أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - بن سالم الوكيلي - ثمن الشمعة














المزيد.....

ثمن الشمعة


بن سالم الوكيلي

الحوار المتمدن-العدد: 8406 - 2025 / 7 / 17 - 07:48
المحور: الادب والفن
    


في قلب مكناس، حيث تختبئ الأزقة تحت عباءة التاريخ، وحيث لا تزال الحجارة الباردة تهمس بأسرار الأندلسيين واليهود والعابرين، كان هناك محل قديم في مركز "حمرية". لا يختلف كثيرا عن غيره من المحلات، لولا أن روحه كانت تسكن خارج الزمن. محل "هاييم" لم يكن مجرد دكان للنحاسيات، بل معبدا صغيرا للذاكرة، تعيش فيه أطياف من رحلوا، وأصداء من بقوا ينتظرون.

"هاييم" كان يهوديا مغربيا، بقي في الوطن حين غادره الآخرون. ظل هنا، في قلب مكناس، كما لو أن شيئا أعمق من الانتماء كان يشده إلى الأرض. لم يكن يتحدث كثيرا، لكن حين يتكلم، تنصت الأرواح. عيناه كانتا مرآتين لنار لم تنطفئ، رغم كل ما مرت به من رياح.

ذات صباح رمادي، دخلت المحل برفقة صديقي نبيل رواغ، ابن زرهون، رجل يعرف كيف يصغي إلى الصمت أكثر مما يصغي إلى الناس. كنا نحتسي قهوتنا بهدوء، حين دخل رجل غريب، أنيق الملبس، لكن فوضى الداخل كانت تتسرب من عينيه.

اقترب من "هاييم"، تبادلا نظرات طويلة كأنهما يعرفان بعضهما منذ حياة سابقة، ثم سأله بصوت هادئ لكنه محمل بالشك:

– "هاه، واش ترشحت؟"

رد الرجل، وهو يعبث بزر سترته كمن يحاول لملمة نفسه:

– "آه... ترشحت فالحاجب، مع منيب."

قالها كمن يعلن سرا لا يحب الاعتراف به.
ابتسم "هاييم" ابتسامة لا تعرف إن كانت سخرية أم شفقة، ثم سأله:

– "وشحال خلصت؟"

– "200 مليون سنتيم."

قالها بلا ندم، كمن يقول رقما لا يعنيه، أو كمن اشترى مقعدا في مسرح فارغ.

ضحك "هاييم" ضحكة قصيرة، لكنها كانت مشبعة بما لا يقال، ثم قال بنبرة فيها شيء من الألم الممزوج بالتهكم:

– "لو كنت جيتي عندي... كنت نعطيك التزكية ديال حزب العمل، فابور!"

في تلك اللحظة، شعرت أن شيئا ما انكسر في داخلي.
كنت أظن أن الشمعة، تلك التي تنير لنا دروب العتمة، لا تنطفئ إلا حين تكمل رسالتها. لكنني رأيت كيف تطفأ الآن، لا بفعل ريح، بل بيد من باعوا النور واشتروا العتمة.

ابتسم الشاب ابتسامة فيها شيء من التحدي واللا مبالاة، وقال:

– "كل شي مخلوف!"

ثم خرج، وترك خلفه ظله يتماوج على البلاط، كذكرى لم تكن.

مرت الأيام، وجاءت الانتخابات. الرجل لم يفز، ولا أولئك الذين دعموه. لم يفز أحد ممن لبسوا الأقنعة ورفعوا الشعارات المعطرة برائحة السوق. لكن الصدمة لم تكن في نتائج الصناديق، بل في الحقيقة التي كشفتها الأيام.

كنت بدوري مرشحا في تلك الانتخابات. رشحني حزب العمل. كنت أحمل أملا صغيرا، ربما يكبر. كنت اؤمن أن السياسة، حين تنطلق من الشارع، من الأزقة، من نبض الناس، يمكن أن تكون فعلا شريفا.

لكن الحقيقة كانت أدهى من الخيال. أمين الحزب، الذي يفترض به أن يكون حارس المبادئ، استولى على المال المخصص لدعم الحملات، لم يمنح أحدا شيئا، ولم يترك سوى خيبة وراءه.

و"هاييم"، كما لو كان ضميرا متخفيا وسط النحاس، همس لي ذات مساء:

– "أمين الحزب توصل بالمبلغ، لكن ما عطى حتى ريال."

كانت كلماته تلك كشرارة تشعل رماد الصمت في داخلي.
اكتشفت أن الحلم، حين يوضع في جيب المرتزقة، يتحول إلى سلعة. وأن الشمعة، حين تتلوث، لا تضيء، بل تحترق بصمت وتخون النور.

لم نحتج، لم نصرخ. بل اخترنا تمردا صامتا. أحرقنا الصور، مزقنا الشعارات، ودفنا أسماء الأحزاب التي خدعتنا. لم يكن في الأمر بطولة، بل تطهير، حاجة وجودية لأن نكسر المرآة التي خدعتنا.

ووسط هذا الركام، تبين لنا أن كل الأحزاب التي عرفناها لم تكن سوى نسخ متعددة لخيبة واحدة.
جربنا اليمين، فزاد الجوع.
جربنا من حملوا شعارات الإسلام، فلم يخرجوا من جبة السوق والمصالح.
جربنا الاتحاد الاشتراكي، لكنه لم يمنح الفرصة منذ أن غادره اليوسفي، لأن الأرض لم تكن صالحة للزرع، بل مليئة بالأشواك.

فمن بقي؟
لم يبق إلا اليسار الهامشي، الضعيف، الذي لم تمنح له فرصة الحكم.
ذلك الذي لم يلطخ يديه، لا لأنه قديس، بل لأنه لم يدع بعد إلى الوليمة.

ربما... ربما آن أوان التجريب الحقيقي. لا لأن اليسار معصوم، بل لأنه ببساطة... لم يجرب. ولأننا لم نعد نملك ترف الانتظار، ولا متسعا آخر للخداع.

في تلك الليلة، خرجت من عند "هاييم"، وكانت مكناس نائمة تحت غطاء من السكون.
المصباح في الشارع يتأرجح مع الريح، كشمعة على حافة الانطفاء.

نظرت إليه، وهمست في داخلي:

"حتى الشموع... حين تتلوث، لا تضيء.
بل تحترق في صمت، وتخون النور."



#بن_سالم_الوكيلي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- لا ظل في الرمل لمن لا ذاكرة له
- الزاوية التي لا تنام
- همس الجبال ونور الأرواح
- -قبل أن أنسى اسمي-
- حبر الندبة في عقدة القمر (بصوت الرجوع، وتنهيدة الختام)
- حبر الندبة في عقدة القمر (بصمت البذور، وتنهيدة الحكاية الساد ...
- حبر الندبة في عقدة القمر (بفم مكموم، وتنهيدة الحكاية الخامسة ...
- أنين القباب في وادي الجني الأسود رواية رمزية – شاعرية – رؤيو ...
- حبر الندبة في عقدة القمر (بنبض الحرف الأخير، وتنهيدة الحكاية ...
- حبر الندبة في عقدة القمر (بحنجرة الرمل، وتنهيدة الحكاية الثا ...
- حبر الندبة في عقدة القمر(بصوت الغياب، وتنهيدة الحكاية الثاني ...
- الاستدعاء الشفهي: حين تتحول الإجراءات إلى فصول من العبث الإد ...
- حبر الندبة في عقدة القمر (بلسان العفاريت، وتنهيدة الحكاية ال ...
- -الذين لم يصفق لهم… لكنهم يستحقون الوطن-
- -خرائط على جثث الطيور-
- كرمة بن سالم تروي... حين تتكلم القرى ويسكت بعض المسؤولين
- -الريح التي لا تعرف الحدود-
- الكبش الذي نجا من السكين: مرثية القيم في زمن الأضاحي المزيفة
- قلب مطفأ داخل آلة
- دوار الكرامة... لا ماء يباع، ولا صمت يشترى


المزيد.....




- اكتشاف أقدم مستوطنة بشرية على بحيرة أوروبية في ألبانيا
- الصيف في السينما.. عندما يصبح الحر بطلا خفيا في الأحداث
- الاكشن بوضوح .. فيلم روكي الغلابة بقصة جديدة لدنيا سمير غانم ...
- رحلة عبر التشظي والخراب.. هزاع البراري يروي مأساة الشرق الأو ...
- قبل أيام من انطلاقه.. حريق هائل يدمر المسرح الرئيسي لمهرجان ...
- معرض -حنين مطبوع- في الدوحة: 99 فنانا يستشعرون الذاكرة والهو ...
- الناقد ليث الرواجفة: كيف تعيد -شعرية النسق الدميم- تشكيل الج ...
- تقنيات المستقبل تغزو صناعات السيارات والسينما واللياقة البدن ...
- اتحاد الأدباء ووزارة الثقافة يحتفيان بالشاعر والمترجم الكبير ...
- كيف كانت رائحة روما القديمة؟ رحلة عبر تاريخ الحواس


المزيد.....

- يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط ... / السيد حافظ
- . السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك ... / السيد حافظ
- ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة- / ريتا عودة
- رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع / رشيد عبد الرحمن النجاب
- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - بن سالم الوكيلي - ثمن الشمعة