أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صباح حزمي الزهيري - مقامة مأزق فارس الملل : اللومُ عادةُ مَن لا يُغامرون , فلسفة الإقصاء القسري.














المزيد.....

مقامة مأزق فارس الملل : اللومُ عادةُ مَن لا يُغامرون , فلسفة الإقصاء القسري.


صباح حزمي الزهيري

الحوار المتمدن-العدد: 8544 - 2025 / 12 / 2 - 09:55
المحور: الادب والفن
    


صورة رائعة ووصف دقيق للملل الذي نعيشه , يقدمه لنا أبراهيم البهرزي , نحن المقصيون والمتقاعدون رغم أنوفنا , في نص أسماه ( فارس الملل ) , يقول فيه : (( في الغرفة الضيّقةِ , حيثُ لا يزورُهُ أحد , يجلسُ الرَّجلُ الذي لم يعرفْ يومًا لماذا تُصنَعُ الأبوابُ إن لم تُفتَح , المللُ , تلكَ الوخزة الغامضةُ تتسلّلُ إلى أصابعِه , فتدفعهُ ليُقلّبَ كتابًا عن رحلاتٍ لا ينوي القيامَ بها , وتاريخًا لمدنٍ لا يتذكّرُكيف سقطت , ولا متى بُنيت ْ, يقرأُ ثم يقرأ , لا وفاءَ منه لفكرة ما بل لأن الصفحةَ التالية قد تُنقذهُ من ساعةٍ أثقلَ من الجبال , ويكتبُ كذلك , يكتبُ عن الفلاسفةِ كأنهُ صديقٌ قديمٌ لهم , وعن الشعراءِ كأنهُ جلسَ معهم في مقهى يطلُّ على بحرٍ لم يرهُ إلا في الخرائط , وحين يلومهُ الناسُ لأنهُ ( يدسُّ أنفَهُ في كلِّ شيء ) , يبتسمُ ابتسامةَ مَن يعرفُ أن اللوم عادةُ مَن لا يغامرون ويعودُ إلى أوراقِه , يرسمُ جملةً جديدة لا تُشبهُ ما قبلها , الملل لا سواه هو الذي يقودُهُ كما يقودُ قبطانٌ كسلانُ سفينةً تتجوّلُ في المرافئ دون موعدٍ , ودون هدف , ودون خوف أيضًا , وفي الليلِ حين يسألُهُ صمتُ الغرفة : إلى أين ستذهبُ غدًا ؟ لا يجيبُ , يعرفُ أن الطريقَ ستصنعُه تلكَ اللحظةُ التي يمدُّ فيها يدَهُ إلى أولِ كتابٍ يقعُ عليه الضوء , هكذا يعيشُ , رجلٌ لا يُراهنُ على شيء , ولا يحزنُ على شيء , يمضي بخفّةِ مَن فهمَ متأخرًا أن الحياةَ ليست أكثرَ من محاولات مكرورة لتصفية الوقت )) .

ولو أردنا أن نستكمل نص البهرزي ونكتب مُتأملين في مأزقِ وجودِنا , لنقول : إنهُ يقعُ الآن في شِراكِ المسافةِ الخانقة , تلكَ التي لا تُقاسُ بأمتارٍ ولا بسنين , بل بالتي هي ما بينَ الألَمِ والمَلَلِ , فلا هو يبلغُ ذروةَ المعاناةِ التي تستوجبُ الفعل , ولا هو يحظى بسكينةِ المُطمئنِ , لهذا , يَعْتَرِيهِ توقٌ غامضٌ إلى (( اللاهدف )) , فيصبحُ الوجودُ برمّتِهِ مجرَّدَ سعيٍ مُضجِرٍ لتصفيةِ الوقت , أو ما هو أدهى : لتصفيةِ ما تبقّى من الوجودِ ذاتِهِ , فكم مِن ليالٍ رَكَلَ فيها الكتابَ بقدمِه, ركلةَ المُتعبِ الذي يصرخُ في وجهِ الحكمةِ الموروثة : (( أما آنَ أن يكونَ هذا آخرَ كتاب , آخرَ دليلٍ إلى الطريق , آخرَ عهدٍ أو منظومة ؟ )) , لكنّهُ يكتشفُ في كلِّ (( آخِرٍ)) أنهُ ليسَ سوى ريشةٍ في مَهَبِّ الرِّيحِ , لا يُمسِكُ بها نظامٌ ولا يَرأفُ بها عهدٌ.

وفي سفينتِهِ الغارقةِ في بحرِ اللامُبالاة , يُدركُ أن الذنبَ لا يقعُ على القُبطانِ الكسلانِ وحدهُ , بل على ركَّابٍ أدمنوا التثاؤبَ واستلذّوا الخمول , مُحتجّينَ بجملةٍ صادقةٍ حدَّ الوجع: (( اللومُ عادةُ مَن لا يغامرون )) , ولكنَّ المللَ , هذا الساحرُ الباردُ , يهمِسُ لهُ أحيانًا بأنّهُ ليسَ نهايةَ الطريق , بل قد يكونُ حافزًا خفيًّا للإبداع , و( طائرَ الأحلامِ ) الذي يضعُ بيضةَ الخبرة , يهمِسُ لهُ بأنَّ أبشعَ أنواعِ الموتِ هو المللُ مِن شيءٍ لا تستطيعُ الاستغناءَ عنهُ , وهو ( نفسُه ) , ولهذا , يعودُ إلى أوراقِه , ليسَ هربًا من ضجَرِه , بل لإيقاظِهِ , ليرى إن كانَ هذا الفراغُ القاتلُ يُخفي تحتَ ركامِهِ إشارةً إلى معنى ضائع , أو بدايةً لتغييرٍ أبطأتهُ الخيباتُ التي لم يُقْدَرْ على تغييرِ واقِعِها , هو يعودُ إلى القراءةِ والكتابةِ , مُعلِّلًا النفسَ بضوءِ الأملِ الساكنِ في الكتاب , عسى أن يصلَ أخيرًا إلى ( صفحتِهِ ) التي لا يصلُ إليها أبدًا.

وفي ألأقصاء عبء الزمن وعَرَضُ الملل , ليست المشكلةُ في غيابِ الأحداثِ الكبرى , بل في تكرارِ الأفعالِ الحيويّةِ حدَّ السأمِ والضجَر , ذلكَ هو مأزقُهُ الحقيقيُّ في الزمنِ والضجر , فالمللُ ليسَ مجردَ عَرَضٍ يوميٍّ سطحيّ , بل هو إشارةٌ عميقةٌ توقظُ في المرءِ إمكاناتِهِ الوجوديةَ المنسيّةَ , لكي ينفُذَ إلى أسسِ كينونتِهِ , هو يُدركُ الآنَ ما أدركَهُ زهيرُ بنُ أبي سُلمى قبلَ أجيالٍ طويلة : (( سَئِمتُ تَكاليفَ الحَياةِ ومَن يَعِش ثَمانينَ حَولاً لا أَبا لَكَ يَسأَمِ )) , فتكاليفُ الحياةِ في هذا العمرِ المتقدّمِ لم تعدْ فواتيرَ مادّيةً , بل هي تلكَ المهامُّ اليوميةُ المُعادةُ : تناولُ الطعامِ والشرابِ , مطاردةُ النومِ , ومحاولةُ الإمساكِ بقُوَى السمعِ والبصرِ التي تتضعضعُ شيئًا فشيئًا , إنهُ يموتُ حيًّا , وتلكَ هيَ الفاتورةُ القاسيةُ للإقصاءِ القسريِّ.

المللُ بوصفه رغبةً مُقموعة هو مرضُ عصرِنا , ولعلّهُ إشارةٌ بليغةٌ إلى أنَّ شيئًا ما ليسَ صحيحًا في حياتِنا , وأنَّ ( المعنى ) يتبخّرُ ببطء , هو يرفضُ الهروبَ من هذه الوخزةِ المستمرةِ عبرَ وسائلِ التشتيتِ السطحية , بل يُصرُّ على إيقاظِها , ليتأمّلَ فيها كقاعدةٍ صلبةٍ تدفعُهُ نحو التغييرِ الإيجابيِّ , أو ربما الإيثار, لقد أدركَ أنَّ هذا الفراغَ ليسَ عدمًا مطلقًا , بل هو في جوهرِهِ رغبةٌ مُقموعةٌ في التدفّقِ الحُرِّ الآسرِ, تلكَ الرغبةُ التي لم تجدْ متنفسًا لها سوى في أحلامِ الفلاسفةِ وقصائدِ الشُعراءِ الذينَ لم يَرَهم إلّا في صفحاتِهِ , وهو يعيشُ هذا التناقضَ , بينَ المللِ الذي يُرهِقُهُ , والمللِ الذي يدفَعُهُ ليكتبَ قصائدَ ثَكْلَى ,علّهُ يُحرِّرُ نفسَهُ من كسَلِ الرُكّابِ المُدمنِينَ.

صباح الزهيري .






ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مقامة تأجيل الصدمة .
- ألمقامة الاستغنائية .
- مقامة غجرية : وُضوءُ الغَجَر وسُكْرُالوَجْد ...قُبْلةُ المَو ...
- مقامة الشجاعة : اذا حلت المقادير بطلت التدابير.
- مقامة الحلم الطويل .
- المقامة الإسماعيلية في فضائل السلالة الخليلية .
- مقامة جشع الورثة وسوء خاتمة التركة.
- مقامة الخلجات .
- مقامة حميد يا مصايب الله : صرخة الهور والحب الضائع .
- مقامة رحى الخزاف .
- مَقَامَةُ حِفْظِ السِّرِّ بَيْنَ الْأَمَانَةِ وَالْحِكْمَةِ ...
- مقامة أبانا .
- مقامة العبر .
- مقامة تجليات قلق الورّاق .
- مقامة ام الكعك .
- مقامة غنائية .
- مقامة الرجاء الشطرنجية : في وصفِ لعبةِ التَّشظّي .
- مَقَامَةُ لَبَنِ العُصْفُورِ.
- مقامة الأنتخابات .
- مقامة لمحات من ذلك الزمان : أحداث ورجاء .


المزيد.....




- هكذا أطلّت الممثلات العالميات في المهرجان الدولي للفيلم بمرا ...
- أول متحف عربي مكرّس لتخليد إرث الفنان مقبول فدا حسين
- المسرحيون يعلنون القطيعة: عصيان مفتوح في وجه دولة خانت ثقافت ...
- فيلم -أحلام قطار-.. صوت الصمت في مواجهة الزمن
- مهرجان مراكش: الممثلة جودي فوستر تعتبر السينما العربية غائبة ...
- مهرجان غزة الدولي لسينما المرأة يصدر دليل المخرجات السينمائي ...
- مهرجان فجر السينمائي:لقاءالإبداع العالمي على أرض إيران
- المغربية ليلى العلمي.. -أميركية أخرى- تمزج الإنجليزية بالعرب ...
- ثقافة المقاومة: كيف نبني روح الصمود في مواجهة التحديات؟
- فيلم جديد يكشف ماذا فعل معمر القذافي بجثة وزير خارجيته المعا ...


المزيد.....

- خرائط العراقيين الغريبة / ملهم الملائكة
- مقال (حياة غويا وعصره ) بقلم آلان وودز.مجلةدفاعاعن الماركسية ... / عبدالرؤوف بطيخ
- يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال ... / السيد حافظ
- ركن هادئ للبنفسج / د. خالد زغريت
- حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني / السيد حافظ
- رواية "سفر الأمهات الثلاث" / رانية مرجية
- الذين باركوا القتل رواية ... / رانية مرجية
- المسرواية عند توفيق الحكيم والسيد حافظ. دراسة في نقاء الفنون ... / د. محمود محمد حمزة
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة. الطبعة الثانية / د. أمل درويش
- مشروع مسرحيات مونودراما للسيد حافظ. اكسبريو.الخادمة والعجوز. ... / السيد حافظ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صباح حزمي الزهيري - مقامة مأزق فارس الملل : اللومُ عادةُ مَن لا يُغامرون , فلسفة الإقصاء القسري.