عماد الطيب
كاتب
الحوار المتمدن-العدد: 8539 - 2025 / 11 / 27 - 00:37
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
السيادة ليست قطعة قماش تموج في الهواء، ولا لحناً عاطفياً يعلو في الاحتفالات، ولا خطابات تمجّد الوطن على شاشات التلفاز بينما تنهشه أيادٍ كثيرة من الداخل والخارج. السيادة مفهومٌ لا يتحقق بالشعارات ولا بالبهرجة الوطنية المصطنعة، بل بالقدرة الفعلية للدولة على حماية قرارها، وصيانة مواردها، ومنع الآخرين من التحكم بمصير أبنائها. وكلما علا الضجيج حول "كرامة الوطن" و"هيبة الدولة"، تأكد غالباً أن شيئاً جوهرياً غائب في العمق، وأن السيادة في حقيقتها تجلس على كرسي مهتزّ تُزيِّنه مكبرات الصوت، لا القوّة المؤسسية.
العراق مثال فجّ، ليس لأنّه البلد الوحيد الذي تعرّض لانتهاك سيادته، بل لأنه البلد الذي تحوّلت فيه السيادة إلى نكتة سياسية، تتكرر كل يوم بلا خجل. فمنذ أن فُتحت بوابات بغداد عام 2003 على جحيم الاحتلال، دخل الجميع: جيوش، مخابرات، شركات، أحزاب، ميليشيات، جيران، غرباء، أصدقاء وأعداء بعدد لا يُحصى. حتى بات السؤال الصادم: من الذي لم يتدخل في العراق؟ من الذي لم يمدّ إصبعه في القرار الأمني أو السياسي أو الاقتصادي؟ كيف يمكن لدولة أن تتحدث عن السيادة بينما طائرات دول أخرى تحلّق فوق أراضيها دون إذن، وقواعد أجنبية ترفع أعلامها على أراضٍ وطنية، وقوى داخلية تعمل كأذرع للأجنبي أكثر مما تعمل كمواطنين؟
حين تكون السيادة فعلاً لا قولاً، لا تستطيع دولة أخرى أن تقتل قائداً عسكرياً على أرضك ثم تخرج في اليوم التالي لتلقي محاضرات عن "الشراكة". ولا تستطيع جماعة مسلّحة أن تقيم نقطة تفتيش أقوى من نقطة الدولة. ولا تستطيع شركة نفط أن تُحدّد أسعار النفط نيابة عنك. ولا يستطيع موظف في سفارة أجنبية أن يتصل بوزير في دولتك ليناقشه بلهجة الآمر الناهي. السيادة الفعلية لا تحتاج أن ترفع عليها شعاراً، لأنها تُمارَس، تُحسّ، وتُدافع عن نفسها بلا خطاب.
وفي العالم أمثلة تشبه العراق، لكنها تختلف في كيفية صنع الهزيمة وتجميلها سوريا مثلا ، فقد تحولت إلى لوحة فسيفساء من الاحتلالات المتوازية: الأميركي، الروسي، الإيراني، التركي. ومن ثم أمريكا واسرائيل . دول على الأقل تتقاسم السماء والأرض، وفي كل منطقة سيادة مختلفة، وقانون مختلف، وسلطة مختلفة. أصبحت السيادة أشبه بعقار مُفرَّغ، يؤجّر كل طابق منه لدولة، وتتقاسمها جيوش لا يجمع بينها سوى أنها جميعاً تتصرف بثقة أكبر من صاحب البيت نفسه.
وليس العرب وحدهم في هذا المأزق. يكفي النظر إلى أوكرانيا منذ 2014 وحتى اليوم. السيادة هناك أصبحت ساحة صراع بين روسيا والغرب، وتحوّلت البلاد إلى ميدان اختبار إرادات، لا أحد فيه يتحدث بصدق عن سيادة أو استقلال. الجميع يتفاوض على الأرض الأوكرانية، ويقررون مصير خاركيف وكريميا وبقية المدن وكأنها لوحات على رقعة شطرنج. السيادة حين تتحول إلى ورقة مساومة في صراع دولي أشبه بعملة مزيفة: تُستخدم للضغط لا للكرامة.
وفي أفغانستان مثال آخر: عشرون عاماً من الاحتلال المباشر وغير المباشر، ثم انسحاب مذلّ للقوة الأكبر في العالم، وعودة حركة كانت تُقدّم للعالم على أنها "إرهابية". السيادة الأفغانية لم تتحقق بالانسحاب، بل تحولت إلى كرة تتقاذفها الجماعات المسلحة، والتوازنات القبلية، والتدخلات الإقليمية. السيادة ليست مجرد خروج جندي أجنبي، بل قدرة الدولة على الحكم دون وصاية، وهذا ما غاب طويلاً وما زال غائباً.
لكن العراق يبقى مدرسة عالمية في تشويه السيادة. فالدولة التي تمتلك ثاني أكبر احتياطي نفطي في العالم، لا تستطيع بناء محطة كهربائية دون موافقات وضغوط دولية، ولا تستطيع حماية حدودها من تهريب المخدرات والسلاح والبشر دون أن تتورط أجهزة نافذة في هذه التجارة. أي سيادة يمكن أن تُبنى فوق شبكة مصالح كهذه؟ كيف يمكن لدولة أن تكون مستقلة بينما اقتصادها مربوط برغبات الخارج وسياساتها الداخلية تُكتب بأقلام الآخرين؟
السيادة ليست في أن يرفع السياسي صوته أمام الكاميرا، بل في أن لا يستطيع أحد تهديده خلف الكواليس. ليست في العدد الهائل للوزارات والمؤسسات، بل في قدرة هذه المؤسسات على فرض القانون على الجميع. ليست في الاجتماعات الدبلوماسية، بل في من يمتلك القرار الأخير: هل هو رئيس الحكومة أم سفير دولة أجنبية؟ هل هو البرلمان أم جماعة مسلّحة؟ هل هو القضاء أم صاحب نفوذ؟
الدول التي تحترم نفسها لم تصل لذلك بكثرة الشعارات، بل بصرامة النظام. اليابان، التي خرجت من حرب مدمرة، لم تستعد سيادتها بالغضب ولا بالعاطفة، بل بالقانون والبناء والإنتاج والاقتصاد. كوريا الجنوبية أصبحت دولة ذات سيادة حين أصبحت دولة تصنع، لا حين كانت تستورد. ألمانيا لم ترفع صوتها بعد الحرب العالمية الثانية، لكنها رفعت مصانعها، جامعاتها، وتكنولوجيتها، فاحترم العالم سيادتها دون أن تطلب. السيادة لا تُنتزع من أفواه الآخرين، بل تُنتج من قدرة الدولة على الاكتفاء الذاتي، ومن نظام سياسي يخشى محاسبة الشعب أكثر مما يخشى رضا الخارج.
في المقابل، الدول الضعيفة تتحدث عن السيادة أكثر مما تمارسها. فكلما ازداد الحديث عن "سيادة القرار"، تأكد أن القرار مصادَر. وكلما علا خطاب "هيبة الدولة"، فهمت أن الهيبة مخترقة. وكلما ارتفع صوت السياسي، كان ذلك غالباً علامة على أنه لا يمتلك سوى الصوت، لا الفعل. الدول التي تمتلك سيادة حقيقية لا تتحدث عنها كثيراً؛ فهي متحققة كالهواء: لا يلفت النظر لكنه أساس الحياة.
وفي العراق تتجسد المأساة بأوضح صورها حين ترى أن السيادة تُستخدم كأداة سياسية لا كقيمة وطنية. تُرفع حين يريد طرف مهاجمة طرف، وتختفي حين يريد الطرف نفسه الدفاع عن نفوذه. تُستخدم لرفض تدخل خارجي معين، بينما يُسمح بتدخل خارجي آخر لأنه يخدم المصالح. وهذا الازدواج هو جوهر انهيار السيادة: حين لا تصبح قيمة ثابتة، بل سلعة تُباع وتُشترى.
السيادة لا تتحقق في دولة يهرب فيها الفاسدون دون محاكمة لأنهم محميون بغطاء سياسي خارجي. ولا تتحقق في دولة تدار فيها المناصب وفق إرادة سفارة لا وفق صناديق اقتراع. ولا تتحقق في دولة يُفرض عليها قانون انتخابي من خارج حدودها. ولا تتحقق في دولة يمكن فيها لأي جهة مسلحة أن تتحدى الجيش، أو لأي سياسي أن يستقوي بالخارج على الداخل.
والسيادة ليست فقط سياسية أو عسكرية؛ هي أيضاً سيادة اقتصادية. ما قيمة العلم على المباني إذا كانت ثروات البلد تُهرَّب يومياً تحت حماية مسؤولين؟ ما قيمة النشيد الوطني حين تعيش البلاد على استيراد كل شيء من الإبرة إلى محطة الطاقة؟ كيف يمكن لدولة أن تتحدث عن السيادة بينما ميزانيتها تعتمد بنسبة 95% على بيع النفط الخام، وتستورد حتى ورق الامتحانات؟ السيادة الاقتصادية أساس السيادة السياسية، ومن دونها تكون الدولة مثل بيت بلا أساس، مهما كان شكله جميلاً.
وفي العالم، دول كثيرة فقدت سيادتها اقتصادياً قبل أن تفقدها سياسياً. اليونان مثال صريح حين تدخل الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد لفرض سياسات قاسية على الدولة. هذا ليس احتلالاً عسكرياً، لكنه احتلال اقتصادي: حين تقرر مؤسسة مالية ما يجب أن يفعله شعب كامل. والأمر ذاته في بعض دول أفريقيا التي أصبحت مرهونة للشركات الصينية، أو في دول أميركا اللاتينية التي تتحكم بها الشركات الأميركية العملاقة. الاحتلال لم يعد يحتاج دبابات؛ يكفي قرض، اتفاقية، أو عقد ضخم لتحديد مصير بلد كامل.
والسيادة في عصرنا ليست استقلال العلم، بل استقلال القرار. أن تمتلك دولة الجرأة على الرفض حين يتعارض الطلب مع مصالح شعبها. أن تستطيع أن تقول "لا" لدولة أقوى، أو "نعم" لما يحقق منفعة وطنية دون خوف من العقوبات أو التهديدات. وهذا ما فشلت فيه عشرات الدول، ليس لأنّها ضعيفة فقط، بل لأن نخبها الحاكمة باعت السيادة مقابل حماية مناصبها.
العراق والعالم العربي عموماً يعانيان من هذا المرض: نخبة سياسية تستمد قوتها من الخارج لا من الداخل. ومن يستمد قوته من الخارج لا يمكنه بناء سيادة، بل يبني واجهة سيادة. واجهة تشبه الديكور الجميل في بيت مهدد بالسقوط. العلم يرفرف لكنه لا يحمي. النشيد يعزف لكنه لا يغيّر. الخطاب يلعلع لكنه لا يُطبّق. السيادة لا تتحقق بالأغاني بل بالقوانين، وليس بالشعارات بل بالمؤسسات، وليس بخطب الجمعة بل بالمحاسبة، وليس بالوعود بل بالقدرة على تنفيذها.
السيادة الحقيقية تبدأ حين يصبح المسؤول خائفاً من الشعب لا من الخارج، وحين يصبح المواطن جزءاً من القرار لا مجرد صوت انتخابي موسمي. تبدأ حين لا يُقتل الناشط لأنه كشف فساداً، وحين لا يخاف الصحفي من كشف الحقيقة. تبدأ حين يمتلك المواطن شجاعة السؤال: لماذا؟ وكيف؟ ولصالح من؟ تبدأ حين ترفع الدولة رأسها لأنها تبني وتخطط وتصنع، لا لأنها تصرخ في الهواء.
العالم مليء بدول رفعت علمها فوق الخراب، ودول اكتفت بالأغاني الوطنية لتعويض غياب الدولة. والعراق اليوم أمام خيارين: إما أن يبقى في دائرة الشعارات، أو أن يبدأ رحلة استعادة سيادته بالفعل لا بالقول. وهذه الرحلة مؤلمة، تحتاج تفكيك منظومة الفساد، إعادة بناء المؤسسات، تحرير القرار السياسي من النفوذ الخارجي، وإعادة تعريف مفهوم المواطنة.
السيادة ليست ذكرى نحتفل بها، ولا يوم عطلة، ولا قصيدة يكتبها شاعر، ولا خطاب يلقيه رئيس. السيادة هي قدرة الدولة على أن تقول: هذا نحن، وهذا قرارنا، وهذه مصالح شعبنا. وهي قدرة الشعب على أن يقول: هذا بلدنا، ولن ندعه يُباع ولا يُنهب.
السيادة ليست علماً يرفرف.
هي إرادة تقف.
وإذا لم تقف الإرادة، فكل الأعلام مجرد أقمشة، وكل الأناشيد مجرد ضوضاء، وكل الخطابات مجرد تمثيلٍ على مسرحٍ محترق.
#عماد_الطيب (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟