أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - في نقد الشيوعية واليسار واحزابها - محمد عادل زكى - عن يسارٍ بلا مشروع، وقومية بلا مساءلة














المزيد.....

عن يسارٍ بلا مشروع، وقومية بلا مساءلة


محمد عادل زكى
(Muhammad Adel Zaky)


الحوار المتمدن-العدد: 8422 - 2025 / 8 / 2 - 01:51
المحور: في نقد الشيوعية واليسار واحزابها
    


ليس أصعب من الحديث عن المثقف اليساري، إلا الحديث مع مثقف يساري. فهو دائمًا جاهز بخطابه، محفوظ بمقولاته، متجهّم، مقطّب الجبين، كأنه يحمل العالم على كتفيه دون أن يهتز له جفن. وحين تسأله ببساطة: "ما الذي تفعله تحديدًا؟"، يصمت، أو يرفع كتاب ماركس ببطء، كما لو أن حمله يكفي دليلًا على الانحياز. وكأن الثورة تتم بالنوايا، أو تتحقق عبر الكلمات. إنه يعرف الشعارات كلها، لكنه لا يملك مشروعًا واحدًا. يندّد بالرأسمالية من قلب مقهى فخم، يهتف باسم البروليتاريا دون أن يعرف وجهًا واحدًا منها، يحدّثك عن "النضال الطبقي" كأنه فقرة من مسرحية يعرف نهايتها، لا كأنها سؤالٌ مفتوح على الواقع. هو لا يعيش في واقعه، بل في نصّه. يتماهى مع مفرداته لا مع الناس. هو ليس يساريًا بالمعنى الذي أراده ماركس، أي فاعلٌ في العالم، واعٍ ببنيته، منخرط في تغييره، بل صورة كاريكاتورية لرجل اعتاد أن يتحدث باسم "الشعب"، دون أن ينزل إليه. لقد صار المثقف اليساريّ، في عالمنا العربي، ظلًا لصورة قديمة. لم يعد مفكرًا مشتبكًا مع لحظته، بل موظفًا في جهاز لغويّ ميت، يعيد إنتاج مفاهيم مستهلكة بحماسة، وكأن التكرار مقاومة. يقول "الثورة" كما يقول المتديّن "آمين"، ويذكر ماركس كما تُذكر المقدسات، دون أن يتساءل: هل قرأ حقًا هذا الذي يتحدث باسمه؟ هل فهمه؟ هل تجاوزه؟ أم أنه مجرد صدًى باهتٍ لنسخة أيديولوجية مغلقة؟الحقيقة أن كثيرًا ممن يصنّفون أنفسهم يساريين لا يعرفون من ماركس إلا ما يصلح للتداول العام: "الدين أفيون الشعوب"، "الطبقة العاملة"، "القيمة الزائدة"، إلى آخر القاموس القديم الذي يُردَّد كما تُردَّد التراتيل في طقس بلا إيمان: محفوظة لا مفهومة، مكررة لا مُسائلة. أنا لا أهاجم اليسار كفكرة، بل أهاجم تحنيطه. أهاجم اختزاله في قاموس لغويّ، بلا علاقة حقيقية بالممارسة، بلا مساءلة للمفاهيم، بلا انخراط في اللحظة. اليسار حين يفقد مشروعه النقدي، يتحوّل إلى ديكور: إلى نبرة صوت، إلى وضعية يد، إلى وجود كميّ في الندوات، لا أثر له في الواقع. كنت أبحث، في كتابات من يُقدَّمون كمنظرين عرب للماركسية، عن أثرٍ حقيقي لنقد الاقتصاد السياسي، عن مساءلة قانون القيمة، عن علاقة حية مع الأسئلة التي طرحها ماركس عن العمل، الزمن، التراكم، قوى الإنتاج... فلم أجد. وجدت تكرارًا. صدى. انبهارًا باللغة. تأبيدًا لمفاهيم لم تعد تعمل، وتُستخدم كتعويذات لا كمفاتيح. وهذا التكلس اللغويّ لا يتوقف عند مفاهيم الاقتصاد السياسي، بل يمتدّ إلى علاقة هذا اليسار بالمسألة القومية. فبدل أن يكون موقعًا نقديًا يُسائل بنيات الدولة القومية العربية، ويعيد التفكير في علاقتها بالتبعية، وبنيتها الطبقية، وآلياتها في إنتاج القهر الرمزي والمادي، تحوّل هذا اليسار إلى صوت مهادِن، إن لم يكن تابعًا. يصفّق لأي سلطة باسم "المرحلة"، ويبرر أي قمع باسم "التناقضات"، ويعيد إنتاج خطاب الدولة القومية كما لو كان خلاصًا، لا أزمة. لقد تواطأ هذا اليسار، في لحظات كثيرة، مع سرديات "التحرر القومي" التي قادتها نخب عسكرية بيروقراطية، باسم "الوحدة"، و"الصمود"، و"التصدي"، دون أن يجرؤ على مساءلة بُناها، أو التساؤل عن منطق إنتاجها الاجتماعي. لم يرَ في القومية العربية بنيةً قابلة للنقد، بل مشروعًا يجب دعمه أيديولوجيًا. وهكذا، باسم مواجهة الاستعمار، تم تجاهل الاستبداد. وباسم التصدي للإمبريالية، تم تمجيد القمع الداخلي. وباسم "الأمة"، تم سحق الفرد. إن المثقف اليساريّ الذي لا يجرؤ على مساءلة المشروع القومي العربي، بوصفه جهازًا أنتج النخبة، وحجب الشعب، هو مثقف تابع. الذي لا يرى أن مفهوم "القومية" ذاته قد استُهلك وأُفرغ من مضمونه في ظل دول ريعية تسلطية، هو مثقف لا يرى. الذي لا يسائل الأسس المعرفية التي قام عليها هذا المشروع، والمفاهيم التي أعاد إنتاجها، من الأمة، والهوية، والمركز، والحدود، هو مجرد مؤرّخ للسلطة، يبررها بلغة المعارضة. إن اليسار الذي لا يسائل نفسه، ليس يسارًا. بل سلطة تنتظر لحظتها. والمثقف اليساريّ الذي لا يقف في مواجهة السوق، ولا يجرؤ على مساءلة مفهوم "القيمة"، ولا يتأمل شرطه المعرفي بوصفه جزءًا من حداثة أوروبية مهيمنة، هو موظف لا أكثر. الفرق الوحيد بينه وبين الليبرالي، أن أحدهما يحتفي بالنظام، والآخر يسبّه بينما يقتات عليه. إن المثقف الذي يصفق لأي سلطة باسم "الضرورة التاريخية"، أو يبرر كل شيء باسم "التناقضات الموضوعية"، هو مجرد وسيط رمزي بين الهيمنة والجمهور. لا يفككها، بل ينقلها بلغة "نقدية"، فتُعاد صياغتها دون أن تُفضَح. أنا لا أطالب المثقف اليساريّ أن يكون قديسًا. بل أن يكون صادقًا مع أدواته. أن يجرؤ على قتل الأصنام، حتى أصنامه الخاصة. أن يدرك أن ماركس نفسه لم يكن ماركسيًا، وأن "الثورة" لا تعني الوقوف على أنقاض الماضي، بل تحطيم الحاضر. أن يقرأ الاقتصاد السياسي لا بوصفه قشرة خطابية، بل بوصفه سؤالًا وجوديًا: من ينتج؟ من يستهلك؟ من يُقصى؟ من يقرّر؟ وأن يعرف أن "التحرر" ليس شعارًا، بل بنية. لا تتحقق إلا بفهم القوانين التي تنتج العبودية الجديدة، والتي يُعاد فيها تشكيل الإنسان كسلعة، والزمن كوسيلة للسيطرة، والمعنى ككذبة قابلة للتسويق. أما اليساريّ الذي لا يطرح أسئلة جديدة، ولا يهز البنية التي يقف عليها، ولا يقرأ ماركس إلا ليحمي نفسه به، فهو مجرد صوت إضافي في جوقة الضجيج. يساريته تصبح زيًا لغويًا لا فعلًا معرفيًا. يصبح اليسار عنده مرادفًا للمرارة، لا للمشروع؛ للشعار، لا للفكرة؛ للطقس، لا للثورة. وأنا، بعد كل هذا الزمن في مساءلة القيمة، لم أعد أبحث عن صوت يشبهني، بل عن صوت يختلف، يزعج، ينقض. عن يسار لا يكتفي بترديد ماركس، بل يجرؤ على تجاوزه. إن اليسار، في عالمنا العربي، لا يحتاج إلى من يكرّر لغته، بل إلى من يعيد تأسيسه من خارجها.



#محمد_عادل_زكي (هاشتاغ)       Muhammad_Adel_Zaky#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- التَّبادُل غَير المُتَكافئ: كذْبةُ الشَّمال الَّتي صدَّقها ا ...
- المثقف اليساري: شبح بلا تاريخ
- ماركس: الوثن الَّذي صنعته الهيمنة
- إحياء قانون القيمة
- الإمبرياليَّة والنفط، وخرائط الدّم
- هل يمكن إنقاذ الاقتصاد السياسي؟
- من بابل إلى لانكشير: تاريخ مقنّن للسيطرة
- أزمة الماركسية في العالم العربي
- صدمة الحداثة
- الرأسمالية كحضارة نفي: حين يحكم الربح مسار الإنتاج
- الأزمة البيداجوجية للاقتصاد السياسي
- الإصلاح الاقتصادي: لحظة من لحظات الهيمنة
- مَن يربح حين نموت؟ الإمبرياليَّة تُجيب
- القانون: شرعنة القهر الرأسمالي الحديث
- قفاز حريري يُخفي مخالب من حديد
- نهب القارة الأفريقية: جرحٌ نازفٌ في جسد التَّاريخ والإنسانيّ ...
- الاقْتِصَاد السِّياسيّ: تحطيم المركزيَّة وبناء الإنسانيَّة
- أطلال الحضارات المغدورة: أمريكا اللاتينيَّة في ظل الهيمنة ال ...
- في التَّاريخ الذي كُتب بالذهب والدم: نقد المركزيَّة الأوروبي ...
- الهيمنة بالفائدة: الرأسمالية حين تُدير العالم كخزينة خاصة


المزيد.....




- سؤال صعب خلال فعالية: -مليونا إنسان في غزة يتضورون جوعًا-.. ...
- كيف تبدو تصاميم الحدائق والمناحل الجديدة المنقذة للنحل؟
- ماذا يعني قرار ترامب نشْر غواصتين نوويتين قرب روسيا على أرض ...
- ويتكوف: لا مبرر لرفض حماس التفاوض، والحركة تربط تسليم السلاح ...
- ويتكوف يتحدّث من تل أبيب عن خطة لإنهاء الحرب.. وحماس: لن نتخ ...
- فلوريدا: تغريم تيسلا بأكثر من 240 مليون دولار بعد تسبب نظامه ...
- عاجل | وول ستريت جورنال عن مسؤولين: واشنطن تلقت خلال الصراع ...
- عاجل | حماس: نؤكد مجددا أن المقاومة وسلاحها استحقاق وطني ما ...
- الهند والصين تُعيدان فتح الحدود للسياح بعد قطيعة طويلة
- حتى الحبس له فاتورة.. فرنسا تدرس إلزام السجناء بدفع تكاليف ا ...


المزيد.....

- نعوم تشومسكي حول الاتحاد السوفيتي والاشتراكية: صراع الحقيقة ... / أحمد الجوهري
- عندما تنقلب السلحفاة على ظهرها / عبدالرزاق دحنون
- إعادة بناء المادية التاريخية - جورج لارين ( الكتاب كاملا ) / ترجمة سعيد العليمى
- معركة من أجل الدولة ومحاولة الانقلاب على جورج حاوي / محمد علي مقلد
- الحزب الشيوعي العراقي... وأزمة الهوية الايديولوجية..! مقاربة ... / فارس كمال نظمي
- التوتاليتاريا مرض الأحزاب العربية / محمد علي مقلد
- الطريق الروسى الى الاشتراكية / يوجين فارغا
- الشيوعيون في مصر المعاصرة / طارق المهدوي
- الطبقة الجديدة – ميلوفان ديلاس , مهداة إلى -روح- -الرفيق- في ... / مازن كم الماز
- نحو أساس فلسفي للنظام الاقتصادي الإسلامي / د.عمار مجيد كاظم


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - في نقد الشيوعية واليسار واحزابها - محمد عادل زكى - عن يسارٍ بلا مشروع، وقومية بلا مساءلة