محمد عادل زكي
الحوار المتمدن-العدد: 8383 - 2025 / 6 / 24 - 00:54
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
مدخل
لم يعُد الاقتصاد السياسي يُدرَّس، بل يُدفن حيًّا في قاعاتٍ جامدةٍ لا تُنجب إلا الخضوع؛ فقد تَحوّل من علمٍ للصراع إلى تقنيةٍ للطمس، ومن أداة لفهم التاريخ إلى خطابٍ يُنكر وجوده. في ظلّ هيمنة نيوكلاسيكية تُقدِّس التوازن وتُجرِّد الإنسان من طبقته وتاريخه، تُحوَّل السوق إلى قانونٍ طبيعي، والعقل إلى آلةٍ لحساب المنفعة. أما في بلادنا العربيَّة، فالتَّعليم، وقد تَكلَّس في بيروقراطية تَخنق وتُلقِّن، لا يُنتج إلا عقولًا مستعمَرة، تَحفظ ولا تفكر، وتُكرّر شعائر الطَّاعة في معابد السلطة. الجامعة، التي وُلدت لتُعيد إنتاج السيطرة، لا تصنع حرية، بل تُقنِّن الانكسار وتُطبع الاستلاب. وهذا النصّ ليس شكوى ولا توصية، بل إعلان قطيعة مع وهم الحياد، وتذكير بأن لا خلاص بلا تمرُّد معرفيّ جذريّ، يعيد الاقتصَاد السّياسيّ إلى حضن الفكر، والتَّعليم إلى مجاله الطبيعيّ: التحرُّر.
(1)
وإذا كان الاقْتصَاد السِّياسيّ، كما تبلور في القرن التَّاسع عشر، تعبيرًا عن صيرورة الْفكر الأوروبيّ وقدرته على تحويل نمط الإنتَاج الرَّأسماليّ إلى "عِلم"، فإن ما يُطلق عليه اليوم اسم "الاقتصَاد النيوكلاسيكيّ" [الَّذي يعدمون به الطلبة في الجامعات]، ليس استمرارًا، ولو حتى، مموهًا لهذا المسار، إنما هو القطيعة المعرفيَّة، ابتداءً من لغة مفرَّغة من أي جدلٍ تاريخيّ، حيث تُقدَّم العلاقات الاجتماعيَّة الرَّأسماليَّة بوصفها معطيات طبيعيَّة، أبدية، محايدة. لقد وُلدت النظرية النيوكلاسيكية في خضم الأزمة النظريَّة الَّتي ضربت الاقتصَاد السِّياسي الْكلاسيكيّ بعد ماركس، لا بوصفها تطويرًا له، وإنما بوصفها طمسًا لجوهره النَّقديّ. فبدلًا من تحليل العلاقات الطبقيَّة والبُنى الاجتماعيَّة الَّتي تُنتِج وتعيد إنتاج الثروة، تنسحب النيوكلاسيكية إلى فضاء رياضيّ تجريدي، حيث الأفراد ذوو عقلانيَّة مطلقة، والسُّوق يتوازن كما لو كان قانونًا من قوانين الطَّبيعة. إن أكثر ما يميز النيوكلاسيكيَّة هو ادعاؤها الٍحياد: حياد السُّوق، حياد الدَّولة، حياد العِلم. لكنها تجهل، أو تتجاهل عمدًا، أن كل علم هو نتاج اجتماعيّ وتاريخي، وأن افتراض "الحياد" لا يعني إلا إعادة إنتاج الأيديولوجيا السَّائدة في هيئة معادلات ورموز ودوال رياضيَّة. فالعقلانيَّة الَّتي تفترضها النيوكلاسيكية ليست إلا انعكاسًا لعقل بورجوازيّ يقدّس التبادُل، ويقيس كل شيء بمقياس المنفعة الفردية. فالتحليل النيوكلاسيكي ينطلق من فرضية مركزية: أن الإنسان، بغض النظر عن أي خصوصية اجتماعيَّة وتاريخيَّة، كائن يسعى إلى تعظيم منفعته ضمن قيود مفروضة عليه. وهكذا، يتحول الاقتصَاد إلى (عِلم!) للاختيار، وتختفي الأسئلة الجوهريَّة حول مَن يملك وسائل الإنتاج، ومن يُنتج، ومن يُستغل، لصالح أسئلة تقنية حول التَّخصيص الأمثل للموارد! هذا الهروب من التَّاريخ لا يُعبّر إلا عن خضوع النَّظرية لرغبة دفينة في استبعاد الصراع، وإنكار التناقض، وتجميل واقع تُهيمن عليه الرأسماليَّة. أما مفهوم التَّوازن الَّذي تحتفي به النظرية، فهو صورة أخرى من صور هذا الإنكار. فالسُّوق، في هذا النموذج، لا يعرف الفوضى، ولا يعرف الاحتكار، ولا يعرف البطالة البنيويَّة. التَّوازن هنا ليس إلا صورة مثاليَّة لعالم لا وجود له إلا في مخيلة المنظرين، أما الواقع، فشيء آخر تمامًا: واقع اللا مساواة، واقع الرأسمال الَّذي لا يكف عن مراكمة الثروة على حساب العمل. لقد جاء مارشال وڤالراس، مؤسسا التيار النيوكلاسيكي، بلغة جديدة حاولت أن تمنح العلم الاقتصَادي صفة "العلم الطبيعيّ". فلم يعُد الاقتصاد، وفق تصورهم، معنيًا بتحديد طبيعة القِيمَة أو أصل الربح، بل بتحليل السلوك الفردي. ومع ولادة هذا النموذج، بدأ الانزياح الكامل من الاقتصاد السِّياسيّ إلى "علم الاقتصَاد"، أو بالأحرى إلى علمٍ لا يقول شيئًا عن السياسة، ولا عن السلطة، ولا عن الطَّبقات. إن النيوكلاسيكية [التي تلقن في الجامعات بوصفها العلم الوحيد والصحيح تاريخيًّا!] هي في جوهرها محاولة لإنتاج اقتصاد بلا بشر، بلا صراع، بلا تاريخ. إنها الوجه الآخر لعقلانيّة تكنوقراطيَّة تُخفي مصالح الرأسمال وراء أقنعة المعادلات والرسوم البيانيَّة. وإذا كانت الماركسيَّة قد دعت إلى قلب الواقع لكشف التناقضات الكامنة فيه، فإن النيوكلاسيكية تُمارس نقيض ذلك: تغطي التناقضات، وتعيد إنتاج الواقع، وتُقدّمه بوصفه نهاية التَّاريخ. ومن ثم، فإن نقد النيوكلاسيكية لا يمكن أن يكون نقدًا تقنيًا أو جزئيًا، بل لا بد أن يكون نقدًا جذريًّا، حضاريًّا، يعيد الاعتبار للاقتصَاد السّياسي بوصفه علمًا للصراع، لا علمًا للوفاق الكاذب.
(2)
وفي بلادنا العربيَّة المنكوبة، حيث تلتقي مفارقةُ الفوضى التنظيميَّة مع تشدّد البيروقراطيَّة الجافة، صار التَّعليم جزءً من منظومة معقدة لإعادة إنتاج الجهل المنظَّم وتكريس الهيمنة الاجتماعيَّة والسياسيَّة. التَّعليم، الَّذي يفترض به أن يكون مِفتاحَ العقل الحر ورمزَ التحوُّل الحضاريّ، صار اليوم معملًا بيروقراطيًّا لإنتاج كائنات مفرغة من الفكر، مهيّأة للركوع التلقائيّ لكل سلطة، تُدرَّب لا على السُّؤال، بل على الصمت المُنظَّم. هذا التَّعليم الرَّسميّ لا يهدف إلا إلى تكريس الواقع الاجتماعيّ الطبقيّ، ويعمل جاهدًا من أجل ترسيخه؛ من خلال فرض ثقافة الطَّاعة الَّتي تتناقض جذريًا مع روح الفكر النقديّ. فكيف لمؤسسة تعتمد على التلقين والحفظ أن تُنتج حرية التَّفكير؟ إنّها صناعة زائفة تُعيد تدوير المعرفة الميتة وتفرض حدودًا صارمة على فضاء العقل، في حين تقدّم نفسها كصمام أمان للحضارة والتقدم. إن المدارس والجامعات (التي تعلم العلم الاقتصادي!)، والَّتي ينبغي أن تكون منابر للتحرّر الفكريّ، باتت مسارح لأداء متكرر وممسرح لآليات التلقين الَّتي تعيد إنتاج الفوارق الطبقية والهيمنة الرمزية. والمعيار، بالتَّالي، ليس الفهم ولا الإبداع، بل القدرة على تكرار النصوص المقدَّسة للسلطة كما يُتلى النَّشيد في حضرة الطغيان؛ إنها منظومة تُعيد تدوير العقل المستعمَر بأساليب لا تختلف كثيرًا عن تلك الَّتي ابتكرها المستعمِر لصناعة خَدَمه المخلصين! وفي مشهد مأساوي آخر، يتحول الْمُعلم إلى ضحية للنظام البيروقراطيّ ذاته؛ ومحرومًا من أدنى شروط العمل، يُطلب منه أن يُخرج أجيالًا من المتلقين الَّذين لا يحملون أكثر من شهادة مزخرفة بلا جوهر. فكم هو مثير للسخرية أن يُطلب من الْمُعلمين الَّذين يعانون من التهميش وقلة الإمكانيَّات، بل وقلة العلم نفسه، أن ينتجوا أجيالًا واعية، بينما هم أنفسهم أسيرون لثقافة القهر والرتابة. هذا هو التَّعليم الذي يُعيد إنتاج البطالة والتخلُّف، لأنه لا يبني سوى الوهم، ويزرع في النفوس ثقافة التردد والرضا بالقليل. إنّ التَّعليم في عالمنا الْعَربيَ المنكوب، يستند إلى فرضيَّة، مركزية، قوامها أن الأجيال القادمة مجرد أدوات للاستقرار السياسيّ، وليسوا مواطنين. تلك الفرضية تتحول إلى حقيقة مؤلمة حين نرى المناهج تُكرّس الذهنيَّة السلطوية، وتُجهّز العقول للاستسلام بدلاً من الثورة على الواقع المر. علينا إذًا أن نعيد التَّفكير الجذري في وظيفة التَّعليم وأدواته، فلا نهضة تُبنى على ركام الجهل المُقنَّن، ولا تحرّر يُولد من رحم الوصاية الفكرية. فالتَّعليم الَّذي لا يُحرّر العقل من سطوة السلطة، ولا يُشعل شرارة الشك الخلَّاق في الوعي، ليس إلا أداة لتعميم العجز وتدوير الانكسار. إنّه قيدٌ خفيّ، لا يُحسّ إلا حين يُصبح العقل عاجزًا عن السُّؤال. قيد لا سبيل لكسره سوى بإعادة تعريف التَّعليم كفعل تمرُّد على الرداءة، لا كوسيلة اندماج في نسق الخراب. فهل سنواصل إذًا السير في هذا الطريق المسدود، نُنتج المزيد من الجهل والامتثال تحت مسمَّيات براقة؟ أم أننا سنختار تحطيم القيود القديمة ونؤسس تعليمًا يكرّس الإنسان ويفتح له آفاق الحرية والخلق والإبداع؟ هذه هي معركة العقل والحضارة الَّتي لا يمكن أن نتهرب منها، لأنها محور خلاصنا أو استمرار مآسينا.
(3)
إن التَّعليم الجامعيّ، في تَجلّيه الحديث، لم يكن محْض انتقالٍ من "المَعْرفَة من أجْل المَعْرفَة" إلى "المَعْرفَة من أَجْلِ السُّوق"، بل كان دوْمًا أداةً من أدوَات السُّلْطة في صيغتها الأيديولوجيَّة؛ تُنْتجُ الوهْمَ كما تنْتج الشَّهادة، وتُخْضع العَقْل كما تخضع الجَسد. فمُنذ لحْظة انْبثاق الجامِعة كَكيان حداثيّ في أحشاء المدينة الأوروبيَّة الصَّاعدة، لم يكنْ غرضُها الأسمى تحرير العقْل، بل إعادة إِنْتاج البنْية الاجتمَاعية السَّائدة، وتَثبيت تَقسِيم العمل الاجتماعيّ، وترْسيخ الأَساطير المعَاصرة للشَّرعيَّة العلميَّة! فالجامِعة الحدِيثة ليست مؤسَّسة حياديَّة، بل هي تعبيرٌ مركَزيٌّ عن روحِ الحضَارة الرَّأْسماليَّة؛ تلْك الَّتي لا ترى في الإِنْسان إِلَّا رأْسْمالًا بشريًّا، وفي المعْرفَة إِلَّا مدْخلًا للإِنْتاج، وفي العَقل إِلا أدَاةً للْحسَاب. وإنْ كانتِ الكَنيسَةُ في العُصور الوسْطى قد حكَمت باللَّاهُوت، فإنَّ الجَامعةَ اليوْم تحْكُم بالتَّصْنيفات الأَكاديميَّة، ومعايير الجوْدَة، ومَقَاييس النَّشْر، وتمنح ما يُشبه ختم المشروعية الحديث: الاعتماد! وليس من قبيل المصادَفة أنْ تتحوَّل الجامعَاتُ في الأطْرافِ، في عالمِنا العَرَبيّ مثلًا، إلى نُسَخٍ مُشوَّهَة من مراكزِها الغربيَّة؛ حيث تُسْتورَد البرامج كما تُستورَد السّلعُ، ويُعَاد إنْتاج الجَهْل في صُورة الحداثَة، ويُلقَّن الطَّالب "المناهج" كما يُلَقَّن العَامل تَعْليمَات المَاكينة. فكما أنَّ الاقْتصادَ التَّابع لا يُنْتج إِلَّا التبعيَّة، فإنَّ الجامعة التَّابعة لا تُنتجُ إلَّا الاسْتلاب! إنَّ المطلُوب اليوم ليس إِصلاحًا إداريًّا للجامِعة، بل نقدًا جذريًّا لوظيفتها، وتفكيكًا لبنيتها، وكشفًا عن نسبها الحضاريّ. علينا أنْ نتحرَّر من وهْم أنَّ الجَامعة معنيَّةٌ بتحرير العقُول، وأنْ ندرك أنَّها، بهياكلهَا وطرُقها ومنَاهجها، جزءٌ من منظومَة السَّيطرة؛ تُنتجُ الاخْتصاصيَّ المُنضبط لا المُفكر الحُرَّ، وتدرّبُ على الطَّاعَة وتُهمّش الخَلْق، وربما سفهته وعاقبت عليه. الجامعَةُ، بهذا المعنى، ليْسَت بيت العلم، بل بيْت الطَّاعَة!
خاتمة
ليست الأزمة البيداجوجيَّة للاقتصاد السياسي إذًا عرضًا عابرًا، بل تجلٍ لبنيةٍ أعمق، حيث تتشابك المعرفة والسلطة في رقصةٍ قديمة من الهيمنة. فما يُدرَّس باسم "العلم" ليس إلا إعادة إنتاج لموقع الرأسمال، وتكريس لشرعية السُّوق كقدرٍ محتوم. وفي جامعاتٍ تُشبه مصانع صامتة، يُصاغ العقل على مقاس الطَّاعة، وتُصنَّف الشهادات كأوراق اعتماد في مزاد الامتثال. إن تحرير الاقتصاد السّياسي من أسر النيوكلاسيكية، وتحرير التَّعليم من عباءة الوصاية، ليس رفاهًا فكريًّا، بل ضرورة حضارية. فإمّا أن نعيد للعقل حقَّه في السُّؤال والصراع، وإما أن نستمرّ في تدوير العجز بأدواتٍ تبدو علميَّة، وهي في جوهرها أدوات قمع.
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟