أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - مالك الجبوري - حين تُصبح الجنة برنامجًا انتخابيًا: قراءة في تسييس المقدّس بالعراق















المزيد.....

حين تُصبح الجنة برنامجًا انتخابيًا: قراءة في تسييس المقدّس بالعراق


مالك الجبوري

الحوار المتمدن-العدد: 8513 - 2025 / 11 / 1 - 18:12
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


من يتابع المشهد الانتخابي العراقي لعام 2025 يدرك حجم الفوضى التي أصابت الوعي العام والفضاء السياسي معًا. فالحملات الانتخابية لم تعد مجرد سباق ديمقراطي بين البرامج والأفكار، بل تحولت إلى مهرجان استعراضي للابتذال الشعبي والديني في آن واحد. صور المرشحين تملأ الجدران والأرصفة، والشعارات تتكرر بلا مضمون، أما الوعود فتكاد تكون نسخًا مشوهة من حملات سابقة فقدت مصداقيتها تمامًا. الجديد في هذه الدورة هو تسلّل الخطاب الديني إلى عمق العملية الانتخابية، ليس بصفته خطابًا أخلاقيًا أو تربويًا، بل باعتباره أداة صريحة للدعاية ولشراء الولاءات باسم الله.
أفي تسجيل مصوّر انتشر مؤخرًا، ظهر أحد رجال الدين ليقول صراحة إن “من يصوّت لأحد رؤساء الجامعات العراقية سيدخل الجنة”، مبررًا ذلك بأن المرشح من المقربين إلى الله ويُستجاب لدعائهم. لا يمكن لأي خطاب ديني أن يبلغ دركًا أدنى من هذا المستوى من الابتذال، حين تُوزّع مفاتيح الجنة على الناخبين كما تُوزّع المنشورات الانتخابية في الشوارع.
هذا المشهد ليس مجرد حادثة هامشية يمكن تجاوزها، بل هو تجسيد خطير لظاهرة تسييس المقدّس وتسليع الإيمان. فعندما تتحول الجنة إلى وعد انتخابي، يصبح الدين وسيلة تعبئة لا تختلف عن توزيع المواد الغذائية أو الأجهزة المنزلية، وتُختزل العلاقة بين الإنسان والله في ورقة اقتراع تُملأ بدافع الخوف أو الطمع.
يبدو أن الخطاب الديني في بعض مؤسساته فقد حساسيته التاريخية تجاه خطورة التداخل مع السلطة. فبدل أن يكون منبرًا للنقد الأخلاقي للسلطة، أصبح منبرًا لتبريرها أو الترويج لها. هذه الحالة يمكن تسميتها بـ**"الزواج غير الشرعي بين الديني والسياسي"**، حيث يُستخدم الدين لإضفاء الشرعية على الطموح الدنيوي، بينما يستعير السياسي من المقدّس هالته الرمزية لتغليف فساده بلغة الإيمان.
إنّ خطبة الشيخ المذكور لا تعبّر فقط عن فردٍ جاهل أو مأجور، بل تكشف عن منظومة فكرية واجتماعية تسمح بمثل هذا الانحدار. فالمجتمع الذي لا يفصل بين ما هو ديني وما هو مدني، سيظل فريسة سهلة لمن يوظف المقدّس لتحقيق المكاسب الدنيوية. والناخب الذي يقتنع بأن الجنة يمكن أن تُمنح عبر التصويت، هو ذاته الذي يُقنعه السياسي لاحقًا بأن سرقة المال العام "رزق من الله"، أو أن الولاء للطائفة أهم من الولاء للوطن.
إنّ الأخطر في هذا المشهد أن المرشح الذي دُعي للتصويت له بهذه الطريقة ليس رجل دين أو زعيم عشائري، بل رئيس جامعة، أي شخصية يُفترض أن تمثل النخبة العلمية والعقل النقدي في المجتمع. حين يسكت الأكاديمي عن مثل هذا الخطاب، فإنه يشارك ضمنيًا في جريمة تشويه الوعي العام، لأن صمته يعني الموافقة، أو على الأقل التسامح مع الجهل باسم الدين.
الجامعة في أصل وظيفتها هي مؤسسة للفكر النقدي، هدفها تحرير الإنسان من الأوهام لا تعزيزها، وبناء وعي مدني لا تحويل الإيمان إلى سلعة انتخابية. لذلك فإن هذا الحدث يعكس أزمة عميقة في البنية القيمية للمؤسسات التعليمية العراقية، التي لم تعد محصّنة أمام ضغوط السياسة أو غواية النفوذ.
حين يتحدّث رجل الدين باسم الله ليمنح الجنة لمن يشاء، فإنه لا يدنس الدين فحسب، بل يهين الله والعقل والإنسان في آنٍ واحد. فالإيمان لا يمكن أن يكون بطاقة انتخابية، ولا يمكن لله أن يصبح طرفًا في حملة ترويجية. كلّ هذا يعكس ما يمكن تسميته بـ"الانحدار المقدّس"؛ أي لحظة انهيار الحدود بين الإيمان والعقل، حيث يتكلم الجهل بلسان الدين، ويتحول المنبر إلى منصة دعائية مغطاة بلون من القداسة المصطنعة.
النتيجة الطبيعية لمثل هذا الخطاب هي تآكل الثقة بالدين ذاته، لأن الناس حين يرون المقدّس يُستغل في السياسة، يبدأون في الشك بكل ما هو ديني، ويختلط عليهم الصادق بالمنافق، والعقيدة بالدعاية. وهكذا تتحول الجريمة السياسية إلى فتوى، وتصبح الجنة سلعة انتخابية، ويضيع العقل في ضجيج التصفيق والتكبير.
اإنّ تحويل الدين إلى أداة انتخابية يعني عمليًا قتل روح الإيمان واستبدالها بالمصلحة. فبدل أن يكون الدين وازعًا أخلاقيًا يضبط سلوك الفرد في المجال العام، يُصبح أداة تلاعب بالعواطف الجماعية. والخطاب الذي يربط بين "الانتخاب" و"الخلاص الأخروي" يمارس أبشع أنواع الابتزاز الروحي، لأنه يستغل خوف الناس من العقاب ورغبتهم في النجاة، ليقودهم نحو صناديق الاقتراع بدافع ديني زائف.
وهنا يبرز سؤال جوهري: هل يدرك رجل الدين الذي يطلق مثل هذه التصريحات أنه يرتكب خيانة مزدوجة؟
خيانة للدين الذي يحرّف معناه، وخيانة للوطن الذي يضلّل أبناءه باسم السماء.
ما يحدث اليوم في العراق لا يمكن فصله عن تاريخ طويل من تديين السياسة وتسييس الدين، حيث استُخدم الخطاب الديني منذ عقود لإنتاج الطاعة لا الحرية، والولاء لا النقد. غير أن هذا الاستخدام بلغ اليوم مستوى من الابتذال لم يعد يُحتمل. لذلك، فإن الرد لا يكون بالسخرية وحدها، بل بتجديد الوعي الديني والعقل النقدي معًا، وإعادة تعريف العلاقة بين الإيمان والمواطنة، بحيث لا يكون الدين غطاءً للفساد ولا وسيلة لتزييف الإرادة الشعبية.
إنّ ما جرى في تلك الخطبة ليس حادثًا عابرًا، بل هو إنذار لمجتمع بدأ يفقد القدرة على التمييز بين الحقيقة والوهم، بين الدين كقيمة أخلاقية والدين كأداة سلطة. ومن هنا تأتي ضرورة بناء خطاب ديني جديد، يقوم على الاحترام المتبادل بين الدين والعقل، لا التبعية أو الاستغلال المتبادل.
لقد بلغ استغلال المقدّس في العراق حدًّا لم يعد يمكن السكوت عليه. حين تُوزّع قصور الجنة على الناخبين، وحين يصبح التصويت طريقًا إلى الفردوس، فهذا يعني أننا أمام انهيار خطير في المعايير الأخلاقية والفكرية، يهدد ليس فقط صورة الدين، بل مستقبل الدولة المدنية والعقلانية في العراق.
فالدين ليس وكالة دعاية انتخابية، والجنة ليست منحة سياسية. وما بين الشيخ الذي يبيع الوهم، والأكاديمي الذي يصمت، والناخب الذي يصدّق، تضيع الحقيقة ويُهان العقل.
إنها لحظة صادمة في تاريخ الوعي العراقي، تستحق أن تُكتب لا كخبر عابر، بل كتحذير فكري من سقوط المجتمع في فخّ تقديس الزيف وتزييف التقديس.



#مالك_الجبوري (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الانتخابات العراقية 2025: بين تديين السياسة وحدود الوعي المد ...
- الانتخابات العراقية 2025: بين فقر الوعي وثراء الشعارات
- ثورة تشرين 2019: خمسة ملايين دينار ثمن الشهيد
- مارك سافيا في بغداد: مبعوث ترامب وملفات النفوذ الإيراني
- اتفاق إسرائيل وحماس: بين واقعية السياسة وحدود العدالة
- ترامب وجائزة نوبل للسلام: وهم الزعامة وتناقض الخطاب السياسي
- سبايكر والانتخابات: حين يهين المالكي اما عراقية ويطلب من الش ...
- بين العشيرة والدولة: أزمة الهوية الوطنية في العراق المعاصر


المزيد.....




- أول ثدييات صغيرة تصل إلى محطة -القصر السماوي- الفضائية الصين ...
- رئيسة تنزانيا تفوز في الانتخابات بولاية جديدة وسط احتجاجات أ ...
- المتحف المصري الكبير... حين تنسجم العمارة الحديثة مع عراقة ا ...
- مسيرات في صربيا لإحياء ذكرى قتلى سقطوا في انهيار سقف محطة قط ...
- صربيا: الآلاف يشاركون في مسيرات لإحياء ذكرى قتلى سقطوا في ان ...
- قتيلان و10 مصابين في إطلاق نار بجزيرة كريت اليونانية
- كييف تقر بصعوبة الوضع في بوكروفسك وموسكو تتحدث عن استسلام جن ...
- -استغراب- يشرح كيف تحرر عقلك من الإلهاء الرقمي
- معدات مصرية تدخل الخط الأصفر والقسام تؤكد جاهزيتها لاستخراج ...
- 550 ألف سوري عادوا من تركيا لبلدهم منذ سقوط الأسد


المزيد.....

- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- شيوعيون على مر الزمان ...الجزء الأول شيوعيون على مر الزمان ... / غيفارا معو
- حكمة الشاعر عندما يصير حوذي الريح دراسات في شعر محمود درويش / د. خالد زغريت
- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت
- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت
- جسد الطوائف / رانية مرجية
- الحجز الإلكتروني المسبق لموسم الحنطة المحلية للعام 2025 / كمال الموسوي
- الأرملة السوداء على شفا سوريا الجديدة / د. خالد زغريت
- المدخل الى موضوعة الحوكمة والحكم الرشيد / علي عبد الواحد محمد
- شعب الخيام، شهادات من واقع احتجاجات تشرين العراقية / علي الخطيب


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - مالك الجبوري - حين تُصبح الجنة برنامجًا انتخابيًا: قراءة في تسييس المقدّس بالعراق