أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - عادل الدول - المثقفون… حين يتحوّل الاختلاف إلى خصومة















المزيد.....

المثقفون… حين يتحوّل الاختلاف إلى خصومة


عادل الدول
كاتب

(Adil Al Dool)


الحوار المتمدن-العدد: 8558 - 2025 / 12 / 16 - 17:17
المحور: قضايا ثقافية
    


تشريح للجرح الثقافي العميق
في كل مرة تُفتح فيها صفحات التاريخ الثقافي، نصطدم بمفارقة محيرة: أولئك الذين كرّسوا حياتهم للفكر والحوار، غالبًا ما كانوا أعجز الناس عن الحوار فيما بينهم. سارتر وكامو لم يتصالحا حتى الموت، طه حسين والعقاد حوّلا الساحة الأدبية إلى حلبة صراع، ونصر حامد أبو زيد دفع ثمن أفكاره بالنفي والتكفير. لماذا يا ترى؟ لماذا يتحول الاختلاف الفكري – الذي يُفترض أنه جوهر العمل الثقافي – إلى عداء وجودي؟ ولماذا يصعب على المثقفين، وهم حملة الفكر النقدي والانفتاح، أن يتعايشوا مع بعضهم؟
المفارقة ليست في كون المثقفين يختلفون – فهذا طبيعي ومتوقع – بل في أن خلافاتهم تأخذ طابعًا شخصيًا عميقًا، وكأن الفكرة المخالفة ليست مجرد رأي آخر، بل تهديد للوجود ذاته. في هذا المقال، نحاول تفكيك هذه المفارقة، وفهم الآليات النفسية والاجتماعية التي تحوّل ساحة الفكر من فضاء للحوار إلى حقل للصراع.
الفكرة كهوية وجودية
السبب الأول يكمن في أن المثقف لا يحمل أفكارًا، بل يُعرّف نفسه من خلالها. الفكرة بالنسبة له ليست مجرد رأي قابل للتغيير، بل هي بنية وجودية تشكّل هويته ومكانته في العالم. حين ينتقد أحدهم فكرة يؤمن بها المثقف، فهو لا ينتقد مجرد طرح نظري، بل يهاجم – في نظره – جوهر ما يعتقد أنه عليه.
لنتأمل الصراع الشهير بين جان بول سارتر وألبير كامو في خمسينيات القرن الماضي. لم يكن خلافهما حول الثورة والعنف مجرد اختلاف نظري، بل تحول إلى قطيعة شخصية عميقة استمرت حتى وفاة كامو. كل منهما رأى في موقف الآخر خيانة لما يجب أن يكون عليه المثقف الحقيقي. وفي الساحة العربية، شهدنا صراعات مشابهة بين طه حسين والعقاد، حيث تحولت خلافاتهما الأدبية إلى معارك شخصية امتدت لعقود، وكأن كل منهما كان يدافع لا عن رأي أدبي، بل عن شرعية وجوده الثقافي ذاته.
هنا يتحول الخلاف الفكري إلى تهديد شخصي. فالدفاع عن الفكرة يصبح دفاعًا عن الذات، والتنازل عنها يُشعر المثقف بأنه يفقد جزءًا من كيانه. لهذا نرى مثقفين يتمسكون بمواقفهم حتى في مواجهة الأدلة الدامغة، لأن التراجع يعني – في اللاوعي – انهيار البناء الذاتي.
المجال الثقافي كحقل صراع
السبب الثاني يتعلق بطبيعة المجال الثقافي نفسه. المعرفة لا تُنتَج في فراغ، بل في سياق اجتماعي محكوم بعلاقات القوة والاعتراف. المثقف لا يطرح فكرة ليثري النقاش فحسب، بل ليحتل موقعًا في خريطة الفكر، ليُعترف به كصوت شرعي، وليحظى بالتقدير الرمزي الذي يمنحه وجوده معنى.
تذكّر كيف استقبل المؤسسة الثقافية المصرية نجيب محفوظ حين نشر "أولاد حارتنا". لم يكن الهجوم عليه مجرد رفض لرواية، بل دفاع عن التراتبية الثقافية القائمة التي رأت في الرواية تهديدًا لسلطتها التفسيرية. وفي فرنسا، حين ظهر الفيلسوف ميشيل فوكو بأفكاره عن السلطة والمعرفة، واجه مقاومة شرسة من المؤسسة الأكاديمية التقليدية، لا لأن أفكاره خاطئة بالضرورة، بل لأنها أعادت تعريف قواعد اللعبة الفكرية نفسها.
في هذا الحقل المشبع بالتنافس، كل فكرة جديدة تُطرح ليست مجرد إضافة، بل تهديد محتمل لمن سبقوها. الفكرة المخالفة تزعزع التراتبية القائمة، وتعيد توزيع الاعتراف، وتطرح أسئلة تُحرج الإجابات السابقة. لذا لا يُستقبل المثقف الجديد أو الفكرة المغايرة بالترحاب، بل بالحذر وأحيانًا بالعداء.
الغرور المعرفي كآلية دفاع
ثمة سبب ثالث يتعلق بالغرور، لكنه ليس غرورًا أخلاقيًا بسيطًا، بل غرور معرفي عميق. المثقف الذي أفنى سنوات في بناء منظومته الفكرية، يصعب عليه أن يقبل أن رؤيته قد تكون ناقصة أو خاطئة. هذا الغرور ليس مجرد كبرياء، بل آلية دفاع نفسية ضد القلق الوجودي: ماذا لو كان كل هذا الجهد الفكري قد بُني على أساس هش؟
في العالم العربي، رأينا كيف تحول الخلاف بين أدونيس ومحمود درويش حول الشعر والهوية إلى صمت طويل بينهما. كل منهما بنى مشروعًا شعريًا وفكريًا ضخمًا، واعتبر أن الاعتراف بوجاهة رؤية الآخر قد يهدد تماسك مشروعه. وعلى الصعيد العالمي، استمر الصراع بين سيغموند فرويد وكارل يونغ حتى بعد افتراقهما، لأن كل منهما كان قد استثمر حياته في بناء نظرية نفسية متكاملة، والتنازل عن جزء منها كان يعني إعادة بناء كل شيء من جديد.
حين يواجه المثقف فكرة تناقض قناعاته، يدخل في حالة من التنافر المعرفي. عقله يرفض الفكرة الجديدة ليس لأنها بالضرورة خاطئة، بل لأن قبولها يعني إعادة بناء كامل لمنظومته الفكرية. وهذه العملية مؤلمة ومكلفة نفسيًا، فيصبح الإنكار والرفض أسهل من المراجعة.
الاختلاف الأنطولوجي لا مجرد اختلاف آراء
السبب الرابع أن اختلاف المثقفين ليس اختلافًا في التفاصيل، بل اختلاف في تعريف الواقع نفسه. ما يراه أحدهم حقيقة مركزية، يراه الآخر وهمًا أو تضليلًا. ما يعتبره الأول سؤالًا مشروعًا، يعتبره الثاني مضيعة للوقت أو خطرًا أيديولوجيًا.
الصراع الشهير بين نصر حامد أبو زيد وخصومه يمثل نموذجًا صارخًا لهذا الاختلاف. لم يكن الخلاف حول تفسير نص ديني، بل حول شرعية المنهج التأويلي نفسه. أبو زيد كان يطرح سؤالًا يراه خصومه غير مشروع من الأساس. وفي الغرب، الصراع بين ريتشارد دوكينز والمفكرين الدينيين لم يكن حول أدلة علمية فقط، بل حول ما إذا كان العلم هو المرجع الوحيد للحقيقة أم أن هناك مصادر معرفية أخرى مشروعة.
هذا الاختلاف الجذري يجعل الحوار صعبًا، لأن الطرفين لا يتحدثان من الأرضية نفسها. إنهما لا يختلفان على الإجابة، بل على السؤال ذاته، بل وعلى شرعية طرح هذا السؤال من الأساس. وحين ينعدم الأرضية المشتركة، يتحول الحوار إلى صراع على فرض الإطار المعرفي الذي ستجري داخله المناقشة.
سلطة الفكر ورغبة الهيمنة
وأخيرًا، ثمة رغبة خفية في الهيمنة. المثقف، رغم أنه يشكك في السلطة السياسية، ينتج سلطة من نوع آخر: سلطة المفهوم، سلطة اللغة، سلطة التأويل. الفكرة، حين تنتشر وتُقبَل، تمنح صاحبها قوة رمزية هائلة: قدرة على تشكيل وعي الآخرين، على تسمية الأشياء، على تحديد ما هو مقبول وما هو مرفوض.
الصراع بين إدوارد سعيد ومنتقديه حول "الاستشراق" لم يكن مجرد نقاش أكاديمي، بل صراع على من يملك السلطة في تفسير الشرق وتمثيله. كل طرف كان يسعى لفرض إطاره المفاهيمي كأداة شرعية لفهم الواقع. وفي الساحة العربية المعاصرة، نشهد صراعات مستمرة بين التيارات الفكرية المختلفة – ليبرالية وإسلامية وقومية ويسارية – حيث كل تيار لا يسعى فقط لطرح رؤيته، بل لإقصاء الرؤى الأخرى واحتكار تعريف "المثقف الحقيقي" و"المشروع الوطني" و"الحداثة".
من هنا تنشأ الصراعات الأشد ضراوة: صراعات بلا دم، لكن بذاكرة طويلة وجروح عميقة. فالمثقفون لا يتنافسون على المال أو السلطة السياسية فحسب، بل على شيء أكثر قيمة في نظرهم: القدرة على صياغة المعنى، والاعتراف بأنهم من يملكون مفاتيح فهم العالم.
هل من مخرج؟
ليس القصد من هذا التشخيص تبرير العداء بين المثقفين، بل فهم آلياته العميقة. لأن الفهم هو الخطوة الأولى نحو تجاوز هذه الأزمة. المثقف الناضج هو من يدرك أن فكره نافذة على الحقيقة، لا الحقيقة ذاتها. وأن اللقاء مع الفكر المخالف ليس تهديدًا، بل فرصة لتوسيع الرؤية.
ربما يكون الحل في أن يتعلم المثقفون الفصل بين الفكرة والهوية، بين النقد الفكري والهجوم الشخصي، بين الدفاع عن الحقيقة والدفاع عن الأنا. وربما، في لحظة نادرة من التواضع المعرفي، يمكن للحوار أن يصبح فضاء لتوليد المعنى، لا ساحة لتصفية الحسابات الرمزية.
لكن هذا يتطلب شجاعة من نوع آخر: شجاعة الاعتراف بأننا جميعًا نرى جزءًا من الحقيقة، لا كلها. وأن الفكر الحقيقي لا يبدأ بالإجابة، بل بالسؤال الذي نطرحه معًا.



#عادل_الدول (هاشتاغ)       Adil_Al_Dool#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كيف نحمي أنفسنا من الأشخاص السامّين دون أن نفقد إنسانيتنا
- الكارثة المعرفية الراهنة..كيف تُصاغ قناعات الناس؟
- الصغير يعلم الكبير - تحول المعرفة يهز أركان المجتمع العربي
- الحرب كنموذج عمل: كيف تحولت الصراعات إلى آلة للربح المستدام
- في انتظار أن يصبح سببًا
- الحسد: رحلة الشعور الأزلي من الأسطورة إلى الخوارزمية
- أنت والحظ: حين تنحرف المعادلة عن قوانينها
- المأزق الثقافي العربي: بين العجز والنهوض
- الألم... ميلادٌ لا ينتهي
- العصر الأسود: أغنية الشاشات المغلقة
- العراق: هشاشة الدولة وأزمة الهوية الوطنية
- سجون عقولنا غير المرئية: كيف تُديرنا معتقدات الطفولة القديمة ...
- التغيير الإيجابي والمستدام: في معنى التكيّف الهوياتي
- البشتون وإسرائيل: بين الأسطورة التوراتية وأدوات المشروع السي ...
- عندما يُشلّنا الخوف من الخطأ: من تبرير النية إلى امتلاك الأث ...
- هل يحتاج العالم العربي إلى ديمقراطية... أم إلى رؤية جديدة لد ...
- قانون جانتي: يُقلّل من الحسد الطبقي، ويُعزّز التماسك الاجتما ...
- هوليوود تُعيد كتابة سرديّتها: حين يكسر النجوم صمتهم عن فلسطي ...
- التسامح مع عدم اليقين
- الإنسان في عصر البيانات الرقمية: بين الوعي والسيطرة


المزيد.....




- مفاوضات السلام في أوكرانيا.. إليكم ما تم الاتفاق عليه والنقا ...
- روما تفتتح 2 محطة جديدة على خط مترو سي وتعرض آثار قديمة قرب ...
- بسبب -حق النقض- الإسرائيلي.. تركيا مستبعدة من مؤتمر قوة الاس ...
- خطأ إدراج حزب الله و-الحوثيين- على قوائم الإرهاب يطيح بمسؤول ...
- عاجل | البنتاغون: وزارة الخارجية وافقت على مبيعات عسكرية محت ...
- صحف عالمية: نتنياهو يشكل لجنة -للتستر- على تحقيقات 7 أكتوبر ...
- دول الجناح الشرقي لأوروبا تعتبر روسيا التهديد المباشر للأمن ...
- 337 أسرة سودانية وصلت كوستي بعد سيطرة الدعم السريع على هجليج ...
- أردوغان: غزة دُمّرت بقنابل تفوق هيروشيما 14 ضعفا
- -ما وراء الخبر- يسلط الضوء على تردي الأوضاع الإنسانية في قطا ...


المزيد.....

- علم العلم- الفصل الرابع نظرية المعرفة / منذر خدام
- قصة الإنسان العراقي.. محاولة لفهم الشخصية العراقية في ضوء مف ... / محمد اسماعيل السراي
- الثقافة العربية الصفراء / د. خالد زغريت
- الأنساق الثقافية للأسطورة في القصة النسوية / د. خالد زغريت
- الثقافة العربية الصفراء / د. خالد زغريت
- الفاكهة الرجيمة في شعر أدونيس / د. خالد زغريت
- المفاعلة الجزمية لتحرير العقل العربي المعاق / اسم المبادرتين ... / أمين أحمد ثابت
- في مدى نظريات علم الجمال دراسات تطبيقية في الأدب العربي / د. خالد زغريت
- الحفر على أمواج العاصي / د. خالد زغريت
- التجربة الجمالية / د. خالد زغريت


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - عادل الدول - المثقفون… حين يتحوّل الاختلاف إلى خصومة