أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صباح حزمي الزهيري - مقامة الأقصاء : من إفراد البعير المُعَبَّد إلى تفكيك المجتمع .















المزيد.....

مقامة الأقصاء : من إفراد البعير المُعَبَّد إلى تفكيك المجتمع .


صباح حزمي الزهيري

الحوار المتمدن-العدد: 8547 - 2025 / 12 / 5 - 09:04
المحور: الادب والفن
    


يبتديء طرفة بن العبد معلقته قائلا : ((لخولة أطلالٌ ببرقة ثهمد تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد)) , إلى أن يصل إلى البيت الذي يقول فيه : (( إلى أن تحامتني العشيرة كلها وأفردت إفراد البعير المعبد )) , الإفراد هنا معناها الإقصاء , وهو ما قامت به أميركا حين احتلت العراق دون مسوغ أو تخويل شرعي , وطردتنا من وظائفنا دون جريمة يسألنا عليها القانون , وإنما كوننا كنا نعمل بنظام في دولة معتمدة وعضوة في الأمم المتحدة , بل من مؤسسيها , وفي اللغة (( إِقصاء )) هو اسم , وفعله أقصى , وأقصى الشيء يعني أبعَده , أقصى يُقْصِي , أقْصِ , إقْصاءً , فهو مُقْصٍ , والمفعول مُقْصًى .

من أسوأ الأمراض التي يمكن أن يعاني منها أي مجتمع هي سياسة الإقصاء , أو نفي الآخر, وتتنوع أشكال الإقصاء كي تشمل السياسي والاقتصادي والاجتماعي , لكنها تلتقي جميعاً في نهاية المطاف عند نقطة واحدة ملخصها : ((يعتبر الإقصاء , أو التهميش عادات المجتمعات البشرية أو ميولها الصريحة في التخلص من غير المرغوب بهم أو الذين تراهم بلا منفعة , أو استثنائهم وتهميشهم من أنظمة الحماية والتفاعل السائدة في المجتمع , ومن ثم تقليص فرصهم ومواردهم المالية التي تعينهم على البقاء)).

من أسوأ الآفات التي عرفتها البشرية منذ فجر التاريخ وحتى يومنا هذا هي آفة إلغاء الآخر أو إقصاؤه , والعقلية الإقصائية هي آفة المجتمع التعددي وخطرها عليه أشد فتكاً من الخطر الخارجي , الثقافة الإقصائية نوعا من التفكير الشخصي الذي يتم من خلاله تشويه صورة الآخر بقصد إقصائه أو تهميشه , صاحب العقلية الإقصائية يحاول التقليل من شأن الأشخاص الذين لا تتطابق وجهات نظرهم مع وجهات نظره , والذين لديهم آراء ومواقف تختلف مع آرائه ومواقفه.

جذور الإقصاء في التراث الثقافي : أحمد بن حنبل الذي يُطلِق عليه المتعصبون له لقب (إمام أهل السنة) , عندما اختلف مع الحارث المحاسبي , أحد رجال الدين السنة المُتَزهّدين , قام أحمد بهجره , بل ودعا الناس إلى هجره وعدم مجالسته , وحذّر من الأخذ عنه ومن قراءة كتبه , حتى تجنّبته العامة , ومارس عموم الحشوية بحقه أشد درجات الإقصاء , اتباعاً لتعليمات أحمد , ولهذا عندما مات الحارث لم يحضر جنازته إلا أربعة فقط , لأن الهجر والإقصاء كان يعني النبذ في الحياة وبعد الممات , إمعاناً في النفي والتحقير والتجريم , ما فعله أحمد بن حنبل مع رفيقه في المذهب السني , الحارث المحاسبي , ليس شيئاً عابراً , ليس حدثاً ظرفياً , ليس خطأ خاصاً , بل هو منهجية عامة في الإقصاء , منهجية عامة ستصبح هي السائدة في التراث , وإلى يومنا هذا , قال ابن قدامة في المغني: (( قال أحمد : أَهْلُ الْبِدَعِ لَا يُعَادُونَ إنْ مَرِضُوا , وَلَا تُشْهَدُ جَنَائِزُهُمْ إنْ مَاتُوا , وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ )) .

وهكذا فتراث الإقصاء هو السائد , فالإمام الشافعي ومركزيته في التراث السني لا تخفى على أحد , عندما اختلف مع بعض المسلمين في بعض المسائل الدينية , قال فيهم : حكمي في أهل الكلام : أن يُضْربوا بالجريد والنعال , ويُحْمَلوا على الإبل , ويُطَاف بهم في الأسواق والعشائر , يُنَادَى عليهم ويُقَال : هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة , وأقبل على علم الكلام , وفي الإبانة لابن بطة نقرأ هذا الخبر أو الأثر: رأى يونسُ بن عبيد ابنَه خرج من عند صاحب هوى (( يقصد: من عند أحد رجال الدين المختلفين معه في بعض التفاصيل الهامشية )) , فقال: يا بني , من أين جئت ؟ قال : من عند فلان , قال : يا بني لَأن أراك تخرج من بيت خنثى أحب إلي من أن أراك تخرج من بيت فلان , ولأن تلقى الله يا بنيّ زانياً سارقاً فاسقاً خائناً أحب إلي من أن تلقاه بقول فلان وفلان.

نأتي على صور الإقصاء وخطره على التعددية , فالاقصاء والتهميش قد يأخذ العديد من الأوجه كالاقصاء الاقتصادي من خلال آليات الاقصاء بالاستبعاد من المشاركة الاقتصادية عن طريق الحرمان من فرص العمل بالتمييز بين المتقدمين على أساس الانتماء والهوية الإثنية , أو على أساس مناطقي أو جنسي , أو الاستبعاد السياسي وهو الحرمان من المشاركة السياسية , والاقصاء الثقافي كالحرمان من الحريات الثقافية والدينية والقومية , وكثيراً ما ترافق عملية الإقصاء والاستبعاد عملية تشويه صورة من مورس ضده التهميش والإقصاء , ووضعه داخل إطار وصورة نمطية يكرهها الآخرون ومن الصعب الخروج منها أو مغادرتها , بل هي في الوقت ذاته تشكل سجناً لمن مورس بحقه الإقصاء.

ثقافة الإقصاء والتهميش مناقضة لطبيعة الحياة التعددية وتصطدم مع الطبيعة النسبية للحقيقة , فالحقيقة المطلقة نوع من الكمال الذي لا يمكن , بل يستحيل , أن يوجد في هذا الكون الناقص بطبعه , وكل إنسان يرى أنه على حق من وجهة نظره , وهذا ليس عيباً أو نقيصة طالما هو يؤمن بحق الآخرين في الاختلاف معه واحترام وجهات نظرهم , فهذا الكون يتسع لهذا الاختلاف الذي هو من طبيعة البشر , ولا يمكن لثقافة الديمقراطية أن تحيا في مجتمع يسوده الإقصاء فكراً ومنهجاً , الإقصاء أخو التعصب أصل الداء , ومصدر التفرق والتطرف والاستعلاء , ثقافتنا التراثية إقصائية للآخر , مذهباً أو طائفة أو فرقة , هو مشكوك في عقيدته , وما نزاعات الملل والنحل التاريخية وتكفيرها بعضها بعضاً إلا مظهر من مظاهر الإقصاء.

ثم هناك الأثر النفسي والنتائج الأمنية للإقصاء , كيف نتعامل مع مشاعر الإقصاء والتجاهل؟ الشعور بالإقصاء والرفض من أشد التجارب المؤذية للإنسان , لكن لماذا تؤذينا بهذا الشكل؟ وما رأي علم النفس والأعصاب حول هذه التجربة المتكررة ؟ (( بروضة دعميٍ فأكناف حائلٍ ظللت بها أبكي وأبكي إلى الغد , وقوفاً بها صحبي علي مطيهم يقولون لا تهلك أسىً وتجلد , وإني لأقضي الهم عند احتضاره بعوجاء مرقالٍ تروح وتغتدي )) .

وبدءاً , وانطلاقاً من رفض الإقصاء مفهوماً وسلوكاً , والذي لا يمكن أن يؤدي في نهاية الأمر إلى بناء مجتمع سياسي متمدن , بقدر ما يقود نحو مجتمع مفكك يقوم على الكراهية , ويزرع بذرات الحقد , التي تؤسس لفكر نفي الآخر وتغذي جذوره , وأول خطوات محاربة موجة العنف هذه , هي الاعتراف بالآخر , والقبول بالتعايش السياسي معه , وبالإمكان تحقيق خطوة أولى نحو المصالحة الوطنية الحقيقية عبر تقديم مشروع قانون إلى مجلس النواب حول ملف حقوق المنتسبين المقصيين من الكيانات المنحلة عام 2003 , وتحويل ملف المساءلة والعدالة إلى القضاء.

صباح الزهيري .






ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مقامة الميمر: عذوبة اللحن وغموض الأصل .
- مَقامَةُ عَلْوَةِ النَّجَفِيّ والوَفَاءِ الهَالِكِ .
- مقامة مأزق فارس الملل : اللومُ عادةُ مَن لا يُغامرون , فلسفة ...
- مقامة تأجيل الصدمة .
- ألمقامة الاستغنائية .
- مقامة غجرية : وُضوءُ الغَجَر وسُكْرُالوَجْد ...قُبْلةُ المَو ...
- مقامة الشجاعة : اذا حلت المقادير بطلت التدابير.
- مقامة الحلم الطويل .
- المقامة الإسماعيلية في فضائل السلالة الخليلية .
- مقامة جشع الورثة وسوء خاتمة التركة.
- مقامة الخلجات .
- مقامة حميد يا مصايب الله : صرخة الهور والحب الضائع .
- مقامة رحى الخزاف .
- مَقَامَةُ حِفْظِ السِّرِّ بَيْنَ الْأَمَانَةِ وَالْحِكْمَةِ ...
- مقامة أبانا .
- مقامة العبر .
- مقامة تجليات قلق الورّاق .
- مقامة ام الكعك .
- مقامة غنائية .
- مقامة الرجاء الشطرنجية : في وصفِ لعبةِ التَّشظّي .


المزيد.....




- خمسون عاماً على رحيل حنة آرنت: المفكرة التي أرادت إنقاذ التف ...
- احتفاء وإعجاب مغربي بفيلم -الست- في مهرجان الفيلم الدولي بمر ...
- عيد البربارة: من هي القديسة التي -هربت مع بنات الحارة-؟
- افتتاح معرض فن الخط العربي بالقاهرة بتعاون مصري تركي
- عام فني استثنائي.. 5 أفلام عربية هزت المهرجانات العالمية في ...
- صناع فيلم -الست- يشاركون رد فعل الجمهور بعد عرضه الأول بالمغ ...
- تونس.. كنيسة -صقلية الصغيرة- تمزج الدين والحنين والهجرة
- مصطفى محمد غريب: تجليات الحلم في الملامة
- سكان غزة يسابقون الزمن للحفاظ على تراثهم الثقافي بعد الدمار ...
- مهرجان الكويت المسرحي يحتفل بيوبيله الفضي


المزيد.....

- زعموا أن / كمال التاغوتي
- خرائط العراقيين الغريبة / ملهم الملائكة
- مقال (حياة غويا وعصره ) بقلم آلان وودز.مجلةدفاعاعن الماركسية ... / عبدالرؤوف بطيخ
- يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال ... / السيد حافظ
- ركن هادئ للبنفسج / د. خالد زغريت
- حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني / السيد حافظ
- رواية "سفر الأمهات الثلاث" / رانية مرجية
- الذين باركوا القتل رواية ... / رانية مرجية
- المسرواية عند توفيق الحكيم والسيد حافظ. دراسة في نقاء الفنون ... / د. محمود محمد حمزة
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة. الطبعة الثانية / د. أمل درويش


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صباح حزمي الزهيري - مقامة الأقصاء : من إفراد البعير المُعَبَّد إلى تفكيك المجتمع .