أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - مالك الجبوري - حين يستعيد العقل مكانته: تفكيك سلطة النص ومسارات النقد الديني الحديث















المزيد.....

حين يستعيد العقل مكانته: تفكيك سلطة النص ومسارات النقد الديني الحديث


مالك الجبوري

الحوار المتمدن-العدد: 8558 - 2025 / 12 / 16 - 15:32
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


يشهد الفكر العربي المعاصر لحظة مفصلية تُرغم العقل على إعادة النظر في مكانة الدين داخل الحياة العامة، وعلى مساءلة الخطاب الذي احتكر المعنى لقرون طويلة دون أن يسمح بوجود صوت موازٍ أو قراءة بديلة. فالتحديات التي تواجه المجتمعات العربية اليوم—من صعود الإسلاموية، وانحسار الدولة المدنية، وتفاقم الصراعات الطائفية، وتحوّل المجال الديني إلى قوة سياسية—تفرض على الباحثين والمفكرين مسؤولية إعادة فتح ملف كان يُعد من المحرمات: حدود النص، وسلطة التفسير، ومشروعية احتكار المؤسسة الدينية للفهم. وفي هذا السياق، برزت ثلاث مقاربات متميزة قدمت رؤى مختلفة لكيفية التعامل مع الخطاب الديني: مقاربة القطيعة النصية، ومقاربة التفكيك التاريخي، ومقاربة التأويل الحداثي. هذه الاتجاهات، رغم اختلافها، تشكل معًا لوحة معقدة للنقد الديني العربي الحديث، وتعكس مسارًا معرفيًا يتجاوز الجدل التقليدي بين الإيمان والإلحاد ليصل إلى جوهر المسألة: كيف يمكن للنص أن يتفاعل مع المجتمع دون أن يتحول إلى سلطة فوق بشرية تسلب الإنسان حقه في التفكير؟
يمثل حميد زناز الاتجاه الأكثر جذريّة في هذا المشهد، إذ ينطلق من فرضية تفيد بأن النص ليس بريئًا، وأن الإشكال ليس في سوء الفهم أو الانحراف، بل في البنية النصية نفسها. فالنص الديني، كما يراه زناز، يحمل مشروعًا شموليًا يحدد شكل الدولة، ونمط القانون، وموقع الفرد داخل الجماعة؛ وهو مشروع لا يترك مساحة للعلمنة أو لحرية الضمير إلا بوصفها تهديدًا لسلطته. ولذلك، يرفض زناز أي محاولة لإنتاج “إسلام معتدل”، معتبرًا أنها محاولة تجميلية لا تواجه أصل المشكلة، بل تعيد إنتاجها بلغة ناعمة. ويؤكد أن الإسلاموية ليست شذوذًا فكريًا، بل ترجمة مباشرة للنص حين يُقرأ بمعناه الأصلي دون فلاتر. ومن هنا، تصبح القطيعة—وليس الإصلاح—ضرورة معرفية، ليس بهدف معاداة الدين، بل بهدف إعادة تحديد حدوده في الفضاء العمومي، وحماية الدولة الحديثة من المنظومة اللاهوتية التي تحاول أن تفرض نفسها كقانون أعلى من المجتمع.
أما حامد عبد الصمد، فإنه يذهب إلى مقاربة مختلفة تستعيد التاريخ بوصفه المفتاح الذي يفك ألغاز النص، ويكشف الشروط الاجتماعية والسياسية التي تكوّن فيها. فالسردية الدينية في رأيه لم تتشكّل في فراغ، بل في زمن تحكمه تحديات البقاء، والصراعات القبلية، والسلطة، والغزو، وحاجة الدولة الناشئة إلى توحيد المجتمع حول خطاب يعزّز شرعيتها. ولذلك فإن الكثير مما يُقدَّم اليوم بوصفه “تعاليم ثابتة” لا يعدو كونه قراءات بشرية صيغت في سياق سياسي محدد، ثم ثُبّتت بقوة العادة واشتغال المؤسسة الفقهية. ويكشف عبد الصمد كيف أدى تراكم هذه القراءات إلى بناء منظومة لاهوتية تحمي نفسها بإحاطة النص بهالة من القداسة، بحيث يصبح أي نقد له تعديًا لا على الفقه وحده، بل على “المقدّس” نفسه. وبهذا المعنى، يقدّم عبد الصمد نقدًا ثقافيًا-تاريخيًا يعري جذور العنف الرمزي والجسدي في التجربة الإسلامية، لكنه لا يضع مشروعًا بديلاً، بل يركز على الكشف، والفضح، ووضع التراث أمام مرآة لم يجرؤ أحد سابقًا على الاقتراب منها.
وعلى الضفة الأخرى، يتقدم مشروع نصر حامد أبو زيد بمنهج معرفي أكثر تركيبًا، يعتمد على التفريق بين جوهر النص وطبيعة الفهم البشري له. فالنص، لدى أبو زيد، خطاب لغوي، يخضع لقوانين اللغة، ولتاريخ تشكل المجتمع، ولظروف إنتاجه. وما يحدث عبر الزمن هو أن القراءات البشرية تتحول إلى سلطات تفرض نفسها على النص حتى تُلغى حرية التأويل، وتُختزل الدلالات في معنى واحد تفرضه المؤسسة الدينية. ويرى أبو زيد أن هذا الاحتكار هو ما حوّل النص إلى منظومة مغلقة غير قادرة على التفاعل مع تطور المجتمعات الحديثة. ويقترح العودة إلى منهج تأويلي يسمح بتحرير النص من سلطات الماضي، وإعادة إدماجه في حياة الإنسان بوصفه نصًا متعدّد الدلالات، يمكن قراءته باستمرار وفق معايير العقل واللغة والتاريخ. وقد شكلت تجربته الشخصية—بما فيها محاكمته وفصله القسري عن زوجته—دليلًا صارخًا على قوة المؤسسة الدينية وعلى خطورة محاولة فصل الدين عن السلطة.
حين نجمع هذه المقاربات في إطار واحد، يتضح أن النقد الديني العربي المعاصر لا يسير في خط واحد، بل يفتح ثلاث جبهات معرفية مختلفة. فهناك من يرى أن النص نفسه يحتاج إلى مراجعة جوهرية لأنه، في بنيته الصلبة، لا يسمح بالحداثة ولا يعترف باستقلالية الدولة. وهناك من يرى أن المشكلة ليست في النص بل في التاريخ الذي حمله، وأن الحل يكمن في إعادة قراءة السردية الدينية خارج منطق السلطة. وهناك من يؤمن بأن النص قابل للتأويل المفتوح، وأن المشكلة ليست في الرسالة، بل في الطريقة التي احتكر بها المفسرون حق فهمها. وما يجمع بين هذه الاتجاهات أن جميعها ترفض الخضوع للقراءة الأحادية، وترفض أن تتحول المؤسسة الدينية إلى سلطة فوق بشرية لا تُراجع.
تكشف هذه المشاريع أن معركة الحداثة في العالم العربي ليست معركة سياسية فقط، بل هي معركة معرفية في المقام الأول. فالدولة المدنية لا يمكن أن تُبنى على نصوص تُقرأ بوصفها قوانين سماوية غير قابلة للنقاش. والحرية الفردية لا يمكن أن تزدهر بينما تُصادرها سلطة تملك الحق المطلق في تحديد ما هو شرعي وما هو محرّم. والعقل لا يمكن أن يؤدي دوره ما دام خاضعًا لسلطة تفسيرية تعتبر نفسها امتدادًا للإرادة الإلهية. إن هذه المقاربات، رغم اختلافها، تتفق على أن مستقبل المجتمعات العربية يتوقف على قدرة الأفراد على إعادة تعريف علاقتهم بالنص، وبالتراث، وبالسلطة الدينية التي ما زالت ترى نفسها فوق الدولة وفوق الإنسان.
وفي ضوء هذه التحولات، يصبح السؤال الجوهري: هل يستطيع العقل العربي أن ينتقل من مرحلة الخضوع إلى مرحلة المساءلة؟ وهل يمكن للمجتمعات أن تتبنى خطابًا دينيًا جديدًا لا يستمد قدسيته من النص وحده، بل من احترام الإنسان وحقوقه ووعيه؟ إن هذه الأسئلة تبقى مفتوحة، لأنها ترتبط بمسار طويل من الصراع بين الماضي والمستقبل، بين السلطة والمعرفة، بين النص والعقل. ومع ذلك، فإن مجرد طرحها اليوم يُعد خطوة نوعية في اتجاه كسر الصمت الذي طال أمده، وإعادة الاعتبار للنقد بوصفه شرطًا أساسيًا لولادة وعي جديد قادر على تحرير الإنسان من الخوف ومن سلطة الخرافة.



#مالك_الجبوري (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- من علي الوردي إلى قيس الخزعلي: حين يهاجم الوهمُ علمَ الاجتما ...
- العنف الشيعي والعنف السني: تشابهات عميقة خلف الانقسام المذهب ...
- عندما تتردد الدولة: قراءة في إلغاء قرار تجميد أموال حزب الله ...
- العراق بين الدولة والمحاور: خطوة جريئة قد تغيّر قواعد اللعبة
- كاظم الحائري، نظرية الكفاح المسلح، والانتظار المهدوي – قراءة ...
- لا يهم أن كنت فقيرًا في الدنيا… كيف تُستخدم اللغة الدينية لإ ...
- الحرب على الفرح في العراق: حين يتحوّل التحريم إلى مشروع سلطة
- «المسلم في أوروبا: قراءة في التوترات العميقة للاندماج»
- خطاب أحمد البشير: كيف تتحوّل السخرية إلى أداة لقراءة الواقع ...
- ظاهرة احمد البشير: كيف تحوّل الإعلام الساخر إلى قوة نقدية في ...
- الإعلام العراقي بعد 2003: كيف تغيّر المجال العام؟
- العراق 2025: تحليل نقدي لثبات المنظومة الحاكمة وحدود التغيير ...
- الجولاني في البيت الأبيض... نهاية زمن الشيطان وبداية زمن الت ...
- البرامج الحوارية السياسية في العراق: أزمة الخطاب الإعلامي وت ...
- حين تُصبح الجنة برنامجًا انتخابيًا: قراءة في تسييس المقدّس ب ...
- الانتخابات العراقية 2025: بين تديين السياسة وحدود الوعي المد ...
- الانتخابات العراقية 2025: بين فقر الوعي وثراء الشعارات
- ثورة تشرين 2019: خمسة ملايين دينار ثمن الشهيد
- مارك سافيا في بغداد: مبعوث ترامب وملفات النفوذ الإيراني
- اتفاق إسرائيل وحماس: بين واقعية السياسة وحدود العدالة


المزيد.....




- بعد 11 عاما…عودة طفل عراقي خطفه تنظيم ما يُعرف بالـ-دولة الإ ...
- ماذا فعل تنظيم الدولة الإسلامية في تدمر؟
- نزلها وثبتها حالًا .. تردد قناة طيور الجنة للأطفال الجديد عل ...
- جرائم الاحتلال في غزة تزيد من الحوادث المناهضة لليهود في أست ...
- سوريا - تنظيم الدولة الإسلامية يضرب من جديد، هل تصبح محاربة ...
- الشرطة الأسترالية: منفذا هجوم بونداي استلهما فكر تنظيم الدول ...
- نتنياهو يقتحم حائط البراق في المسجد الأقصى
- مجموعة إسلامية دعوية في أستراليا تنأى بنفسها عن المشتبه به ف ...
- رئيس وزراء أستراليا: اعتداء سيدني مدفوع بـ-أيديولوجية تنظيم ...
- اليهود المتشددون يهددون نتنياهو بحل الكنيست والذهاب لانتخابا ...


المزيد.....

- رسالة السلوان لمواطن سعودي مجهول (من وحي رسالة الغفران لأبي ... / سامي الذيب
- الفقه الوعظى : الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- نشوء الظاهرة الإسلاموية / فارس إيغو
- كتاب تقويم نقدي للفكر الجمهوري في السودان / تاج السر عثمان
- القرآن عمل جماعي مِن كلام العرب ... وجذوره في تراث الشرق الق ... / مُؤْمِن عقلاني حر مستقل
- علي قتل فاطمة الزهراء , جريمة في يترب / حسين العراقي
- المثقف العربي بين النظام و بنية النظام / أحمد التاوتي
- السلطة والاستغلال السياسى للدين / سعيد العليمى
- نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية / د. لبيب سلطان
- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - مالك الجبوري - حين يستعيد العقل مكانته: تفكيك سلطة النص ومسارات النقد الديني الحديث