أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - مالك الجبوري - البرامج الحوارية السياسية في العراق: أزمة الخطاب الإعلامي وتفكك البنية الثقافية















المزيد.....

البرامج الحوارية السياسية في العراق: أزمة الخطاب الإعلامي وتفكك البنية الثقافية


مالك الجبوري

الحوار المتمدن-العدد: 8519 - 2025 / 11 / 7 - 13:57
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


شهدت الساحة الإعلامية العراقية خلال العقدين الأخيرين انفجاراً كمّياً في عدد القنوات الفضائية، رافقه انحدار نوعي في مستوى الأداء المهني والثقافي لبرامج الحوار السياسي. فبدلاً من أن تشكل هذه البرامج منابر للنقاش الديمقراطي الحر وتبادل الرأي المسؤول، تحولت إلى عروض صدامية واستعراضية تهدف إلى الإثارة اللفظية وجذب المشاهدين، أكثر مما تهدف إلى بناء وعي عام أو تحليل موضوعي للوقائع السياسية.
من يتابع معظم البرامج الحوارية العراقية يلاحظ أنها تقوم على استضافة شخصيات ذات طبيعة انفعالية واستعراضية، لا تمتلك في الغالب تكويناً علمياً أو ثقافياً يؤهلها لخوض نقاش سياسي متزن. ويعمد مقدمو البرامج إلى إدارة الحوار بمنطق المواجهة لا بمنطق الحوار، فيقاطعون الضيوف ويثيرون النزاع اللفظي، بل تصل بعض الحلقات إلى الشتم والتهجم الجسدي وكسر الأثاث أو رشق المياه، في محاكاة رخيصة لأسلوب “الاتجاه المعاكس”. ويتفاعل الجمهور العراقي مع هذه المشاهد بأسلوب ترفيهي؛ إذ يرى في المتعدي أو الصارخ بطلاً يسكت خصومه، في ظاهرة تعكس انزياح الذوق العام نحو التشنج والانفعال بدل التحليل والجدال العقلاني.
يعود جزء كبير من هذا الانحطاط إلى الفقر الثقافي والسياسي المتجذر في المجتمع العراقي نتيجة عقود من الاستبداد والحروب والعزلة الفكرية. فالجمهور الذي لم يعتد ممارسة حرية الرأي ضمن مؤسسات ديمقراطية، بات يتلقى النقاش السياسي كصراع شخصي أو طائفي، لا كبحث عن الحقيقة أو المصلحة العامة. الإعلام في هذا السياق يعكس ذائقة الجمهور أكثر مما يصنعها.
ولا يمكن فهم طبيعة الانحدار دون التوقف عند اللغة الدينية والشعبوية التي تهيمن على الخطاب في هذه البرامج. فغالبية المشاركين، من سياسيين ومحللين، يلجأون إلى الاستشهاد بآيات من القرآن أو أحاديث الأئمة والمرجعيات الدينية، مما يجعل الطرف المقابل عاجزاً عن الرد، لأن الموضوع يصبح “خطاً أحمر” لا يمكن مناقشته أو نقضه. وتتحول بذلك النصوص الدينية إلى أدوات للهيمنة الخطابية تمنح المتحدث سلطة أخلاقية زائفة، وتغلق الباب أمام أي نقاش عقلاني. ومن القضايا التي تثير الجدل في هذه البرامج، مسألة تجريد “الحشد الشعبي” من السلاح، إذ يعتبر مؤيدوه أن الحشد هو النواة الأولى لجيش الإمام المهدي، وأن راياته لن تُسلّم إلا للإمام المنتظر. ويستند هذا الخطاب إلى تصورات غيبية ترى أن الدعاء والولاء للأئمة هما الطريق للنصر على الأعداء، مهما كانت قوتهم، ويُشار في ذلك غالباً إلى الولايات المتحدة وإسرائيل. لقد تجاوزت هذه الذهنية حدود الاستوديوهات، حتى خرجت مظاهرات في الشوارع ترفع شعارات تطالب بظهور الإمام المهدي، في مشهد يختصر البنية الفكرية والدينية التي تسيطر على العقل السياسي والإعلامي في العراق، حيث يُستبدل النقاش الواقعي بالإيمان بالغيب، والمطالبة بالإصلاح بالدعاء للإنقاذ السماوي.
وفي المقابل، لم تتشكل في العراق بعد عام 2003 مؤسسات إعلامية مستقلة بالمعنى الحقيقي، بل نشأت عشرات القنوات بتمويل حزبي أو طائفي أو خارجي. لذلك، أصبحت البرامج الحوارية أدوات تعبئة سياسية تخدم أجندات محددة، وتعمل على شيطنة الخصوم لا على توعية المواطن. كما أن معظم مقدمي البرامج لم يتلقوا تكوينًا مهنياً رصيناً، فافتقروا إلى أدوات التحليل والحياد والقدرة على إدارة الحوار باحترام وتوازن.
وتسعى القنوات الفضائية إلى رفع نسب المشاهدة عبر صناعة ما يسمى بالترند، وهو ما يدفعها إلى تحويل الجدل السياسي إلى فرجة جماهيرية. فكلما علت الأصوات أو وقعت مشادة بين الضيوف، زادت نسبة المشاهدات والتفاعل على المنصات، ما يغري المذيعين بتكرار الأسلوب ذاته. وهكذا يصبح التهريج منطقاً تجارياً مبرراً ضمن سوق إعلامي منفلت من الضوابط المهنية.
ولا يمكن إغفال العامل الأمني الذي يشكل أحد أسباب هذا التدهور. فالعشرات من الصحفيين والناشطين تعرضوا للاختطاف أو الاغتيال أو التهديد بسبب آرائهم أو استضافاتهم لضيوف معارضين، ما جعل الإعلامي يميل إلى الانحياز للجهة الأقوى حفاظاً على حياته أو وظيفته، الأمر الذي عمق أزمة الحياد والاستقلالية.
لقد أدت هذه العوامل مجتمعة إلى تشويه صورة الإعلام في وعي الجمهور، بحيث فقدت البرامج الحوارية وظيفتها التنويرية والرقابية، وتحولت إلى مرآة للفوضى السياسية والطائفية. وأصبح الإعلام جزءاً من المشكلة لا من الحل، يكرّس الانقسام بدلاً من تجاوزه، ويُغري الجمهور بالتفاعل السلبي بدل المشاركة الواعية.
إن إصلاح الإعلام الحواري في العراق لا يمكن أن يتم عبر إجراءات شكلية أو رقابية فقط، بل يتطلب مشروعاً ثقافياً طويل الأمد يربط بين تأهيل الكوادر الإعلامية أكاديمياً ومهنياً، وإعادة تعريف وظيفة المذيع بوصفه مديراً للنقاش لا محرضاً عليه، وبناء مؤسسات إعلامية مستقلة تموّل بشفافية بعيداً عن المحاصصة الحزبية والطائفية، ورفع الوعي الجماهيري من خلال برامج تثقيفية ومناهج تعليمية تعزز التفكير النقدي واحترام الرأي المختلف، وضمان الحماية القانونية للصحفيين وتشجيع الصحافة الاستقصائية الجادة كبديل عن الإعلام الشعبوي.
إن الأزمة التي تعيشها البرامج الحوارية السياسية في العراق ليست مجرد خلل في الأداء الإعلامي، بل هي نتاج مباشر لتفكك البنية الثقافية والسياسية للمجتمع بعد سنوات من العنف والانقسام. وحين يتحول الحوار إلى صراخ، والمعلومة إلى شتيمة، والمذيع إلى طرف في النزاع، يصبح الإعلام صورة مكبرة للأزمة الوطنية نفسها. ولعل بداية الإصلاح تكمن في الاعتراف بأن الإعلام، كما السياسة، لا يمكن أن يُصلح من دون ثقافة عامة تؤمن بالعقل لا بالانفعال، وبالاختلاف لا بالإلغاء.
إنّ أحد أعمق مظاهر الأزمة التي يعيشها المجال العام العراقي اليوم يتمثل في استبدال العقل بالنص، والجدل بالقداسة، والفكرة بالإيمان. فحين تتحول القضايا السياسية والاجتماعية إلى مسائل عقدية، تُغلق سبل النقاش ويُختزل الفكر في الولاء، ويصبح الرأي المختلف مروقاً أو خيانة. إنّ توظيف الرموز الدينية في البرامج الحوارية لا يُعبّر عن تدين المجتمع بقدر ما يعكس عجزه عن إنتاج خطاب عقلاني حديث قادر على معالجة أزماته الواقعية. فكلما ضعف الإيمان بالمؤسسات المدنية والقانون والعقل النقدي، ازداد الارتماء في أحضان الماورائيات. ولهذا، فإن استعادة العقل كمرجعية للنقاش هي الخطوة الأولى نحو بناء فضاء عام صحي، يحترم الاختلاف، ويعيد للسياسة معناها الإنساني والأخلاقي بعد أن حوّلها الإعلام إلى مسرح للغريزة والانفعال.



#مالك_الجبوري (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حين تُصبح الجنة برنامجًا انتخابيًا: قراءة في تسييس المقدّس ب ...
- الانتخابات العراقية 2025: بين تديين السياسة وحدود الوعي المد ...
- الانتخابات العراقية 2025: بين فقر الوعي وثراء الشعارات
- ثورة تشرين 2019: خمسة ملايين دينار ثمن الشهيد
- مارك سافيا في بغداد: مبعوث ترامب وملفات النفوذ الإيراني
- اتفاق إسرائيل وحماس: بين واقعية السياسة وحدود العدالة
- ترامب وجائزة نوبل للسلام: وهم الزعامة وتناقض الخطاب السياسي
- سبايكر والانتخابات: حين يهين المالكي اما عراقية ويطلب من الش ...
- بين العشيرة والدولة: أزمة الهوية الوطنية في العراق المعاصر


المزيد.....




- زحفت على كرسي نحو رئيس إندونيسيا وعانقت زعيم تشيلي.. رئيسة و ...
- رئيس الحكومة اللبنانية يردّ على حزب الله: قرار الحرب والسلم ...
- صفقة أجر تاريخية لإيلون ماسك بقيمة تريليون دولار
- -ترامب غير قادر على إحلال السلام في الشرق الأوسط- - مقال في ...
- بايرن يطمح للتفوق على نفسه وتحطيم رقم قياسي في البوندسليغا
- الغموض يحيط بمصير مقترح الهدنة ... السودان إلى التقسيم؟
- الرئيس الإيراني: نريد السلام ولن نتخلى عن برنامجنا النووي ول ...
- -حملة تطعيم تعويضية-.. غزة تبدأ معركة بقاء بعد حرب إبادة صحي ...
- بريطانيا ترفع العقوبات عن الشرع وخطاب
- الحية: غزة صامدة وشعب فلسطين لا يقبل الاندثار


المزيد.....

- ثوبها الأسود ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- شيوعيون على مر الزمان ...الجزء الأول شيوعيون على مر الزمان ... / غيفارا معو
- حكمة الشاعر عندما يصير حوذي الريح دراسات في شعر محمود درويش / د. خالد زغريت
- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت
- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت
- جسد الطوائف / رانية مرجية
- الحجز الإلكتروني المسبق لموسم الحنطة المحلية للعام 2025 / كمال الموسوي
- الأرملة السوداء على شفا سوريا الجديدة / د. خالد زغريت
- المدخل الى موضوعة الحوكمة والحكم الرشيد / علي عبد الواحد محمد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - مالك الجبوري - البرامج الحوارية السياسية في العراق: أزمة الخطاب الإعلامي وتفكك البنية الثقافية