أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - مالك الجبوري - لا يهم أن كنت فقيرًا في الدنيا… كيف تُستخدم اللغة الدينية لإسكات الفقراء؟














المزيد.....

لا يهم أن كنت فقيرًا في الدنيا… كيف تُستخدم اللغة الدينية لإسكات الفقراء؟


مالك الجبوري

الحوار المتمدن-العدد: 8540 - 2025 / 11 / 28 - 10:22
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


يتكرر في المشهد العراقي خطاب ديني يغلف البؤس بعبارات روحية تَعِدُ الفقراء بمكان أفضل في عالم غير منظور، بينما يطالبهم بقبول واقعهم المزري في الدنيا بوصفه ابتلاءً أو امتحانًا إلهيًا. وقد ورد في إحدى الخطب الدينية على لسان أحمد الصافي، وهو أحد وكلاء المرجعية الدينية في كربلاء، القول بوضوح: “إن كنت فقيرًا في الدنيا لا يهم، المهم أن لا تكون فقيرا في الآخرة.” هذه العبارة، بقدر ما تبدو بسيطة، تكشف منطقًا عميقًا وخطيرًا في آن معًا، لأنها تحاول تحويل الفقر من قضية سياسية واقتصادية واجتماعية إلى مسألة أخروية تلغي المسؤولية البشرية وتعيد تعريف الظلم بوصفه فرصة روحية.
ما يثير القلق ليس فقط مضمون الخطاب، بل البيئة التي يُقال فيها، واللحظة التاريخية التي يُعاد إنتاجه خلالها. إن ملايين العراقيين لا يعيشون فقرًا عابرًا أو حرمانًا نسبيًا، بل يعيشون مستويات لا يمكن وصفها إلا بالانعدام الكامل لشروط الحياة. هناك عائلات تتكدس في بيوت من الصفيح والطين، بلا ماء ولا كهرباء ولا سقف يحميها من الحر القاتل أو البرد القاسي. هناك رجال طاعنون في السنّ يجرّون أجسادهم المنهكة للعمل في أعمال البناء الشاقة يومًا بعد يوم، فقط ليؤمّنوا رغيف الخبز، لأن الدولة أسقطتهم من حساباتها. هناك نساء وأطفال يقضون أيامهم في الشوارع، في بيع بسيطة أو في ملاحقة شاحنات القمامة بحثًا عن شيء قابل للبيع. وهناك أطفال وقاصرات يُختطفون ويُستغلون في أسوأ أشكال الإجرام البشري، من الدعارة إلى الاتجار بالأعضاء.
عندما يقال لهؤلاء: “لا يهم أن تكون فقيرًا في الدنيا… المهم أن تكون غنيًا في الآخرة”، فإن ذلك لا يشكل وعظًا دينيًا بل شكلًا من أشكال العنف الرمزي الذي يطلب من الإنسان أن يتخلى عن حقه الطبيعي في حياة كريمة. إنه خطاب لا يقدم عزاءً، بل يقدم تبريرًا. لا يرفع معنويات الناس، بل يرفع عبء الدولة والسلطة عن كاهلها، ويلقيه على كاهل الضحية نفسها. إنه خطاب يستبدل حقوق الإنسان بوعود غيبية، ويستخدم الدين كحاجز يمنع الفقراء من فهم أسباب تعاستهم، أو حتى مجرد السؤال عنها.
ومن الضروري الإشارة هنا إلى أن النقد الموجه إلى هذا النوع من الخطاب لا يستهدف الإسلام كدين أو معتقد. فلكل إنسان رؤيته وإيمانه وطقوسه التي يجب احترامها ما دامت لا تُبنى على القتل أو الإقصاء أو السطوة على الآخرين. إن المشكلة ليست في النصوص الدينية بحد ذاتها، بل في الطريقة التي يتم بها استغلالها وتوظيفها من قبل رجال دين يتحدثون من مواقع امتياز وقوة ونفوذ، بينما الجمهور الذي يخاطبونه محروم من أبسط مقومات الحياة. ومن السذاجة الاعتقاد بأن إنسانًا يعيش في رخاء وثراء، ويملك مؤسسات اقتصادية وسياسية ضخمة، يمكنه أن يعطي دروسًا في الصبر والزهد لأولئك الذين لا يجدون ما يسدّ رمق أطفالهم.
إن هذا الاستخدام المستمر للوعظ الأخروي كبديل عن المطالبة الدنيوية بالحق، هو آلية تاريخية معروفة لإدارة المجتمعات غير العادلة. فحين يُطلب من الفقير ألا ينظر إلى الأعلى، وأن يقارن نفسه بمن هم “أشد ابتلاءً”، وحين يقال له إن فقره لا يهم في الدنيا، فإن الرسالة ليست دينية بقدر ما هي سياسية: “لا تطالب، لا تحتج، لا تفكر، ولا ترفع صوتك.” هذا الخطاب لا يحمي المجتمع، بل يحمي المنظومة التي صنعت الفقر. إنه لا يبني وعيًا دينيًا، بل يبني جدارًا نفسيًا وسلوكيًا يمنع أي تحرك جماهيري نحو التغيير.
إن أخطر ما في كل هذا هو تحويل البؤس إلى فضيلة، وتحويل الصمت إلى واجب، وتحويل الطاعة إلى خلاص، وكأن حياة الإنسان لا قيمة لها إلا بقدر ما يتحمل من الألم. لكن الحقيقة أن الكارثة ليست في الفقر وحده، بل في محاولة إقناع الناس بأن الفقر قدر لا يمكن تغييره، وبأن الجوع اختبار، وبأن الظلم امتحان، وبأن الفقراء يجب أن يشكروا الله لأن هناك من هو أكثر شقاء.
في بلد يملك ثروات نفطية هائلة، ويشهد مستويات غير مسبوقة من الفساد السياسي والمالي، يصبح هذا الخطاب جزءًا من المشكلة وليس جزءًا من الحل. فبدل أن تُستخدم المنابر الدينية للدفاع عن العدالة والكرامة وحقوق الإنسان، تُستخدم لتجميل الواقع القبيح، ولإسكات أصوات الذين لا يملكون إلا غضبهم. وبهذا المعنى، فإن نقد رجال الدين ليس فعلًا موجّهًا ضد الدين، بل محاولة لاستعادة الدين من أيدي من حولوه إلى أداة للتهدئة وتبرير الظلم، وإعادته إلى فضائه الأخلاقي الطبيعي الذي يقوم في جوهره على نصرة المظلوم، لا على تخديره.
ما صدم الكثيرين في عبارة أحمد الصافي وغيرها من العبارات المشابهة، ليس فقط انفصالها عن الواقع، بل القسوة الهادئة التي تحملها، والتي تتعامل مع حياة الناس اليومية وكأنها تفاصيل ثانوية يمكن تجاوزها باسم “الثواب الأخروي”. إن هذه اللغة لا تليق بعصر تسوده قيم العدالة وحقوق الإنسان، ولا ببلد يمتلك إمكانات قادرة على تغيير حياة المواطنين لو وُضعت في مكانها الصحيح. ومن هنا، يصبح تفكيك هذا الخطاب ضرورة معرفية وأخلاقية وسياسية، لأن مستقبل العراق لا يمكن أن يُبنى على معادلات تعيد إنتاج الفقر، أو على وعود تؤجل العدالة إلى زمن آخر.



#مالك_الجبوري (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الحرب على الفرح في العراق: حين يتحوّل التحريم إلى مشروع سلطة
- «المسلم في أوروبا: قراءة في التوترات العميقة للاندماج»
- خطاب أحمد البشير: كيف تتحوّل السخرية إلى أداة لقراءة الواقع ...
- ظاهرة احمد البشير: كيف تحوّل الإعلام الساخر إلى قوة نقدية في ...
- الإعلام العراقي بعد 2003: كيف تغيّر المجال العام؟
- العراق 2025: تحليل نقدي لثبات المنظومة الحاكمة وحدود التغيير ...
- الجولاني في البيت الأبيض... نهاية زمن الشيطان وبداية زمن الت ...
- البرامج الحوارية السياسية في العراق: أزمة الخطاب الإعلامي وت ...
- حين تُصبح الجنة برنامجًا انتخابيًا: قراءة في تسييس المقدّس ب ...
- الانتخابات العراقية 2025: بين تديين السياسة وحدود الوعي المد ...
- الانتخابات العراقية 2025: بين فقر الوعي وثراء الشعارات
- ثورة تشرين 2019: خمسة ملايين دينار ثمن الشهيد
- مارك سافيا في بغداد: مبعوث ترامب وملفات النفوذ الإيراني
- اتفاق إسرائيل وحماس: بين واقعية السياسة وحدود العدالة
- ترامب وجائزة نوبل للسلام: وهم الزعامة وتناقض الخطاب السياسي
- سبايكر والانتخابات: حين يهين المالكي اما عراقية ويطلب من الش ...
- بين العشيرة والدولة: أزمة الهوية الوطنية في العراق المعاصر


المزيد.....




- -صراع البقاء-..صورة مؤلمة للحظة إنقضاض فهود على فريسة -صامدة ...
- سفير طالبان في قطر يعلق لـCNN على هجوم واشنطن وعمل المتهم مع ...
- السودان.. أين يقف تعهد ترامب لولي عهد السعودية بإنهاء القتال ...
- سوريا: مقتل تسعة أشخاص في هجوم إسرائيلي بجنوب البلاد (التلفز ...
- من يحسم صراع النفوذ داخل مؤسسات الاتحاد الأوروبي؟
- أوكرانيا ترفض التنازل عن أراضيها مقابل السلام
- ترامب يسعى لوقف الهجرة من دول العالم الثالث بشكل دائم
- كاميرا مراقبة تصور لحظة وقوع زلزال بقوة 6.0 درجات في ألاسكا ...
- ترامب: أمريكا ستوقف الهجرة من دول العالم الثالث بشكل دائم
- البحرين.. رجل أربعيني استدرج طفلة بعمر 15 عاما واعتدى عليها ...


المزيد.....

- اليسار الثوري في القرن الواحد والعشرين: الثوابت والمتحركات، ... / رياض الشرايطي
- رواية / رانية مرجية
- ثوبها الأسود ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- شيوعيون على مر الزمان ...الجزء الأول شيوعيون على مر الزمان ... / غيفارا معو
- حكمة الشاعر عندما يصير حوذي الريح دراسات في شعر محمود درويش / د. خالد زغريت
- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت
- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت
- جسد الطوائف / رانية مرجية
- الحجز الإلكتروني المسبق لموسم الحنطة المحلية للعام 2025 / كمال الموسوي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - مالك الجبوري - لا يهم أن كنت فقيرًا في الدنيا… كيف تُستخدم اللغة الدينية لإسكات الفقراء؟