بن سالم الوكيلي
الحوار المتمدن-العدد: 8526 - 2025 / 11 / 14 - 02:11
المحور:
الادب والفن
في صباح متدل من حافة الضوء، كانت مدينة مولاي إدريس زرهون تغسل وجهها بأشعة شمس خجولة، تتسلل بين أزقتها الحجرية كما لو أنها تبحث عن ملامح ضائعة من الزمن. جلست في مقهى صغير يطل على البيوت البيضاء المتراصة، أحتسي قهوتي السوداء ببطء، كأنني أستدرج الدفء من أعماق الحبوب المحروقة. كان الصمت ينساب مثل نفس طويل، حتى حدث ما يشبه الكسر في الموسيقى:
صرخة، ثم اصطدام.
سيارة رمادية اللون، لا تحمل ملامح بشرية، دهست كلبا كان يعبر الطريق بخطوات وادعة. تدحرج جسده الصغير على الإسفلت كقصيدة تركت ناقصة في منتصفها. توقفت أنفاسي، لكن السائق لم يتوقف. مضى كما لو أن الحياة التي أزهقها كانت غيمة عابرة لا تستحق الالتفات.
ظل الكلب يتلوى على الأرض، يئن بأنين لم يفهمه أحد. مر الناس من حوله في صمت بارد؛ بعضهم أشاح بوجهه، وبعضهم التقط المشهد بهاتف ذكي، ثم تابع السير، وكأن المأساة جزء من البث اليومي للعالم الحديث.
تساءلت:
هل يمكن لمدينة أن تفقد قلبها، وتستمر في العيش؟
في الماضي، كما يروي الشيوخ، كانت المدينة تحتضن كائناتها. كانت للكلاب والقطط مراكز للعناية، وأيد تمتد بالماء والغذاء والدفء. واليوم، صارت الرحمة تقاس بعدد المشاهدات، وصار الرفق بالحيوان مجرد منشور ينشر ثم ينسى.
يا للمفارقة!
لقد صار الإنسان نفسه نسخة إلكترونية من ذاته القديمة، يحمل جهازا يلتقط الألم لكنه لا يشعر به. يصور الموت، لكنه لا يوقفه.
وقفت أمام الكلب الممدد على الطريق، أتأمل أنفاسه الأخيرة وهي تختلط بغبار المدينة. لم أجد في الوجوه من حولي ملامح الفزع، بل ملامح الاعتياد. كأننا جميعا تدربنا على مشهد الفقد حتى صار عاديا، كأن الرحمة نسيت في تحديث لم يكتمل.
تذكرت سؤالا عالقا في ذهني منذ زمن بعيد:
هل الإنسان إنسان ما دام يملك قلبا، أم فقط حين يستخدمه؟
المدينة تمضي، والكلب مات.
وأنا، على رصيف بارد، أدركت أن ما دهسه السائق لم يكن كلبا فقط، بل بقية ما تبقى من إنسان فينا.
قد تكون القصة عن كلب صغير في مدينة مغربية هادئة، لكنها في جوهرها مرثية للعصر الحديث، حيث تقاس الرحمة بالمنشورات، وتقبر الإنسانية خلف الزجاج المضيء للشاشات.
ولعل أكثر ما يؤلم ليس موت الكلب، بل ابتسامة المارين وهم يلتقطون صورة تضاف إلى ذاكرة بلا روح.
#بن_سالم_الوكيلي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟