بن سالم الوكيلي
الحوار المتمدن-العدد: 8399 - 2025 / 7 / 10 - 10:29
المحور:
الادب والفن
لم يكن في الأمر بطولة.
ولا في الرحلة وجهة واضحة.
كنا، ببساطة، نقطع الجنوب كما يقطع الجرح... من أطرافه.
أنا بن سالم الوكيلي،
قصاص من قرية تدعى كرمة بن سالم،
ورفيقي في الرحلة: ابن الخال السي أحمد بوعسرية، رجل خرج من الميدان ببدلة مطوية، لكنه لم يخرج من المعركة.
قال لي، بصوت من عاش طويلا في الداخل:
— "دعنا نمر من بير كندوز... مرة واحدة، لا لنتذكر، بل لنتأكد أن الذاكرة لم تخن."
الطريق جنوبا يشبه الزمن في حضرة الشهداء:
يمشي واقفا، ولا يلتفت.
السي أحمد لم يتكلم كثيرا.
كان يقلب الهواء بعينيه، كمن يتحقق من خريطة محفورة في العظم.
أما أنا، فكنت أراقب الصمت، لأني أعرف أن بعض الحكايات تروى في الفراغ… لا بالكلمات.
وصلنا بير كندوز.
النقطة التي تتهيج فيها الأرض ثم تسكن، كأنها تسمع خطواتها من بعيد.
نزلنا.
رأيت العلم المغربي يرفرف، لا على سارية، بل كأنما مزروع في ظهر الصحراء نفسها.
ثم فجأة…
ظهر لي ظل لا ظل له.
لا شكل، لا ملامح، بل ارتعاشة خفيفة في الزمان.
ثم... همس، يشبه صوتا خرج من الطين:
"بن سالم... أنت الذي تكتب، أليس كذلك؟"
لم أجبه، لكنني شعرت أن جسدي أصبح صفحة.
تابع:
"أنا إيملّون نْ أوسَرْد،
جني قديم من سلالة لا تدون،
كنت أعيش في كثبان الصمت،
وأحفظ أسماء الذين ماتوا دون أن يدونهم التاريخ."
ثم بان، لا هيئة له،
بل غبرة تتكلم.
قال:
"بير كندوز؟
هذا المعبر ليس حدودا...
بل جملة ناقصة في خطاب طويل اسمه المغرب."
"أتدري؟
رأيت شيوخ أوسرد، والداخلة، والسمارة…
يبايعون، لا بمداد، بل بنفس،
حين كانت البيعة معنى، لا مناسبة."
"ثم جاء زمن التشكيك…
وقالوا: دعوا الصحراء تقرر مصيرها.
وأنا أضحك…
من قال إن الصحراء بلا ذاكرة؟
هي تتذكر أكثر منكم…
وتعرف من مر فوقها ليحمي، ومن مر ليقتلع."
السي أحمد بوعسرية كان ساكتا،
لكنه شد طرف سترته كما لو أنه سمع كل شيء.
تابع إيملّون:
"اليوم، من واشنطن إلى مدريد، من داكار إلى أبو ظبي…
الجميع أيقن أن الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية هو النفس الأخير للعقل.
ليس لأنه حل، بل لأنه العدل."
"أما الانفصال؟
فهو صرخة طفل يتيم في زقاق مغلق،
لا يسمعها إلا من أراد البكاء."
"أنا ظل الأرض، يا بن سالم…
وما دامت الصحراء تسمع نبض من حماها،
فلن تباع،
ولن تقتطع،
ولن تنسى."
ثم اختفى الصوت، أو لعله عاد إلى الطبقة العميقة من الرمال حيث لا تسمع إلا الأرواح التي تعرف.
ركبنا السيارة.
السي أحمد لم يسألني عما جرى.
لكني رأيته يهمس مع نفسه كما لو أنه يعيد تلاوة قسم قديم.
عدنا من حيث أتينا، لكن شيئا بقي في بير كندوز…
شيء لم يركب معنا.
حين وصلت بيتي في كرمة بن سالم،
جلست قرب النافذة، ثم كتبت على أول صفحة من دفتر جديد:
"هذه الأرض، حين تجبر على إثبات نفسها،
تعرف أن تنطق حتى الظل… وتبعث حتى الجن
ليشهدوا أنها كانت، وما زالت، وستظل."
#بن_سالم_الوكيلي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟