أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - مالك الجبوري - «المسلم في أوروبا: قراءة في التوترات العميقة للاندماج»















المزيد.....

«المسلم في أوروبا: قراءة في التوترات العميقة للاندماج»


مالك الجبوري

الحوار المتمدن-العدد: 8534 - 2025 / 11 / 22 - 15:39
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


يشهد الوجود الإسلامي في أوروبا تحولات مركبة تتجاوز تعددية الخلفيات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية للجاليات المسلمة، لتلامس البنية العميقة للهوية والدين والاندماج والتمثلات المتبادلة بين الطرفين. فالمسلم الذي وصل إلى الغرب خلال العقود الأخيرة – هربًا من انهيار الدولة أو الحروب الأهلية أو القمع السياسي أو الفقر البنيوي – دخل فضاءً قانونيًا ومدنيًا قائمًا على الحرية، والمساواة، والمواطنة، وتحييد الدين عن المجال السياسي العام. غير أن هذا الانتقال الصادم من بيئة متوترة إلى بيئة مستقرة لم يؤدِّ بالضرورة إلى انتقال موازٍ على مستوى الهياكل الذهنية والدينية. هنا تحديدًا يظهر التوتر العميق: المسلم يعيش في مجتمع حديث، لكنه يحمل معه خطابًا دينيًا تقليديًا وتصورًا هوياتيًا يصطدم جذريًا بالقيم الأوروبية الحديثة.
هذا التوتر يتجسد أولًا في خطاب التفوق الديني الذي ما يزال حاضرًا بقوة في جزء كبير من الموروث الديني والوعظي. فالفكرة القائلة بأن “المسلم خير أمة” تتحول من معنى أخلاقي إلى معنى تفاضلي يضع المسلم فوق غيره من البشر، ويُصنّف الأوروبي – مسيحيًا كان أو يهوديًا أو ملحدًا – ضمن فئة “الكفار”، وهي فئة محمّلة دينيًا بدلالات النقص والدونية. كما تزداد خطورة هذا الخطاب حين يُلبَس لبوسًا سياسيًا واجتماعيًا يقدّم غير المسلم بوصفه “أداة” خلقها الله لتقوم بأعمال الصناعة والاختراع، بينما خُلقت “الأمة” – بحسب بعض الشيوخ – للهداية ونقل الرسالة. وتنتشر مثل هذه الخطب اليوم على نطاق واسع عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وغالبًا ما تُترجم إلى اللغات الأوروبية، بما يجعل تأثيرها على الرأي العام الأوروبي مباشرًا وواضحًا.
إن خطاب التفوق الديني هذا ليس مجرد أثر تراثي عابر، بل يعمل كآلية نفسية لتعويض الشعور الجماعي بالعجز الحضاري. فالمسلم الذي يعيش في أوروبا يدرك، بوعي أو من دون وعي، حجم الفجوة الحضارية بين العالمين: الغرب الديمقراطي المزدهر، والعالم الإسلامي الذي يعيش أزمات هيكلية. لكن الخطاب الديني التقليدي يمنحه “تفوقًا رمزيًا” يخفف هذا الشعور بالعجز، فيتحول الإحساس بالنقص إلى إحساس بالتعالي. ومن هنا تظهر أزمة مزدوجة: مسلم يستفيد من القيم الأوروبية لكنه غير قادر على الاعتراف بفضلها عليه، لأنها مجتمعات “كافرة” في وعيه العميق؛ وأوروبي يرى في هذا الخطاب نوعًا من الاحتقار المتبادل، ما يفتح الباب واسعًا أمام الشك والخوف.
ويتقاطع خطاب التفوق مع خطاب آخر أشد حساسية، وهو خطاب الفتح والسيطرة. فهناك اتجاهات دينية – سُنّية وشيعية على السواء – تستدعي مفاهيم “دار الإسلام” و“دار الكفر” و“الغلبة” و“الفتح” في سياقات حديثة لا علاقة لها بزمن الإمبراطوريات. ويتحدث بعض الوعّاظ، من داخل أوروبا نفسها، عن أن هذه القارة “ستنفتح يومًا ما”، وأن المسلم “سيحكمها بالعدل”، وعن أن الأرض التي يطؤها المسلم تصبح “أرض الإسلام”. بل تتجاوز بعض الخطب حدود المبالغة لتتحدث عن النساء الأوروبيات بوصفهن “غنائم” مستقبلية أو “جواري” في تصور فانتازي لا يعكس واقعًا سياسيًا بل يعكس بنية عقلية لم تخضع لعملية تحديث أو نقد.
حين يسمع الأوروبي هذه الخطب مترجمة إلى لغته، لا يراها نقاشًا دينيًا نظريًا، بل يقرأها بوصفها تهديدًا مباشرًا: ضيف يعيش على أراضيه يتحدث عن احتلالها، وجالية تطالب بالحقوق وتتحدث في الوقت نفسه عن تغيير هوية البلد الذي يعيشون فيه. ومن هنا ترتفع مخاوف المجتمع، ويتحول أي اختلاف ثقافي بسيط – كالحجاب أو الصلاة في الشارع – إلى مؤشر على “مشروع أسلمة أوروبا”. في هذا المناخ، يصبح اليمين المتطرف هو المستفيد الأكبر، لأنه يجد أمامه مادة جاهزة لتسويق خطاب: “قلنا لكم… الإسلام خطر حضاري.”
وتتعمق أزمة المسلم في أوروبا عندما ننظر إلى جذور وجوده هناك. فالغالبية الساحقة من المسلمين لم يصلوا إلى أوروبا إلا بعد انهيار مؤسسات دولهم، أو بسبب طغيان الأنظمة، أو بسبب الحروب الطائفية، أو كردة فعل على اقتصاد عاجز عن منحهم حياة كريمة. أوروبا لم تستقبلهم فقط، بل وفرت لهم ما فقدوه في أوطانهم: الأمن، القانون، العدالة، فرص العمل، والحرية الفردية. لكن التناقض يظهر حين يعيش المسلم بين واقع يحميه ويحترمه، وخطاب ديني يعلمه بأن الآخر “أقل منه” روحيًا وأخلاقيًا. عدم القدرة على الاعتراف بفضل المجتمعات الأوروبية ليس مسألة أخلاقية فحسب، بل هو عجز هوياتي، لأن الاعتراف يعني تصحيح صورة “الكافر” المتخيلة في الوعي الديني التقليدي، ويعني الإقرار بأن النظام العلماني قد يكون أكثر عدلًا من الأنظمة الإسلامية التي ينتمي إليها المسلم.
وتبلغ هذه الأزمة ذروتها حين تتقاطع مع العمليات الإرهابية التي تضرب الدول الأوروبية بين حين وآخر. فالإرهاب هو الشكل العنيف النهائي لخطاب التفوق والفتح والكراهية تجاه الآخر. الإرهابي يرى أوروبا دار حرب، ويرى غير المسلم هدفًا مشروعًا، ويحوّل الخطاب الوعظي إلى فعل دموي في الشارع. لكن المفارقة هي أن المسلم المعتدل هو أول من يدفع الثمن بعد وقوع أي هجوم: تتصاعد موجة الكراهية، وتنشأ حالة من الشك الجماعي، وتشتد إجراءات المراقبة، وتُغلق بعض المساجد، وتُستهدف الجمعيات الإسلامية، ويتحول ملايين المسلمين الذين يعيشون بسلام إلى مشتبه بهم لمجرد انتمائهم الديني.
هذا الوضع ينتج دائرة مغلقة من التوتر: خطاب ديني تقليدي ينتج خوفًا أوروبيًا؛ وخوف أوروبي ينتج تشددًا سياسيًا؛ وتشدد سياسي يدفع بعض الشباب المسلمين إلى التطرف؛ والتطرف يعيد إنتاج الأزمة من جديد. ولا يمكن الخروج من هذه الدائرة إلا عبر مقاربة أعمق تعترف بأن المشكلة ليست في الإسلام كدين، ولا في أوروبا كمجتمع، بل في التمثلات الذهنية التي لم يتم تحديثها وفي الخطابات التي لم تخضع لنقد حقيقي، وفي غياب جسر معرفي يتيح للمسلم أن يرى الأوروبي كشريك في المواطنة لا كخصم عقدي.
إن إعادة بناء علاقة سليمة بين المسلمين والغرب تتطلب إعادة التفكير في مفاهيم التفوق الديني، وتفكيك خطاب الفتح والهيمنة، والقطع مع الأدبيات التي تصنف العالم إلى “نحن” و“هم” على أسس لاهوتية. كما تتطلب شجاعة من الجاليات المسلمة في نقد ذاتها وخطاباتها، وجرأة من المجتمعات الأوروبية في تجاوز الأحكام الجاهزة التي تصنعها كل عملية إرهابية. فالعلاقة بين الطرفين لن تُبنى بالخوف، ولا بالتعالي، ولا بالتبشير السلطوي، بل بالاعتراف المتبادل، واحترام القانون، وتطوير مفهوم المواطنة المشتركة.
بهذه المقاربة وحدها يمكن تخفيف التوتر، وتجاوز منطق الشك المتبادل، وفتح الطريق أمام جيل جديد من المسلمين يتصالح مع ذاته ومع المجتمع الذي يعيش فيه، ويشارك في بنائه باعتباره وطنًا لا ساحة صراع، وفضاء مواطنة لا غنيمة حضارية.



#مالك_الجبوري (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- خطاب أحمد البشير: كيف تتحوّل السخرية إلى أداة لقراءة الواقع ...
- ظاهرة احمد البشير: كيف تحوّل الإعلام الساخر إلى قوة نقدية في ...
- الإعلام العراقي بعد 2003: كيف تغيّر المجال العام؟
- العراق 2025: تحليل نقدي لثبات المنظومة الحاكمة وحدود التغيير ...
- الجولاني في البيت الأبيض... نهاية زمن الشيطان وبداية زمن الت ...
- البرامج الحوارية السياسية في العراق: أزمة الخطاب الإعلامي وت ...
- حين تُصبح الجنة برنامجًا انتخابيًا: قراءة في تسييس المقدّس ب ...
- الانتخابات العراقية 2025: بين تديين السياسة وحدود الوعي المد ...
- الانتخابات العراقية 2025: بين فقر الوعي وثراء الشعارات
- ثورة تشرين 2019: خمسة ملايين دينار ثمن الشهيد
- مارك سافيا في بغداد: مبعوث ترامب وملفات النفوذ الإيراني
- اتفاق إسرائيل وحماس: بين واقعية السياسة وحدود العدالة
- ترامب وجائزة نوبل للسلام: وهم الزعامة وتناقض الخطاب السياسي
- سبايكر والانتخابات: حين يهين المالكي اما عراقية ويطلب من الش ...
- بين العشيرة والدولة: أزمة الهوية الوطنية في العراق المعاصر


المزيد.....




- من الشاشات إلى جوائز الغرامي.. صعود أسطوري لفرقة -كاتساي- ال ...
- أربعة صغار فهود تبصر النور في حديقة حيوانات سميثسونيان الوطن ...
- -ربت على كتفه-.. مبادرة أردوغان لتحية وزير خارجية السعودية ب ...
- موجة برد قطبية تجلب تساقطا كثيفا للثلوج إلى شمال إسبانيا
- حين خرج -القطّ الساحر- الإيراني من السرّية.. تسريب واسع يكشف ...
- انطلاق قمة مجموعة العشرين في جوهانسبرغ وأميركا أبرز الغائبين ...
- رئيس وزراء ماليزيا يبحث التعاون مع المجلس الإسلامي الإثيوبي ...
- قتيل بقصف إسرائيلي لسيارة في جنوب لبنان
- نائبة أميركية تستقيل من الكونغرس بعد خلافها مع ترامب بشأن مل ...
- مستوطنون يحرقون منشأة زراعية ومسكنا بقرية شرق رام الله


المزيد.....

- اليسار الثوري في القرن الواحد والعشرين: الثوابت والمتحركات، ... / رياض الشرايطي
- رواية / رانية مرجية
- ثوبها الأسود ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- شيوعيون على مر الزمان ...الجزء الأول شيوعيون على مر الزمان ... / غيفارا معو
- حكمة الشاعر عندما يصير حوذي الريح دراسات في شعر محمود درويش / د. خالد زغريت
- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت
- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت
- جسد الطوائف / رانية مرجية
- الحجز الإلكتروني المسبق لموسم الحنطة المحلية للعام 2025 / كمال الموسوي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - مالك الجبوري - «المسلم في أوروبا: قراءة في التوترات العميقة للاندماج»