|
-قبل أن أنسى اسمي-
بن سالم الوكيلي
الحوار المتمدن-العدد: 8385 - 2025 / 6 / 26 - 19:50
المحور:
الادب والفن
لم أكن أعرف أن الغربة قد تبدأ من داخل البيت. لم أكن أعرف أن الإنسان يمكنه أن يعيش عمرا كاملا وهو يهرب من اسمه.
الحسين… شاب مثل كثيرين ممن تراهم يجلسون في المقاهي دون هدف، لكن خلف نظرته، كانت هناك مدينة بأكملها تحترق.
هذه ليست فقط حكايته، بل حكاية جيل بأكمله… جيل كتب عليه أن يكبر قبل الأوان، ويهاجر قبل أن يتعلم الوقوف.
هذه قصة الغرق في البر، والبحث عن معنى في وطن لا يسمع سوى الصمت.
"قبل أن أنسى اسمي"… دعني أحكي لك.
هناك، في ركن من أركان غابة باب "الرميلة"، تغيب شمس حارة في الظهيرة، ثم دافئة في المساء، دائرية كأنها قرص ذهبي تمر إلى جانبه طيور سوداء لم تأت إلى المدينة إلا منذ سنوات قليلة. هنا وهناك، غابات زيتون وصنوبر في الأعلى، وتتوسط هذه الطبيعة مدينة صغيرة تسكنها طبقة فقيرة، ترمز إلى أجيال قديمة، ولعل مآثرها التاريخية والعمرانية خير شاهد على أصالتها.
في هذه المدينة الإدريسية، ترى الناس في دروبها وأزقتها يتبادلون الهمسات والنظرات، ربما لأنهم لا يجدون ما يفعلون بسبب قلة مرافق الشغل وصغر المدينة. تتزايد مظاهر البؤس والحرمان، وتبدو للزائر وهو يمر في سيارته أو ماشيا على الأقدام، يجوب بعض المقاهي التي تكسو الشارع الوحيد، حيث ترى عشرات الشبان يرتشفون كؤوس الشاي. ترى أطفالا صغارا يدعون البيع والشراء، يحملون علب السجائر في اليد اليسرى، وصحونا مملوءة بالبيض المسلوق في اليد اليمنى، يهتفون بصوت رقيق: "كارو... بيض سخون..." يتعالى صياحهم ويكثر الضجيج، فيضطر نادل المقهى إلى طردهم، مرة بعنف، وأخرى بكلام السوق.
ترى، ما مصير هؤلاء؟ طبعا، مصيرهم كمصير جل الشباب الذين يتجمعون في دروب المدينة الضيقة ذات البناء التقليدي الشبيه بدروب فاس العتيقة. يتجمعون هنا وهناك، في المقاهي وخارجها، ويبقى الواقع أصعب، فترى نظراتهم ترمز إلى التحدي، وعلامات الهجرة إلى المدن الكبرى.
هناك تعرفت على شاب، ربما لم يكن من الممكن أن أتعرف عليه لولا بساطة هؤلاء الناس وظرافتهم التي تظهر حالتهم الاجتماعية وظرفهم المعيشي. إنه الحسين، بطل قصتنا. شاب من شباب مدينة مولاي إدريس، يعيش داخل أسرة فقيرة (أب وأم وأخت)، واحد من أولئك الذين جالوا بين مقاهي المدينة وهو لا يزال صغيرا، لم يتجاوز السابعة من العمر. أسمر اللون، نحيل الجسم، طويل القامة، جميل الخلقة. كان يتجمع مع أبناء الحي ليتبادلوا الحكايات والقصص الرائعة. يحب اللعب وتكوين "عصابات" كما في الأفلام الأمريكية، وكان مولعا بـ"مقهى الشباب" لمشاهدة أفلام الكاراتيه ورعاة البقر.
وها هو اليوم، بين عشية وضحاها، يجد نفسه في قلب طاحونة هذا الزمن وظروفه القاسية. لا يعرف سوى القهوة السوداء و"السجائر الزرقاء". لقد بذل مجهودا كبيرا لأجل الحصول على البكالوريا، لكن الظروف ازدادت تعقيدا بعد وفاة والده، فزاد شعوره بالمسؤولية وعدم الارتياح. في هذه الظرفية، حاول النسيان ليفرج عن نفسه، فتتزايد رغبته في العلاقات العاطفية، لتظهر "منى" كطرف منازع داخل نفسيته.
منى، فتاة جميلة ذات عينين زرقاوين وقوام متوازن، كانت تتباهى بلباسها الأنيق، وتعمل كل يوم وكل ساعة على تسريحة شعرها الذهبي لتبدو عروسا رائعة. كان شعرها الذهبي يجعل من الحسين أسيرا لقلبها، فيتناسى أيام محنته. تزايدت رغبته الجنسية، وأُطلق العنان لشهواته، ففقدها. لم تمر سوى يومين حتى علم أن منى كانت على علاقة مع أحد أبناء المنطقة المقيمين في فرنسا، وأن لباسها الجميل كان من مصدره، ذاك الشخص ذو السيارة الحمراء الأنيقة.
وتزداد القصة عقدة حين يكتشف أن أمه وأخته تمتهنان الدعارة من أجل لقمة العيش. تتأرجح شخصية الحسين مما يعرفه عن أمه وأخته، وما صدر عن حبيبته "منى"، وتتداخل الأحداث ليصبح في وضعية صعبة. وتعود إلى ذاكرته صورة الأب، الرجل المحافظ، الحاج، الذي لم يعرف عنه أحد أي شبهة. كان "بالحاج" رجلا محبوبا من رجال الحي، يتحدثون عن شعبيته وحبه للأطفال الصغار.
كان أبا صالحا، لطيف الحديث، مرحا، يحسن الدعابة مع شيوخ الحي وشبابه وأطفاله. يتجمع حوله أطفال الحي وينادونه بأصوات بريئة: "بلا بيبي... بلا دجاج... بغينا بالحاج!" رحم الله بالحاج وأسكنه فسيح جنانه، قالها صديق الحسين بصوت منخفض وهما جالسان إلى المائدة المستديرة يرتشفان قهوة سوداء. ذرف الحسين دمعتين، ثم لثم أنفاسه بشدة، وأحس بيد خفيفة ضربت على كتفه بلطف. كان ذلك هو الصديق الوفي "عبد الله"، هادئ الأعصاب، ينظر إليه نظرات أسى وتحسر على ما يعيشه صديقه من ظرف صعب.
عبد الله كان بمثابة الأخ المثالي للحسين. لم يدخل المدرسة قط، لكنه اكتفى بما تعلمه في دار القرآن، وبصحبة المثقفين. خاطبه قائلا: "إنها أمك! لماذا تفكر في الرحيل إلى الشمال؟" "مهما فعلت، فهي أمك... أعرف أنها قاسية، لكن ماذا نفعل يا صديقي؟ هكذا بعض النساء... يملن مع الريح!"
كانت كلماته نوعا من الموعظة، وربما محاولة ليجعل من الحسين رجلا يعتمد على نفسه، أو لإطفاء نار الغضب التي تتأجج بوحشية داخله.
شاب ترعرع داخل محيط اجتماعي هش، جال في دروب ضيقة ينتشل قارورات من أكياس القمامة، وأحيانا يتسلق رفقة أصدقائه شاحنات الخضر المتجهة إلى "سوق خيبر" الأسبوعي.
هكذا كانت مرحلة الصبا بالنسبة للحسين.
وفي أحد اللحظات، بينما كان عبد الله يداعب بحذائه حجرة صغيرة وهو ينظر بدهشة إلى صديقه الشارد، قال له:
"بالله عليك، ماذا دهاك يا حسين؟ أتكلم معك وأنت شارد الذهن... تجعلني أصب الماء على الرمل!" فينتفض الحسين، مدعيا أنه سمع كل شيء، لكنه في الحقيقة كان غارقا في صمت لا قرار له، تائها بين رمال أفكاره المتحركة...
"لقد سمعتك يا عبد الله، أنا أقدرك، لكنك ترى... لم يعد لي أحد في هذه المدينة. لقد خانني الجميع، حتى عائلتي. لا بد لي من الرحيل إلى الشمال، الكل يتحدث عنه، ويقولون ان هناك يمكن أن أجد عملا..."
يهتف الحسين، تزداد رغبته في الهجرة، وتظهر على وجهه علامات الشؤم، ممزوجة بعزيمة تعويض كل ما فاته.
وفي لحظة صدق، قال لصديقه: "اسمع يا عبد الله... ربما غدا أو بعد غد... ولن نلتقي لسنتين أو أكثر، لا أدري... لكن لا أريدك أن تخبر أمي وأختي بمكاني. سأبعث لك برسالة حين يمر شهر."
يحاول عبد الله تجاهل ما قاله صديقه، ويدور حوله متجها نحو درب "منى"، ليسأله: "وماذا عن منى؟ ستتركها؟"
فيجن جنون الحسين، ويهتف: "ألم أقل لك إنك تمازحني كثيرا؟! منى!!! إنها سحابة سوداء مرت في حياتي وكادت تدمرها، وتحولها إلى عاصفة."
كانت الساعة تشير إلى الخامسة مساء عندما تحدث الأصدقاء وتبادلا تحيات المساء، ربما إلى لقاء آخر. ويدور الحسين متجها صوب المقهى التي يجلس فيها، وعلامات الاستياء تكسو ملامحه وهو يفكر في الهجرة القريبة، هكذا يستمر في مناشدة ضميره ورجلاه تتخبطان فوق أرصفة الشارع ليجتاز المقهى بخطوات قليلة، و ما كاد يجتازها بخطوات متثاقلة حتى يسمع أصوات تتعالى وهي تهتف باسمه: « حسين..يا حسين».. يدير الحسين رأسه لتلوح له أيادي عبر زجاج المقهى المفتوح، ويتجه نحو بعض أبناء الحي: « لقد ناديناك لمرات عديدة..تبدو شارد الذهن يا حسين».. ويضحك الحسين ضحكة يحاول من خلالها أن يغطي على مكنون صدره متجاهلا سؤال أحد أصدقائه. لقد أحس أنه يحاول استفسار ما به، أو ربما كان يعرف أن (الحسين ) مستاء لما سمعه مؤخرا عن أمه وأخته، كان عبد الله الصديق الوحيد الذي يصارحه ويحترمه. فبدأت ضحكات الأصدقاء تتعالى وهم يرتشفون كؤوس قهوة وشاي ويتبادلون الغمز، والحسين يعرف ويحس مسبقا في أي وضعية هو. لم يطل الحديث كثيرا حتى يهتز واقفا على قدميه قائلا: « ربما علي أن أغادر، ورائي مشوار».
مر المساء، وكان طويلا جدا بالنسبة للحسين. لم يتذوق فيه طعم النوم، ليأتي الصباح ويستعد لجمع أغراضه وملابسه في كيس يستعمل عادة لجمع الحبوب. كانت الساعة تدق الرابعة في ذلك الصباح الصيفي، ليجد الحسين نفسه في المحطة. لم يدر كيف وصل. وتأتي الحافلة، ليسمع أحد مساعدي أربابها يصيح بصوت خشن: "طنجة... طنجة". ويقف متجها لتبدأ الرحلة، رحلة يصفها الحسين عادة برحلة النسيان، تاركا وراءه كل ما يجعله أسيرا لتلك المدينة المملة بالنسبة إليه.
لم تكد الحافلة تتحرك حتى تتهافت مئات الأفكار على رأسه لتثقل كاهله، وتجعله يتذكر كل ما مر به في مرحلته الأخيرة. يتذكر وجه أمه وكذا أخته، فيعض على شفته السفلى من شدة الغيظ. وفي هذه اللحظة بالضبط يتذكر الحسين أباه، الرجل المقدار النصوح، عندما كان يخاطبه ويناديه كلما احتاج إليه. كان "بالحاج"، الرجل المثالي الذي يعرف ما عليه من مسؤولية تجاه العائلة، رجلا محافظا، وكانت تتصور للحسين جميع المعاملات التي يتصرف بها مع الجيل الجديد، كان عبثا يناشدهم ويوافقهم الرأي. بالحاج، كان رفيق الجيل، كلها صور كانت في ذاكرة الحسين، وتزداد وضوحا عندما يسمع هدير محرك الحافلة يدور بعنف. فيلتفت الحسين يمينا ويسارا، ولم ير إلا شابا وامرأة تحمل صبيا، وشيخا يجلس وراء السائق وهو يغمغم قائلا: "على بركة الله".
فتبدأ رحلة الحسين نحو المستقبل الغامض، وهو يعرف جيدا أنه لن يلتجئ إلى أحد سوى إلى "المصير المحتوم"، وأن الرحلة لن تكون سهلة، فلا بد أن يقاسي ويعمل بجدية لأجل التغلب على الزمن، والتخلص من كل أنواع العذاب الذي يعيشه، كما كان يفكر دائما في نسيان الآلة الضخمة التي تدوس صدره. تلك الآلة التي تبتلع كل شيء، حتى الرخيص الذي لا يساوي شيئا، آلة شبهها بأمه التي ترامت إلى فضاء الدعارة، ولم تكتف بنفسها، بل جرت ابنتها المسكينة التي لا تعرف سوى أشغال البيت القاسية بعدما تركت المدرسة في سن مبكرة، وترامت تعمل خادمة في البيوت.
لم تكن "يامنة" تتجاوز الخامسة والعشرين من عمرها حين توفي أبوها، وتركها هي الأخرى تغوص في المقلاة. عاشت أنواعا كثيرة من السخرية والشتم والسب عندما كانت تعمل بأحد البيوت، ولا زالت تتذكر المرأة التي كانت تعمل عندها، قالت لها في إحدى المرات:
"اسمعي يا لعينة... من تحسبين نفسك؟ أنت لا تساوين شيئا... ما أنت إلا لقيطة!"
لم تكن يامنة كذلك، لقد كانت لا تعرف شيئا سوى العمل والشغل في ذلك البيت اللعين. ربما كانت المرأة تغار منها لأنها أجمل منها، بيضاء الوجه، قصيرة القامة، شعرها الأسود يبلغ خصرها، نظراتها توحي بنوع من الاحترام والخجل، وربما لباسها يعبر عن ذلك.
لم يكن لباس يامنة عصريا إلى حد اللباس الأشبه بالموضة، بقدر ما كان لباسا متواضعا يعبر عن الحشمة، ولا يقلل من الفقر. علاقتها بالعالم الخارجي شبه مقطوعة، لا تعرف شيئا عن الدروب والأزقة إلا عندما تذهب إلى الدكاكين القريبة.
وها هي اليوم تطلق العنان لنفسها بعد أن رمت بها أمها المتطرفة إلى بيت "الزاهية"، مقر العاهرات المحترفات منهن والأرامل، منهن من رمت بهن الأقدار ليعشن ويلات هذه الظروف، ومنهن يامنة البنت البريئة.
تمضي الأيام، وتتعرف يامنة على أحد الشبان الذين يقصدون المكان لأجل تلبية رغبتهم الجنسية، لتطول العلاقة بينهما، ويتزوجها هذا الأخير بعد مدة طالت سنة كاملة، لتنجب له طفلا وطفلة يعيشان تحت سقف واحد.. لطالما حلمت به. يا لسخرية القدر!
أحيانا ندعي أننا نستطيع أن نوجه أنفسنا نحو الصواب، لكن ربما هو خطأ فادح يرتكب. قد يكون الخطأ خطأ السائق، وقد تكون هذه الشمس التي بدأت تتوهج، ليهتز الحسين من مقعده بعد أن دوى صوت الفرامل وهي تحتك بالطريق.
"ماذا هناك؟"
يقف الحسين محاولا أن يرى ما كان أمام الحافلة، ليرى عجلا صغيرا انحرف إلى الطريق، منعزلا عن أمه وملقى إلى الجانب. كانت صدمة الحافلة قوية فألقته مرتميا على الطريق، بينما الحسين قد احترق في تفكير عميق لولا الحادثة التي أثارت انتباهه، وجعلته يهتز ليعرف الواقعة التي تجاوزتها الحافلة، بعدما سوي الخلاف بين صاحب العجل الصغير والسائق.
ويغوص الحسين في تفكير عميق من جديد، والحافلة تجتاز جبالا عالية تكسوها غابات خضراء، كلها مرتفعات وطرق ملتوية، مرات يمينا ومرات شمالا. وأحيانا يحس الحسين بتخوف شديد، وخاصة عندما تلتقي الحافلة بحافلة أخرى وتبدو الطريق ضيقة جدا، فتأتي حافلة أخرى أو حاملة غاز لتزيده هلعا.
كما كان يسرق النظرات إلى الوادي العميق الذي يبدو في السفح، ليرى شاحنات محطمة كسا معظمها الصدأ، سيارات صغيرة تبدو متهشمة، كان الطريق وعرا، لكن السائق كان بارعا، وهو يدير المقود بنوع من الحذر والاحتياط، وبنوع من البراعة.
غابات الصنوبر هنا وهناك، وبعض الزهور الصفراء التي تبدو من بعيد كأنها أشجار فواكه صفراء اللون، وهناك في طرف آخر منازل بنيت منحدرة الشكل بـ"الزنك"، وبعيدا جدا تظهر قمة شاهقة مليئة بالثلوج، كان منظرا جميلا، لولا نفسية الحسين التي كانت توحي بالغربة والوحدة التي يعيشها بين الفينة والأخرى.
وهكذا مرت ساعات طويلة، وهو يغمض جفنه أحيانا ويفيق على صوت الفرامل أحيانا أخرى، عندما تقف الحافلة لأحد الواقفين والوافدين إلى الشمال.
لم تمضِ سوى ساعات قليلة حتى تدخل الحافلة مدينة جميلة عالية بأسوارها، تبدو من بعيد مبانيها العالية، وسكانها الذين يرمقون بنظرات الغريب. كلامهم مختلف جدا، مرافقها وملاهيها توحي بالازدهار والحركية، ترى مقاهي جميلة وواسعة، فتيات حسناوات بلباس فاخر، سيارات فخمة، ترى الجميع مشغولا، كل إلى عمله، كأن ليس لديهم وقت ليكلموك.
صيحات تتعالى خارج باب المحطة على ألسنة مساعدي أرباب الحافلات. جال الحسين يمينا وشمالا وهو يحمل كيسا يحوي أغراضه، متسمرا كأنه نزل في مدينة يقطنها أناس لا يتكلمون العربية. بدأ يجول بعينيه المكان، وبعد هنيهة تتركز عيناه على مقهى صغير ذي كراس عادية، توحي للزائر أنها مكان لاجتماع الشيوخ. وقف الحسين قليلا إلى جانب المقهى يرمق بعينيه الوافدين، فاتضح له أنها واسعة من الداخل، لكنها فعلا ذات أثاث تقليدي، وديكورات قديمة.
أُضيق الحسين من شدة الشرود، وانحنى داخلا إلى تلك المقهى، فالتحأ إلى كرسي في طرف المقهى وهو يضع بجانبه الكيس الذي يوحي على أنه زائر جديد إلى طنجة.
وبعد لحظات، يدير الحسين وجهه ليرتكز على وجه شاب واقف أمامه، كان النادل. نادلُ المقهى، جميل الوجه، ظريف، لكنه غريب الأطوار؛ أسنانه كانت كلها سوداء مسوسة، ففهم الحسين أنها من أثر الحشيش، أو كما يقولون "الزطلة". سأله عن نوع المشروب الذي يطلبه، فأجاب الحسين: "قهوة سوداء، من فضلك." لم تمض سوى ثوان قليلة حتى كان الطلب مقضيا، فسأله النادل: "ربما الأخ جديد في طنجة؟" فرد الحسين: "نعم، أنا هنا أبحث عن عمل... إني هنا لساعات قليلة فقط." جلس النادل إلى جانبه، وتبادلا حديثا قصيرا انتهى إلى تعارف بينهما. كانت اللكنة التي يتلفظ بها الحسين قد أثارت اهتمام النادل، فسأله عن بلدته، ليكشف له النادل أنه ابن منطقته، وأنه يأتي إلى جدته عدة مرات ليقضي معها أياما بقرية "جعادنة"، قرية لا تبعد عن زرهون إلا بثلاثة كيلومترات.
وتزداد صلة المعرفة بينهما، ويخبره النادل أن صاحب المقهى رجل ثري، وسوف يطلب منه أن يجد للحسين فرصة عمل، ويستحسن أن تكون في المقهى إلى جانبه. وفعلا، يمر أسبوع ليحصل الحسين على فرصة عمل لغسل الصحون والكؤوس، وتوفير مكانٍ للنوم في طرف من المقهى. تمر شهور على هذا الحال، وتتحسن العلاقة بين النادل والحسين، ويتعرف الحسين على الزبائن والوافدين على المقهى. لم يكونوا شيوخا، بل كانوا شبابا، منهم أبناء الجالية المغربية، ومنهم تجار المخدرات. كانوا آنذاك يعاملون الحسين معاملة حسنة، لأنه كثيرا ما كان يقضي لهم بعض الأغراض، كأن يذهب إلى الدكان أو ما شابه، وكانوا يرمون له بعشر دراهم أو أكثر.
يحاول الحسين تحسين علاقته بالجميع، وتمر سنة كاملة، ويصبح معروفا لدى صاحب المقهى بالثقة والاحترام، فيطلب منه مساعدة النادل عصام عندما يتوافد الزبائن بكثرة. ويأتي اليوم الذي يجالس فيه الحسين واحدا من تجار المخدرات، الذي عرف فيه الثقة، لأنه كثيرا ما اختبره بطريقته الخاصة. ومنذ أن كان التاجر، المعروف بـ"الباز"، يجلس في المقهى ويتعامل مع الحسين، كان يعطيه علبة سجائر فارغة ليحتفظ بها عنده عندما يقترب رجال الشرطة من المكان. كانت العلبة مملوءة بـ"بلاكيتات" الحشيش.
كان الحسين يتستر كثيرا على "الباز"، وكان هذا الأخير يمطره أحيانا بأوراق بنكية قد تصل إلى خمس ورقات من فئة مئة درهم. وتزداد ثقته به ليعرض عليه مرةً البيع والشراء دون علم أحد، خصوصًا صاحب المقهى. وتهيأت الظروف عندما أصيب عصام بمرض خطير في الرئتين، فألزمه الفراش، وأصبح الحسين نادل المقهى وتاجر المخدرات غير المعروف للجميع، سوى للزبائن المدمنين.
يشعر الحسين أن جيبه بدأ يمتلئ ببطء، ويعرف أن المال يحل الأزمات، فتبدأ رغبته في جمع أكبر قدر ممكن من المال، لأنه يعلم أن المقهى لن تكون مصدر رزقه إلى الأبد. ويأتي اليوم الذي يعرف فيه الحسين أن "الباز" هو تاجر مخدرات كبير، يهرب حتى إلى الخارج شحنات من الحشيش. تمر سنتان على هذا الحال، حتى يوشك الحسين أن يصبح شريكا للباز في تجارته، وتأتي المرحلة التي يحلم فيها الحسين بالهروب إلى الخارج، أي "الحريك".
كان الطريق سهلا، خاصة وأن الحسين أصبح اليد اليمنى للباز، الذي يملك ثلاث قوارب لتهريب المخدرات إلى فرنسا وإيطاليا. وفي إحدى الليالي، يتحدث الحسين إلى الباز، عندما كانا جالسين بجانب البحر، يرتشفان كؤوس الويسكي ولفائف الحشيش، عن رغبته في مساعدته للهجرة السرية. فحياة المقهى لم تعد تطاق، وكذلك صاحبها. لكن في الحقيقة، لم يكن الحسين يكره صاحب المقهى، بل عرف ما لم يكن يعرفه من قبل، وزادت رغبته في جمع المال.
لم يكن الباز من معارضي الفكرة، بل كان يرى أن عليه إرسال واحد من عصابته إلى روما التي يزورها كلما أراد، لا تحجبه حواجز الجمارك ولا أي جهة، لأن شركاءه إيطاليون وفرنسيون. واليوم، عليه دعم عصابته بالحسين، ذاك الصديق الذي بات يعرفه حق المعرفة.
وذات ليلة، كان القمر يتوسط السماء والجو صافيا، والبحر هادئ الأمواج، تهيأ الحسين لركوب البحر عبر "قارب الموت"، وكان الأخير محملا بصناديق المخدرات. مرت الرحلة في جو من الخوف، وتذكر أنها أصعب من الأولى حين ركب الحافلة برا، أما اليوم فهي عبر المحيط.
لكن الحسين، هذه المرة، غرق في نوم عميق، ولم يشعر بخطر الرحلة إلا عند وصوله إلى سواحل إيطاليا في ظرف أربع ساعات. ليجد هناك أناسا بملابس عصرية، بعضهم يحمل مسدسات ورشاشات، وأذرعهم موشومة، يرحبون بالحسين، ويقولون له إن الباز اتصل من المغرب، وقد أوصى بك (جاءت على لسان أحد أفراد العصابة بالإيطالية). لم يفهم الحسين ما قال له الإيطالي، إلا أنه تفهم الأمر بعد أن شرحه له أحدهم.
تهافتت مئات الصور على مخيلة الحسين، لم يعرف كيف مرت الساعات، وكيف مر الليل بهذه السرعة. لقد فكر كثيرا في ما عليه فعله، خاصة وأنه في بلاد الغربة، لا صديق له ولا عائلة، لا شيء سوى أناس غرباء يحيطون به من كل الجهات.
وهكذا تمر سنوات في بلاد الهجرة والليالي القاسية، سنوات رأى فيها الحسين أنواع العذاب. لم يتذوق طعم الحياة، لكنه انغمس في جمع الثروة هناك، إذ لم يكن يهمه شيء سوى جمع المال، الذي كان شغله الأول، رغبة في العودة إلى الوطن لإقامة مشروع بين أهله. مرت أربع سنوات، ويأتي اليوم الذي يصبح فيه الحسين الرجل الشهم، ذا ثروة لا بأس بها، معروفا لدى الجميع، من أجانب ومغاربة، خاصة في الجنوب الإيطالي. وتزداد رغبته في العودة، لكن هذه العودة كانت موفقة، لأن الحسين عمل على إصلاح وضعيته في إيطاليا، لا كمهاجر سري، بل كمقيم قانوني، بعد حصوله على الوثائق القانونية، كل ذلك تم بفضل صديق إيطالي.
وأثناء العودة، جمع الحسين كل ما يلزمه في حقيبته الدبلوماسية، وتوجه إلى المطار... كل هذه الأحداث لم يعرف الحسين كيف مرت بهذه السرعة، ولم يصدق نفسه عندما كانت الطائرة تحلق فوق مدينة ساحلية بمبانيها العالية وأزقتها الجميلة. ليسمع صوت الطائرة وهي تحط في مطار طنجة.
طنجة وزرهون، مدينتان جميلتان يقطنهما الطيبون. قد يشاء القدر أن يجمعني هنا أو هناك كي أبحث عن اسمي. اسمي! جزء لا يتجزأ من سلام. اسمي! عشق لكل غريب بعنفوان... موجود في كل مكان... منقوش على الحجر... على الجدران... اسمي! عند من يهزه الشوق والحنين... ليتفقد اسمي! ضمن دائرة المجانين.
#بن_سالم_الوكيلي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حبر الندبة في عقدة القمر (بصوت الرجوع، وتنهيدة الختام)
-
حبر الندبة في عقدة القمر (بصمت البذور، وتنهيدة الحكاية الساد
...
-
حبر الندبة في عقدة القمر (بفم مكموم، وتنهيدة الحكاية الخامسة
...
-
أنين القباب في وادي الجني الأسود رواية رمزية – شاعرية – رؤيو
...
-
حبر الندبة في عقدة القمر (بنبض الحرف الأخير، وتنهيدة الحكاية
...
-
حبر الندبة في عقدة القمر (بحنجرة الرمل، وتنهيدة الحكاية الثا
...
-
حبر الندبة في عقدة القمر(بصوت الغياب، وتنهيدة الحكاية الثاني
...
-
الاستدعاء الشفهي: حين تتحول الإجراءات إلى فصول من العبث الإد
...
-
حبر الندبة في عقدة القمر (بلسان العفاريت، وتنهيدة الحكاية ال
...
-
-الذين لم يصفق لهم… لكنهم يستحقون الوطن-
-
-خرائط على جثث الطيور-
-
كرمة بن سالم تروي... حين تتكلم القرى ويسكت بعض المسؤولين
-
-الريح التي لا تعرف الحدود-
-
الكبش الذي نجا من السكين: مرثية القيم في زمن الأضاحي المزيفة
-
قلب مطفأ داخل آلة
-
دوار الكرامة... لا ماء يباع، ولا صمت يشترى
-
-كرمة بن سالم... حين تصلي الأرض ويرق قلب السماء-
-
قلب على الموج: ملحمة مادلين
-
لحم الحقيقة
-
-علينا ان نتخيله سعيدا-
المزيد.....
-
الشاعر المغربي عبد القادر وساط: -كلمات مسهمة- في الطب والشعر
...
-
بن غفير يسمح للمستوطنين بالرقص والغناء أثناء اقتحام المسجد ا
...
-
قصص ما وراء الكاميرا.. أفلام صنعتها السينما عن نفسها
-
الفنان خالد تكريتي يرسم العالم بعين طفل ساخر
-
رابط شغال ومباشر.. الاستعلام عن نتيجة الدبلومات الفنية 2025
...
-
خبر صحفي: كريم عبدالله يقدم كتابه النقدي الجديد -أصوات القلب
...
-
موسيقى للحيوانات المرهقة.. ملاجئ الولايات المتحدة الأمريكية
...
-
-ونفس الشريف لها غايتان-… كيف تناول الشعراء مفهوم التضحية في
...
-
10 أيام فقط لإنجاز فيلم سينمائي كامل.. الإنتاج الافتراضي يكس
...
-
فيديو صادم.. الرصاص يخرس الموسيقى ويحول احتفالا إلى مأساة
المزيد.....
-
الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية
...
/ عبير خالد يحيي
-
قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي.
/ رياض الشرايطي
-
خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية (
...
/ عبير خالد يحيي
-
البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق
...
/ عبير خالد يحيي
-
منتصر السعيد المنسي
/ بشير الحامدي
-
دفاتر خضراء
/ بشير الحامدي
-
طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11
...
/ ريم يحيى عبد العظيم حسانين
-
فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج
...
/ محمد نجيب السعد
-
أوراق عائلة عراقية
/ عقيل الخضري
-
إعدام عبد الله عاشور
/ عقيل الخضري
المزيد.....
|