محمد عادل زكى
الحوار المتمدن-العدد: 8349 - 2025 / 5 / 21 - 15:25
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
إننا لا نعيش داخل نظام رأسمالي يمر بأزمة؛ بل نعيش داخل أزمة تحوّلت إلى نظام، إلى بنيةٍ خانقة، إلى هندسةٍ مُعولمة للخراب. لقد تخلّت الرأسماليَّة عن مهمتها الأصلية في إنتاج الثروات، لتتحوّل إلى ماكينة هائلة لإنتاج العدم، تزيّنه بمؤشرات، وتسوّقه بمصطلحات، وتفرضه كقدرٍ نهائي. إنها لا تُراكِم سوى أنقاض: أنقاض العمل، أنقاض الطبيعة، أنقاض الزمن، وأنقاض الإنسان نفسه. لم تَعُد قوة إنتاج بل صارت آلة مصٍّ كونية، لا تتغذى إلا على الفقد: تمتص دم الكادحين، عرق النساء، ماء الأنهار، رئة الغابات، وتُسمّي ذلك "نموًّا". فالرأسماليَّة لا تحكم العالم، بل تخنقه. لم تَعُد علاقة استغلال فقط، بل تحوّلت إلى منظومة اغتراب شامل، تنزع عن الإنسان إنسانيته، وتفرّغ الزمان من تاريخه، والمكان من معناه، والطبيعة من روحها. لم تَعُد السلعة شيئًا يُنتَج، بل أصبحت هي التي تُنتج الإنسان، تعيد تشكيله وفق مقاييس القيمة التبادليَّة، لا وفق الضرورة الاجتماعية أو الكرامة الإنسانية. الدولار لا يرمز إلى عمل اجتماعي مختزن، بل إلى سيادة العدم، إلى تحوّل القيمة إلى طغيان، والنقد إلى أداة استعمار زمني. الأسواق لا تُنظم الإنتاج، بل تُعيد تنسيق الخراب، وتُضفي عليه طابعًا احترافيًّا. أما المؤسَّسات المالية العالمية، فهي معابد ما بعد دينية، تُبشّر بالخلاص عبر جحيم "الإصلاح الهيكليّ"، وتمنح الغفران عبر مؤشرات العبودية. العالم اليوم لا ينهار، بل يتعفّن. فائضٌ في كل شيء: إنتاج، مال، تكنولوجيا، يقابله نقصٌ مطلق في المعنى، في الكرامة، في الحب، في العدالة. كيف يمكن لعالم يفيض بكل شيء، أن يعجز عن تأمين سقف لمشرّد، أو دواء لمريض، أو كتاب لطفل؟ الجواب: لأن ما يُنتَج ليس من أجل الإنسان، بل من أجل القيمة الزَّائدة، من أجل أرباح تُراكم فوق رُكام. لقد استهلكت الرأسمالية المعاصرة كل شيء: استهلكت الإنسان والطبيعة، والتاريخ والمعنى، وحتى الأمل. إنها لم تَعُد قادرة على البقاء، لأن شروط بقائها قد نُهبت. لم تَعُد قادرة على التقدُّم، لأن التقدم لديها يعني تسارع الدمار. نحن نعيش نهاية زمن، لا كنهاية تُدوَّن في كتب التاريخ، بل كاحتضار يمتد، كظلٍّ جاثم لميتٍ في مرآة العدم. سقوط الرأسمالية المعاصرة لن يأتي عبر الانهيار المالي، بل عبر يقظة تاريخية، تُدرِك أن الإنسان ليس آلةً للإنتاج، ولا كائنًا استهلاكيًّا، بل روحٌ حُرّة، وأن القيمة لا تُقاس بالنقد، بل بالحياة نفسها.
#محمد_عادل_زكى (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟