلة خوص كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- بيبي أمّ الجواريب الطويلة / استريد ليندجرين- ترجمة حميد كشكولي
- قصائد الشاعرة السويدية كارين بوي / كارين بوي
- ترجعين نرجسة تخسرين أندلسا / د. خالد زغريت
- الممالك السبع / محمد عبد المرضي منصور
- الذين لا يحتفلون كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- شهريار / كمال التاغوتي
- مختارات عالمية من القصة القصيرة جدا / حسين جداونه
- شهريار / كمال التاغوتي
- فرس تتعثر بظلال الغيوم / د. خالد زغريت


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - بن سالم الوكيلي - الزاوية التي لا تنام