أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - محمد عادل زكى - الحداثة: تحرير أم استعمار جديد للعقل؟















المزيد.....

الحداثة: تحرير أم استعمار جديد للعقل؟


محمد عادل زكى
(Muhammad Adel Zaky)


الحوار المتمدن-العدد: 8539 - 2025 / 11 / 27 - 00:16
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


منذ بدأتُ في نقد الاقتصَاد السِّياسي، كعلم اجتمَاعيّ، أوروبيّ النَّشأة والنكهة، كانت "الحداثة" بالنسبة لي نمطًا من التفكير جرى فرضه على العالم فرضًا تحت ستار إعمال العقل وتقديس العلم، ولم تكن مجرد مرحلة تاريخيَّة. وبالتَّالي، لم أكن يومًا من أولئك الذين ينظرون إلى الحداثة باعتبارها خلاصًا، أو مرحلة ضرورية في تطور الْوعي الإنسانيّ؛ إذ كنت دائمًا ما أنظر إليها كلحظة عُنف، لحظة جرى فيها إعادة تشكيل العالم وفق منطق أحادي يزعم العالميَّة، ويدَّعي أستاذية العالم، بينما لا يعترف إلا بالذَّات الأوروبيَّة التي أرخت للعالم ابتداءً من تاريخها. فالحداثة لم تأت إلينا إلا محمولة على حراب المستعمرين، وعلى السّفن التي رست على سواحلنا لتفرغ عقولنا من ذواتها، لا لتنهب خيرات بلداننا المنكوبة فحسب. لقد أتت الحداثة بكل عدوانية وليس عبر موسوعات الفلاسفة وكتب التنوير، كما تم تسويق ذلك وترسيخه في أذهاننا المستعمرة. فنحن، في الأجزاء المتخلفة من النظام الرأسمالي العالمي، لم نولد داخل الحداثة، إنما صُعقنا بها، تلقيناها كهجوم خارجيّ. كانت صدمة حضاريَّة، كانت غارة سريعة على وعي هش، جرّد من خصوصيته التاريخيَّة. لقد عايشت، عبر قراءتي لكتابات بتي، وكانتيون، وكينيه، وسميث، وريكاردو، ورامساي، ومالتس، ورودبرتوس، وماركس، كيف بنت الحداثة نفسها من خلال مفهوم السُّوق، وكيف تحوّل الاقتصاد من نشاط اجتماعي غائي إلى منظومة تُنتج الإنسان كما تُنتج السلعة. إن كل مفاهيم التقدم التي تسكن خطاب الحداثة، وكل مسلَّمات الحرية الفرديَّة والعقلانيَّة، كانت، في العمق، مجرّد أدوات لإعادة إنتاج السيطرة وليس لتحرير البشر. ماركس ذاته، الَّذي حاول أن ينتزع هذا الْوعي من قبضة الرَّأسمال، سقط هو نفسه في فخ الحداثة حين افترض أن التَّاريخ يسير وفق خط تطوري واحد يستلهم تطوره من تاريخ أوروبا، وأن المجتمعات جميعها ستسلك الطريق ذاته. أن الحداثة، كما وصلت إلينا، كانت بمثابة نظام مغلق، وليست سُؤالًا نقديًا مفتوحًا، نظام يفرض منطقه كقانون طبيعي، ويقيس كل ما عداه بوحداته. حتى الزَّمن، الذي كنت أدرسه كعامل مغفَل في تشكيل القِيمة، تم تحويله داخل خطاب الحداثة إلى أداة انضباط، وسلاح بيد الرّأسمال لتنظيم الحياة وليس من أجل تحريرها من عبثيتها وقسوتها. ولذلك، فإن معركتي الفكريَّة مع الحداثة لم تكن إلا مع جوهر المصطلح، مع بنيته التي احتقرت كل ما هو خارجها، وحوّلت العالم إلى سوق واحدة، ومصنع واحد، وتاريخ واحد. ولهذا فإن مناهضة الحداثة لا تعني العودة إلى الوراء، بل تعني التمرُّد على سلطة الوصاية الفكريَّة، على الفرضيَّة التي تجعل من مسار أوروبا المسار الوحيد الممكن تاريخيًا. لقد خُدِعَنا كثيرًا بخطاب التقدّم، وعلينا أن نتوقف. ليس لأن التقدّم في ذاته باطل، إنما لأن المقياس الذي صاغوه للتقدّم لم يُبْنَ علينا، ولا من أجلنا، إنما بُنِي ضدنا. فلا يستقيم أن نقيس تحررنا بمقاييس من سلبونا أرواحنا الخلَّاقة. ولا معنى لأي وعي نملكه إذا كان منسوخًا عن أداة الهيمنة نفسها. ومن ثم، فالسُّؤال لم يعد: "كيف نلتحق بالعصر؟"، إنما: "أي عصر نريد أن نخلق؟ ولكن، إجابتنا عن هذا السؤال، سؤال: أي عصر نريد أن نخلق، لا يمكن أن تأتي صحيحة إلا ابتداءً من موقف، ناقد، ورافض للمركزية الأوروبية، فلقد كانت الهيمنة الأوروبيَّة على العالم، منذ نهضتها الحديثة، بالأساس هيمنة رمزيَّة، ومعرفيَّة، وتاريخيَّة، ولغويَّة، أي هيمنة على الإنسان من حيث هو كائن تاريخيّ/ ثقافيّ، ولم تكن مجرد تفوُّق تقنيٍّ أو عسكريٍّ أو اقتصاديٍّ، فالحضارة الأوروبيَّة احتكرت منذ نشأتها معنى الانتصار، ولم تكتفِ به، ومحت من الوجود التَّاريخي كل ما، ومَن، لا ينتمي إليها أو يمر عبرها. إنها حضارة استبطنت التَّفوُّق كحقٍّ معرفي يجعل منها المرجع الوحيد الممكن لقياس الإنسانيَّة. لقد أنتجت أوروبا "علمها" الحديث، لا من خلال حوار معرفيّ جدليّ مع الحضارات الأخرى، وإنما عبر فصل معرفيّ قسري بين ما يُسمى "العقل الأوروبي" و"الشرق الأسطوري". فتاريخ العلم يبدأ في السردية الأوروبيَّة باليونان، ولكن باليونان المبتورة عن جذورها الشرقية، والَّتي، بالتَّالي، قدّمت في إطارٍ "غربي نقي"، كأنما الفكر ولد خالصًا، عقلانيًا، ويونانيًا، وأبيض! فلم تكن اليونان تلك الَّتي كانت ضِمن الفضاء الشرقي، الممتزج بالفكر المصري والبابلي والفينيقي. وعلى هذا النحو، أعادت أوروبا تركيب الزَّمن، وجعلت من تاريخها تاريخًا عالميًّا، ومن لحظاتها الكبرى، مثل عصر الأنوار والثورة الصناعيَّة، مفاصل لتاريخ الإنسان كلّه، دون اعتبار لغيرها من التواريخ. وبالتالي جعلت من تاريخ الشعوب الأخرى مجرد ظلٍّ لتاريخها، وأعادت تأريخ العالم المُستَعمَر انطلاقًا من لحظة استعمارِه، فكأن هذه الشعوب لم تكن شيئًا قبل دخولها سجلّ الهيمنة. فالهند لم تكن حضارة عريقة، بل كانت "أرض العجائب المتخلفة"، وأفريقيا لم تكن سوى "قارة بلا تاريخ"، والعرب لم يكونوا إلا بدو في صحراء حارقة، حتى أضاءت عليهم "أنوار الغرب". بهذا الشكل، أصبحت السردية الأوروبيَّة هي السرديَّة الوحيدة المسموح لها بالكلام باسم الإنسان. فهي الَّتي تعرِّف "الحداثة"، و"الدين"، و"العلم"، و"الحق"، و"الحرية"، و"الهوية"، و"المعنى". أما ما يخرج عن هذه القوالب، فهو إما فلكلور شعبيّ، أو تخلّفٌ يجب تخطِّيه. والأخطر من ذلك أن أوروبا المنتصرة أقصت وألغت حضور غيرها من الشعوب من سجلّ الذاكرة الجماعية للبشرية. فهي لم تكتف بفرض مفاهيمها فحسب، فالدين لم يعد تجربة روحية متعددة المشارب، بل صار "المسيح الأبيض"، بملامحه الأوروبيَّة، يتصدَّر كل تمثُّل للإله، في حين أُقصيَ يسوع التَّاريخي، الشرقي، والفقير، والثَّائر. فاللاهوت تحوّل إلى أداة إمبريالية، تُمجِّد شعبًا مختارًا جديدًا هو الإنسان الأوروبي، وتُقصي كل ما هو غير أوروبي على أنه وثني، أو غامض، أو غبي، أو شرقي! وكذلك السياسة، فهي رواية أخرى من روايات التفوُّق المقدس. فالديمقراطية الأوروبيَّة تقدم كنموذج عقلاني ومتحضر وحيد. وكل ما عداه من نُظُم، سواء كانت ملكية شرقيَّة أو مجتمعات بلا دولة أو تنظيمات بدوية أو تقاليد شورى أو إمارات مدنيَّة أو مجالس قَبَلية، يُعتبر انحرافًا عن "الخط التقدمي للحضارة". هكذا احتكرت أوروبا صورة المستقبل، إذ لم تكتفِ باحتكار الماضي. أما اللغة فقد صارت بدورها أداة استعمار: فالإنجليزيَّة والفرنسيَّة والألمانيَّة هي لغات "الحداثة"، و"الجامعات"، و"العِلم"، و"الاقتصاد"، و"العقل"، وليست فقط لغات أوروبيَّة، بينما صارت العربيَّة والسواحيلية والفارسية والأمازيغية... مجرد لهجات، تراثية، عاطفية، لا تصلح للبحث، ولا تصلح للسياسة، ولا تصلح "للحداثة". أمَّا الثقافة، فأُعيد تعريفها أيضًا ضمن حدود القابلية الأوروبيَّة للفهم. صار الفن، مثلًا، هو اللوحة الأوروبيَّة، وصارت الموسيقى هي الأوركسترا، وصارت المسرحية هي التراجيديا الإغريقية المعاد إنتاجها على الخشبة البريطانيَّة أو الفرنسيَّة. وكأنَّ الإنسانية، كلّها، لم تُنتج شيئًا ذا قيمة إلا ما أقرَّته الأكاديميات الأوروبيَّة. أنا لا أتحدث هنا عن هيمنة عسكرية أو اقتصادية فقط، إنما عن نظام معنوي متكامل يُنتج العالم ويُعيد تعريفه وفق مصالحه ومقاييسه. وهذا بالضبط ما يجعل من نقد هذه المركزية الأوروبيَّة مهمَّةً مزدوجة: فهي من جهة تفكيكٌ لأسطورة التَّفوق الأبيض، ومن جهة أخرى تحريرٌ للمعرفة من استعمارها. إبتداءً من إيمان راسخ بأن الإنسانية لا يُمكن أن تتقدَّم ما لم تُصغِ لتاريخ من نُهِبَتْ حياتهم، لا تاريخ من نهبها.



#محمد_عادل_زكي (هاشتاغ)       Muhammad_Adel_Zaky#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مأزق المشروعيَّة في ظل الجهل التَّشريعيّ
- تحرير العقود، واستعباد البشر
- تَرْسْمُل الرِّيع العَقَارِي
- ضد أرجيري إيمانويل، وسمير أمين
- أيْن الخَلَل؟ قراءةٌ في تُرَّهات التَّبادُل غَيْر المُتَكافئ
- عن يسارٍ بلا مشروع، وقومية بلا مساءلة
- التَّبادُل غَير المُتَكافئ: كذْبةُ الشَّمال الَّتي صدَّقها ا ...
- المثقف اليساري: شبح بلا تاريخ
- ماركس: الوثن الَّذي صنعته الهيمنة
- إحياء قانون القيمة
- الإمبرياليَّة والنفط، وخرائط الدّم
- هل يمكن إنقاذ الاقتصاد السياسي؟
- من بابل إلى لانكشير: تاريخ مقنّن للسيطرة
- أزمة الماركسية في العالم العربي
- صدمة الحداثة
- الرأسمالية كحضارة نفي: حين يحكم الربح مسار الإنتاج
- الأزمة البيداجوجية للاقتصاد السياسي
- الإصلاح الاقتصادي: لحظة من لحظات الهيمنة
- مَن يربح حين نموت؟ الإمبرياليَّة تُجيب
- القانون: شرعنة القهر الرأسمالي الحديث


المزيد.....




- بوتين يعزف على آلة الـ -كوموز- في قرغيزستان خلال زيارة رسمية ...
- كرّ وفرّ بين الشرطة الإسرائيلية والحريديم الرافضين للخدمة ال ...
- -النظام ضعيف لكنه سيقاتل للبقاء-.. ضابط استخبارات تسلّل إلى ...
- عملية عسكرية إسرائيلية واسعة في شمال الضفة الغربية
- عراقجي في باريس : ماذا ينتظر من فرنسا ؟
- روسيا تصف المسار الدبلوماسي الحالي بشأن إنهاء الحرب في أوكرا ...
- عراقجي لفرانس24: عملية تبادل السجناء مع فرنسا ستتم عند انتها ...
- مغزى تهديد كاتس ضد لبنان وفرص تنفيذه
- أخطر حريق في تاريخ هونغ كونغ الحديث يدمر 7 أبراج سكنية.. شاه ...
- حريق كارثي في هونغ كونغ.. النيران تلتهم 8 أبراج مخلفةً 13 قت ...


المزيد.....

- كتاب دراسات في التاريخ الاجتماعي للسودان القديم / تاج السر عثمان
- كتّب العقائد فى العصر الأموى / رحيم فرحان صدام
- السيرة النبوية لابن كثير (دراسة نقدية) / رحيم فرحان صدام
- كتاب تاريخ النوبة الاقتصادي - الاجتماعي / تاج السر عثمان
- كتاب الواجبات عند الرواقي شيشرون / زهير الخويلدي
- كتاب لمحات من تاريخ مملكة الفونج الاجتماعي / تاج السر عثمان
- كتاب تاريخ سلطنة دارفور الاجتماعي / تاج السر عثمان
- برنارد شو بين الدعاية الإسلامية والحقائق التاريخية / رحيم فرحان صدام
- الانسان في فجر الحضارة / مالك ابوعليا
- مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات ... / مالك ابوعليا


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - محمد عادل زكى - الحداثة: تحرير أم استعمار جديد للعقل؟