أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - مالك الجبوري - الانتخابات العراقية 2025: بين تديين السياسة وحدود الوعي المدني















المزيد.....

الانتخابات العراقية 2025: بين تديين السياسة وحدود الوعي المدني


مالك الجبوري

الحوار المتمدن-العدد: 8510 - 2025 / 10 / 29 - 07:17
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


تشكّل الانتخابات البرلمانية العراقية لعام 2025 لحظة اختبار حاسمة في مسار الدولة العراقية الحديثة، إذ تكشف عن استمرار العلاقة الملتبسة بين الدين والسياسة من جهة، وعن محاولاتٍ خجولة لظهور وعيٍ مدني جديد من جهة أخرى. فالمشهد الانتخابي الراهن لا يعكس قطيعة حقيقية مع مرحلة “تديين السياسة” التي ميّزت التجربة العراقية بعد عام 2003، بل يبيّن أن الخطاب الديني ما زال حاضراً، وإن فقدَ جزءًا من زخمه وتأثيره الرمزي، خصوصًا لدى الأجيال الشابة والمثقفين الذين باتوا أكثر ميلاً إلى مساءلة الخطاب المذهبي وممارسات السلطة الدينية.
في المقابل، لا يزال معظم الفاعلين السياسيين يوظفون الرموز والمرجعيات الدينية كأداة تعبئة انتخابية، في محاولة للحفاظ على جمهورٍ تقليديٍّ يرى في الدين ضمانةً للهوية أكثر مما يراه إطارًا أخلاقيًا للمواطنة. وهكذا تقف الانتخابات العراقية لعام 2025 عند مفترقٍ حاسم بين استمرار تديين السياسة كمنهجٍ في إنتاج السلطة، وبوادر وعيٍ مدنيٍّ يسعى، ولو ببطء، إلى إعادة تعريف المشاركة السياسية بمعايير وطنية لا مذهبية.
من أبرز سمات هذه الانتخابات قرار السيد مقتدى الصدر مقاطعة العملية الانتخابية، وهو قرار شكّل نقطة تحول كبرى في المشهد الشيعي. فقد كتب الصدر في منشور على منصة "إكس" (تويتر سابقاً): «إنها الانتخابات الأولى في العراق من دون التيار الشيعي الوطني، وهذا ما أدى إلى تزايد المخاوف عند المشتركين، وتزايدت معها تكهناتهم للسيناريوهات المحتملة، لذلك قيل إن التيار الشيعي الوطني سوف يمنع الوصول إلى صناديق الاقتراع بالقوة، أو يثير الفتن، أو يستعين بقواعده الشعبية المليونية لإنزالهم إلى الشارع.» لم يكن هذا الانسحاب موقفًا سياسياً فقط، بل تعبيرًا عن احتجاج أخلاقي ضد نظامٍ حزبيٍّ تحوّل من مشروع وطني مقاوم إلى شبكة مصالح تتحكم بها المحاصصة والفساد.
وفي ظل الجدل الواسع حول الموقف الديني من المشاركة، جاء رد المرجعية العليا في النجف بقيادة السيد علي السيستاني ليؤكد استقلالها النسبي عن اللعبة السياسية. إذ أصدر مكتب المرجع بيانًا جاء فيه: «حسب قناعة المواطن، فإن وجد أن المشاركة أوفق بمصلحة العراق فليشارك بانتخاب المرشح الصالح والأمين.» هذا الموقف أُريد له أن يُغلق الباب أمام محاولات الأحزاب استغلال اسم المرجعية في تعبئة الناخبين، فهو يكرّس مبدأ المسؤولية الفردية ويعيد الاعتبار لحرية الاختيار، في مقابل الضغوط الحزبية والطائفية التي سادت في الدورات السابقة.
رغم هذا الحياد النسبي، فإن الساحة الانتخابية لم تخلُ من تصاعد الخطاب الطائفي الذي استُخدم مجددًا كأداة للتعبئة. فقد أطلقت بعض المراجع الثانوية فتاوى صريحة لدعم تحالفات معينة، مثل دعوة مرجعية الشيخ محمد اليعقوبي للتصويت لصالح تحالف النهج الوطني في محاولة لإضفاء غطاء ديني على خيارات حزبية. وفي الجنوب، انتشر شعار «لتضيّعوها» الذي يحمل في طيّاته نغمة تحذيرية تعبّر عن الخوف من “ضياع الحكم الشيعي”. ففي أحد الخطب المتداولة في الناصرية، قال أحد رجال الدين: «أخاف على شيعة أهل البيت إذا رجع هؤلاء الشياطين، والله لن يبقوا لنا باقية… ما أريد رجل يتخلف عن الانتخابات بأي عذر… انتخبوا حتى المرشح الفاشل!» وفي المقابل، صعّد الشيخ أبو حبيب الصافي لهجته، فربط بين الامتناع عن التصويت والخيانة الدينية، قائلاً: «هاي نعمة الله، اللي ما ينتخب هذا خائن للمذهب، خائن للشعائر.»
هذه الخطابات تعبّر عن استمرار ذهنية الخوف من الآخر، حيث تُستحضر ثنائية “الشيعة–السنة” كأداة لتوحيد الصف الداخلي، بدل أن تكون الانتخابات ساحة تنافس على البرامج والرؤى. فالسياسة تُقدَّم بوصفها واجبًا شرعيًا لا خيارًا مدنيًا، مما يعيد إنتاج الطائفية بصيغ جديدة.
تتزامن هذه التعبئة الطائفية مع غياب مؤسسات بحثية مستقلة تتابع اتجاهات الرأي العام وتقدّم بيانات دقيقة عن نسب المشاركة والمقاطعة. فالعراق يفتقر حتى اليوم إلى تقاليد مؤسسية في دراسة السلوك الانتخابي، الأمر الذي يجعل من الصعب فهم دوافع الناخبين بعيدًا عن الانطباعات العامة. وفي هذا الفراغ، برزت وسائل التواصل الاجتماعي بوصفها منصةً بديلةً للتعبير الشعبي، فهي اليوم تمثّل “الشارع الرقمي” الذي يعكس نبض فئات واسعة من الشباب والمثقفين. وتشير المراقبة الأولية للمحتوى المتداول إلى أن الدعوات إلى مقاطعة الانتخابات تتسع، مقرونة بسخرية لاذعة من الطبقة السياسية ورجال الدين على حد سواء.
هذا التحول يكشف عن بداية تراجع التأثير الرمزي للخطاب الديني التقليدي، إذ لم تعد الفتاوى قادرة على توجيه السلوك الانتخابي كما في السابق، خاصة في المدن الكبرى والبيئات المتعلمة. ومع ذلك، يظل هذا التراجع نسبيًا وغير كافٍ لإحداث قطيعة فكرية مع إرث تديين السياسة، فالدين ما يزال في نظر كثيرين مصدرًا للهوية والشرعية أكثر مما هو منظومة قيم مدنية.
لا يمكن القول إن العراق يشهد اليوم صعودًا مدنيًا كاملاً، بل هو يعيش مرحلة انتقالية رمادية يتداخل فيها القديم بالجديد. فالوعي المدني ما يزال هشًا ومحدودًا بفئات اجتماعية معينة، لكنه يطرح تساؤلات جريئة حول مفهوم المواطنة، والولاء، والشرعية السياسية. في المقابل، لا تزال القوى الحزبية الدينية تحاول إعادة إنتاج سلطتها عبر مفاهيم “المظلومية” و“حماية المذهب”، متجاهلةً تدهور الخدمات وغياب العدالة الاجتماعية. هذه المفارقة بين خطاب الهوية ومطالب الحياة اليومية تمثّل جوهر الأزمة العراقية الحديثة.
تؤكد الانتخابات العراقية لعام 2025 أن الدولة ما زالت أسيرة الدين السياسي، وأن الوعي المدني لم يتحول بعد إلى قوة اجتماعية قادرة على التأثير في مسار الحكم. فالتراجع في تأثير الخطاب الديني موجود، لكنه لا يزال محدودًا وغير مؤسّس. ومع ذلك، فإن هذا التراجع بحد ذاته يشكّل مؤشراً مهماً على تحوّل بطيء في بنية الوعي العراقي، نحو قراءة أكثر نقدية للسلطة الدينية والسياسية على حد سواء.
إنّ العراق اليوم يقف أمام مفترقٍ مصيري بين الولاء للطائفة والولاء للدولة. وإذا لم يُترجم هذا التحول الفكري الجزئي إلى حركةٍ مدنيةٍ منظّمة قادرة على إعادة تعريف السياسة بوصفها شأناً وطنياً عاماً، فإن تديين السياسة سيبقى العقبة الأكبر أمام التحول الديمقراطي واستكمال بناء الدولة الحديثة. فالانتخابات العراقية لعام 2025 ليست مجرد مناسبة انتخابية، بل مرآة لأزمة الشرعية في مجتمعٍ لم يحسم بعد علاقته بالمقدّس والسلطة، بين من يؤمن بالوطن كمفهوم جامع، ومن لا يرى في السياسة سوى امتدادٍ للمذهب.

د. مالك الجبوري
باحث في علم الاجتماع السياسي
باريس، تشرين الأول / أكتوبر 2025



#مالك_الجبوري (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الانتخابات العراقية 2025: بين فقر الوعي وثراء الشعارات
- ثورة تشرين 2019: خمسة ملايين دينار ثمن الشهيد
- مارك سافيا في بغداد: مبعوث ترامب وملفات النفوذ الإيراني
- اتفاق إسرائيل وحماس: بين واقعية السياسة وحدود العدالة
- ترامب وجائزة نوبل للسلام: وهم الزعامة وتناقض الخطاب السياسي
- سبايكر والانتخابات: حين يهين المالكي اما عراقية ويطلب من الش ...
- بين العشيرة والدولة: أزمة الهوية الوطنية في العراق المعاصر


المزيد.....




- مصر.. تكلفة المتحف المصري الكبير تشعل تفاعلا قبيل أيام على ا ...
- أكثر من 25 ألف فأر في مكان واحد..رحالة إماراتي يوثق -معبد ال ...
- بعد تصريحات ابنتها.. زوجة ماكرون وادعاء أنها -ولدت ذكر- تجدد ...
- تصعيد جديد.. إسرائيل تقصف غزة بعد اتهامها حماس بانتهاك وقف إ ...
- بنك -إتش إس بي سي- يسدد 1.1 مليار دولار غرامة احتيال مالي
- مؤسسة -الحق- للجزيرة نت: ما يجري بالضفة هو إبادة جماعية صامت ...
- السعودية.. مزحة مع السديس بلقاء قارئ عسكري وجملة -مقام وزارة ...
- -نحن بدو-.. فيديو سابق لوزير الطاقة السعودي يبرز مجددا تزامن ...
- إسلام آباد تعلن فشل المفاوضات للتوصل إلى هدنة مع أفغانستان
- دراسة تتنبأ: السنوات المقبلة الأصعب على أوروبا منذ عقود


المزيد.....

- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- شيوعيون على مر الزمان ...الجزء الأول شيوعيون على مر الزمان ... / غيفارا معو
- حكمة الشاعر عندما يصير حوذي الريح دراسات في شعر محمود درويش / د. خالد زغريت
- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت
- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت
- جسد الطوائف / رانية مرجية
- الحجز الإلكتروني المسبق لموسم الحنطة المحلية للعام 2025 / كمال الموسوي
- الأرملة السوداء على شفا سوريا الجديدة / د. خالد زغريت
- المدخل الى موضوعة الحوكمة والحكم الرشيد / علي عبد الواحد محمد
- شعب الخيام، شهادات من واقع احتجاجات تشرين العراقية / علي الخطيب


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - مالك الجبوري - الانتخابات العراقية 2025: بين تديين السياسة وحدود الوعي المدني