أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - بن سالم الوكيلي - من رآه فليستعد














المزيد.....

من رآه فليستعد


بن سالم الوكيلي

الحوار المتمدن-العدد: 8480 - 2025 / 9 / 29 - 11:10
المحور: الادب والفن
    


في سفح الجبل، حيث لا يصل البوق إلا بعد أن ينام الضجيج، عاش رجل اسمه المختار بن السايح. لم يكن اسمه مسجلا في دفاتر الحكم، لكنه محفور في ذاكرة الغيم، بين النهر والمحراب. كانوا يقولون إنه رأى ما لا يرى، فاختار الصمت، وترك للريح مهمة الشرح.

الدوار بأكمله نسي متى نطق المختار آخر مرة بكلام يشبه الناس. عاد من الحجة الأربعين، كمن بلل يديه بماء من وراء الزمان، فلم يعد يأكل ما يطهى في القدور العامة، ولا يكثر من مزاح السوق، ولا يزاحم على الظل، بل يجلس في هامشه.

حتى جاء ذلك الفجر، حين كانت المآذن تتثاءب، والديكة تتهجى أسماءها، وقف المختار عند باب المسجد، ورفع بصره كمن يقرأ على صفحة السماء.

قال:

الميزان انكسر، والسطر الأخير كتب بالحبر المقلوب. من لم يفهم ذلك، فليصغ إلى وقع الأقدام في الممرات الخفية، حيث تنسج الخطط، ويعاد ترتيب الرقعة دون علم القطع.

اقترب منه الفقيه عمر، رجل يعرف أسرار الوضوء أكثر من السياسة، وقال:

قل لنا ما لا يقال، فإن من وراء الحرف معان تحرك الساكن.

ابتسم المختار وقال:

إنها الحرب، ليست تلك التي تقع فيها القذائف، بل التي تستهدف فيها العقول. تمشي على عكاز من نار، لا تفرق بين السروال والقندورة. الكل مرصود، إلا من احتمى بكهف الحكمة، وربط قلبه بحبل بين الأرض والسماء. القطار لا ينتظر من يتردد في الباب، ولا من يبحث عن نعله وسط الغبار.

ثم مال قليلا، وقال:

من يصب الزيت في النهر المالح، لا ينتظر زهرا ولا سنابل. أمريكا تركب حصانا مجنونا، والصين تسقي صخرتها، وروسيا تلعب بجمرة في يدها الباردة. الكل يمسك، ولا أحد يعانق. فاختر لنفسك قامة لا تقص، إذا طأطأت الرأس أمام العاصفة.

تنحنح كأنه يستدعي الكلام من مقام أعلى، ثم قال:

أما أرض الصلح... مغرب الغيم الرزين، فهو رقعة الضوء التي لا تسجل في الخرائط. بنيانه من دعاء الأمهات، وجدرانه من سهر الأولياء. لا تجروه إلى سوق المزاد، فأنتم لا تعرفون قيمة من لا يثمن. من يدخل الضبع إلى الزريبة، لا يحق له أن يبكي على نعجة.

ثم أشار بسبابته، لا على أحد، بل نحو فكرة:

الحكومة اليوم صارت مستنقعا، لا يعرف الفرق بين الزهر والحطب. اجتمع فيه من حمل النور، ومن نفخ في الظلمة. وإن الحكمة لا تكون في جمع الأضداد بلا ميزان، بل في إزالة اليد التي تفتح باب الفتنة، ولو كانت ناعمة. لأن السلام لا يبنى في بيت تعلق مفاتيحه على باب المكر.

رفع شاب من الحاضرين صوته، خافتا:

وما العمل إن كنا بين الجليد والنار؟

فأجابه المختار، بنبرة من يعرف الطريق:

اجلس على صخرة الصبر، واغسل قلبك من التسرع. من سار خلف من يصرخ أكثر، ضل. المجانين في هذا الزمن ليسوا من فقدوا العقل، بل من عبدوا أنفسهم. ادعوا النبوة، وذبحوا المعنى. الفتنة ليست في السلاح، بل في الكلمة إذا قيلت دون وعي.

اقترب بعدها من صحن المسجد، كما يقترب الماء من عطشان، وقال:

أنا من نسل كانت المسبحة عندهم ميزان الأمور، لا زينة اليد. سقونا من كؤوس الذكر، وأطعمونا من موائد الصمت. تعلمنا أن لا نرد على السفهاء، ولا نسكت عن الباطل إذا لبس جبة الحق.

من كان له عقل، فليجلس الآن مع نفسه قبل أن تجلس عليه الدنيا. من كان له قلب، فليدخل إلى المجلس. لا لأن النهاية قريبة، بل لأن البداية تحتاج إلى من يقرأ من أول السطر، لا من آخر الحريق.

وفي تلك اللحظة، مر ظل طويل من تحت باب الجامع.

لم يره أحد.

لكن المختار تبسم، كمن رأى صاحبه يعود من سفر قديم، وقال:

ذاك هو الطيف الذي كنت أنتظره. من رآه، فليستعد. فالآتي ليس كالذي مضى، والزمن لا ينتظر من يحك رأسه وقت الجد. كل شيء يتحرك. حتى الصمت بدأ يعلو.

ثم دخل المسجد، وسمعوه يتمتم:

حسبنا الله ونعم الوكيل، على كل من أوقد نارا في بيت الإنسان، وهو يظن أنه يضيء للعالم.



#بن_سالم_الوكيلي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- غوستافو بيترو وغزة: حين يطل صوت من الجنوب على جرح مفتوح
- الحلايقية... حين كان للطفولة مجد آخر
- سروال المملكة المثقوب
- غبار على وجوه الأطفال... وبريق على سيارات الجماعة
- في بني مرعاز... حيث استيقظ المركز الصحي من غفوته الطويلة
- ظل الولي ونور الزائر (من أدب الرحلة الروحية)
- -نداء من قلب مكسور-
- -يسرى... زهرة وسط صخر-
- -بقرار من ميلانيا: باب الأمل في غزة-
- ثمن الشمعة
- لا ظل في الرمل لمن لا ذاكرة له
- الزاوية التي لا تنام
- همس الجبال ونور الأرواح
- -قبل أن أنسى اسمي-
- حبر الندبة في عقدة القمر (بصوت الرجوع، وتنهيدة الختام)
- حبر الندبة في عقدة القمر (بصمت البذور، وتنهيدة الحكاية الساد ...
- حبر الندبة في عقدة القمر (بفم مكموم، وتنهيدة الحكاية الخامسة ...
- أنين القباب في وادي الجني الأسود رواية رمزية – شاعرية – رؤيو ...
- حبر الندبة في عقدة القمر (بنبض الحرف الأخير، وتنهيدة الحكاية ...
- حبر الندبة في عقدة القمر (بحنجرة الرمل، وتنهيدة الحكاية الثا ...


المزيد.....




- تجربة الشاعر الراحل عقيل علي على طاولة إتحاد أدباء ذي قار
- عزف الموسيقى في سن متأخرة يعزز صحة الدماغ
- درويش والشعر العربي ما بعد الرحيل
- -غزة صوت الحياة والموت-.. وثيقة سينمائية من قلب الكارثة
- -غزة صوت الحياة والموت-.. وثيقة سينمائية من قلب الكارثة
- بائع الصحف الباريسي علي أكبر.. صفحة أخيرة من زمن المناداة عل ...
- لماذا انتظر محافظون على -تيك توك- تحقق نبوءة -الاختطاف- قبل ...
- فاضل العزاوي: ستون عامًا من الإبداع في الشعر والرواية
- موسم أصيلة الثقافي 46 يقدم شهادات للتاريخ ووفاء لـ -رجل الدو ...
- وزير الاقتصاد السعودي: كل دولار يستثمر في الثقافة يحقق عائدا ...


المزيد.....

- سميحة أيوب وإشكالية التمثيل بين لعامية والفصحي / أبو الحسن سلام
- الرملة 4000 / رانية مرجية
- هبنّقة / كمال التاغوتي
- يوميات رجل متشائل رواية شعرية مكثفة. الجزء الثالث 2025 / السيد حافظ
- للجرح شكل الوتر / د. خالد زغريت
- الثريا في ليالينا نائمة / د. خالد زغريت
- حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول / السيد حافظ
- يوميات رجل غير مهزوم. عما يشبه الشعر / السيد حافظ
- نقوش على الجدار الحزين / مأمون أحمد مصطفى زيدان
- مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس ... / ريمة بن عيسى


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - بن سالم الوكيلي - من رآه فليستعد