محمد عادل زكى
الحوار المتمدن-العدد: 8358 - 2025 / 5 / 30 - 03:14
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
لم ينتج رامساي عِلمًا، بل أعاد إنتاج خطاب سائد، لم يكن مفكرًا، بل كان "مدرّسًا". بمعنى: الإعادة، لا الإبداع. النقل، لا الخلق. تثبيت الموجود، لا خلخلته. لقد جاء رامساي في لحظة كانت فيها الرأسماليَّة الإنجليزية تُعاني من فائض نشاط، وفائض عُنف، وفائض سلع. فكان هو مَن تولّى وظيفة "المؤسّس الخطابيّ" لهذا الفائض. أي أنه لم يكن مفكرًا في الرأسماليَّة، بل مفكرًا من داخلها، بل بها، بل... لها. ومنذ كتاباته الأولى، بدا رامساي مأخوذًا بهاجس "التَّجريد"، لا التَّجريد الَّذي يحرّر الْفكرة من تاريخها الكَاذب، بل التَّجريد الإحصائيّ الَّذي يفصل الإنْسان عن العالم، ويحوّل الْعملية الإنتاجيَّة إلى عملية حسابيَّة صمّاء. لقد أراد أن يصنع من الاقتصاد علمًا طبيعيًّا، كما هو نيوتن في الفيزياء، أو لافوازييه في الكيمياء. فكانت النتيجة علمًا بدون حياة، بدون بشر، بدون صراع. كان يكتب عن الأجور كما لو كانت قانونًا فيزيائيًا بحتًا، وعن الفقر كما لو كان اختيارًا أخلاقيًا، وعن السُّوق كما لو كانت تجليًا لإرادة إلهية لا تُناقش. ولا يُمكن فهم رامساي إلا في ضوء الْوظيفة الَّتي قام بها: المنظر لما بعد ريكاردو. أي ذاك الَّذي أخذ النَّص الرَّأسماليّ، الموشوم بالتناقضات، وحاول تجهيزه ليُصبح كتابًا مدرسيًّا. لم يكتب "نقد الاقتصَاد السّياسي"، بل كتب الاقتِصَاد السّياسيّ كنقد مُضاد للواقع، وكآلية دفاع عن الرَّأسمالية لا عن الإنْسان. إنه ابن أمين للمنطق البرجوازيّ: يَجمع، يُبسط، يُصنّف، يُقنن، لكنه لا يُشكك، لا يُمزّق النَّص، لا يُثير السُّؤال المؤسّس: ما الَّذي يُخفيه هذا العِلم المسمى"اقتِصَادًا سياسيًّا"؟ ومن أجل مَن يُصاغ؟ وإذا كان ريكاردو قد وُصف بأنه عبقريّ من طرازٍ فريد، فإن رامساي كان موظفًا بارعًا. أخذ مفهوم القِيمة، وفككه من ماديته، وعزله عن العمل، ثم صفاه من الصراع الاجتماعيّ، وتركه مجرَّد رقم في جدول إحصائيّ لمن سيأتي من اقتصادويين لا يرون الْعالم إلا من عدسة الطلب والعرض. لم يكتب رامساي أبدًا عن الهدر، عن المسروق، عن القِيمة الزَّائدة، عن القهر المنظم باسم السُّوق، عن استعمار الْأرض والعقل، عن الأيديولوجيا الَّتي تُخفى داخل الأرقام. لم يكتب شيئًا من هذا، لأنه لم يكن يرى شيئًا من هذا، أو رآه وتجاهله، وهو أسوأ. الحقيقة أن رامساي ليس شخصًا من أشخاص تاريخ التَّحليل الاقتِصَاديّ بقدر ما هو ظاهرة: الظَّاهرة الَّتي تنتجها الأكاديميَّة حين تتحول إلى أداة في يد السلطة، حين يُستبدل سؤال الْوجود بسؤال الثمن، حين يُختزل الْعمل إلى وظيفة، والْوظيفة إلى رقم، والرقم إلى مبرر للظلم. رامساي هو صوت الطَّبقة حين تتنكر في ثياب"المنهج الْعلميّ". وحين يقرأه القارئ الْيوم، فلن يجد عنده سوى التكرار، وإرادة التَّبرير، وغياب السُّؤال.
#محمد_عادل_زكى (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟