أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - محمد عادل زكى - من بابل إلى لانكشير: تاريخ مقنّن للسيطرة














المزيد.....

من بابل إلى لانكشير: تاريخ مقنّن للسيطرة


محمد عادل زكى
(Muhammad Adel Zaky)


الحوار المتمدن-العدد: 8400 - 2025 / 7 / 11 - 02:14
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


لم ينفك نقدي للاقتصَاد السّياسيّ عن إدراكي لماهية الحداثة َّ جرى تسويقها ابتداءً من هيمنة المركزية الأوروبيَّة على الذهن العربي، بوجه خاص، عبر أربعة قرون من التغلغل في بنية هذا الذهن الَّذي أصابته تلك الحداثة بلوثة عقلية. فالحداثة الأوروبيَّة لم تكن كشفًا، بل ادّعاءً. لم تكن لحظة وعي، بل لحظة استحواذ؛ لحظة قرر فيها المنتصر أن يروي القصة من جديد: بلغته، بقيمه، بثقافته، وبمقاييسه، ثم فرضها على العالم بوصفها البداية. وما قُدّم للعالم على أنه "الحداثة" لم يكن سوى شكل من أشكال السيطرة: نظام رمزي يُجمّل العنف، ويُعيد تنظيم المعنى لصالح من يملكون القوة. لكن هذه ليست المرة الأولى في التَّاريخ الَّتي تظهر فيها مثل تلك الحداثة. لقد ظهرت من قبل، وفي مواضع متعددة، كلما نشأ نمط من السيطرة، وكلما خضعت عمليات الإنتاج والتوزيع لمنطق الرَّأسمال. نعم، ما من "حداثة" إلا وكانت في خدمة منطق التراكم، وما من "عقل" جديد إلا وكان الوجه الآخر لنظام إنتاج جديد. ولذلك، فليست الحداثة الأوروبيَّة لحظة خارقة في التَّاريخ ، ولا الرأسماليَّة اختراعًا غربيًا كما حكت لنا أوروبا. كلاهما تجلٍّ حديث لقاعدة أقدم، قاعدة ما فتئت تتحكم في العلاقات البشريَّة منذ أن بدأ الإنسان يُنتج ويُوزّع ويُخضع العالم لمتطلبات بقائه وتوسّعه. أوروبا لم تخلق الرأسماليَّة، بل ورثتها، وأعادت إنتاجها، وصدّرتها، لا بوصفها من إنتاجها الحصري، بل كقدر لا مفرّ منه. وهنا يكمن الخداع الأكبر. فما من مجتمع بشري ظهر على وجه الأرض إلا واضطر إلى تنظيم إنتاجه وتوزيعه. وما من تنظيم للإنتاج والتَّوزيع إلا ووقع، بدرجة ما، تحت منطق مفروض عليه: منطق يحدد مَن يعمل، وماذا يُنتج، ولمن، وبأي وسيلة. هذا المنطق ليس محايدًا، بل تحكمه قوانين حركة تتجاوز إرادة الأفراد، وتعيد ترتيب الزمن والموارد والأجساد بما يخدم استمراريته. بهذا المعنى، لا تبدأ الرأسمالية في القرن السَّابع عشر، ولا في مصانع لانكشير، ولا على يد البرجوازيَّة الأوروبيَّة . بل هي، في جوهرها، قاعدة حاكمة منذ أن وُجد إنتاج فائض وتوزيع غير متكافئ، ومنذ أن صار العمل سلعة، والزمن وحدة قياس، والإنسان طاقة قابلة للاستنزاف. فالرأسماليَّة ليست شكلًا من أشكال الحكم، بل منطقًا يسري في البنية، ويتخفّى تحت أشكال متعددة من التنظيم الاجتماعي، سواء كانت إمبراطوريات دينيَّة، أو أنظمة ملكية، أو بيروقراطيات تجارية. إن الخلط بين "قوانين حركة الرَّأسمال" وبين "شكل التَّنظيم الاجتماعي" هو ما جعل الكثيرين يتوهمون أن الرأسمالية حديثة النشأة، أو أنها اختراع أوروبيّ خالص. لكن الحقيقة أن أوروبا، حين دخلت هذا المنطق، لم تُنتجه، بل ورثته، وطوّرته، وألبسته لبوسًا رمزيًا جديدًا، ثم قدّمته للعالم باسم "الحداثة". إن الرأسماليَّة لا تبدأ حين تُصنّع الآلة، بل حين يُختزل الإنسان في كلفة إنتاجها. ولا تبدأ حين تظهر الأسواق، بل حين تُحوَّل كل علاقة إلى علاقة تبادل تحكمها القيمة. وهذا ما عرفته الحضارات القديمة، قبل أوروبا بزمن طويل. ففي بابل القديمة، لم تكن القوانين تُنظّم فقط العلاقات الاجتماعيَّة، بل تحدد أيضًا ثمن العمل، والفائدة، والعقود، والملكية، والإنتاج. كانت الأسواق موجودة، وبيع قوة العمل موجود، وكان المال وسيلة تبادل، وكان هناك تراكم للفائض. الأهم من ذلك، كان هناك تنظيم صارم يُعيد توزيع الفائض لصالح نخبة محددة. ومن هنا، كانت حداثة بابل لحظة عقلنة رمزية لمنطق التراكم: تقنين الاستغلال، وتبريره، وتنظيمه باسم القانون، بوصفه جزءًا من النظام الطبيعي للعالم. وفي العصر الذهبي الإسلاميّ، كانت هناك عقلانية من نوع آخر: عقلانية شرعية، فقهية، وتجارية، تنظّم السوق، تشرّع العقود، وتضبط علاقات الإنتاج، لكن دائمًا بما يخدم توسّع التراكم داخل الدولة الإسلامية. لم يكن العقل الاقتصادي غائبًا، بل كان حاضرًا ومقنّنًا ومهيمنًا على الخطاب، وإن كان متخفيًا تحت عباءة الفقه. لقد كانت هناك حداثة إسلامية خاصة، تنظر إلى الإنسان كفاعل اقتصادي، وتنظم العلاقات الاجتماعية وفق منطق دقيق لتوزيع الثروات، دون أن تُخرج الإنسان من موقعه كوسيلة إنتاج، حتى وإن كان ذلك مقنّعًا بمفردات دينية أو أخلاقية. كل هيمنة تاريخية أنتجت "حداثتها": أعادت تنظيم اللغة، والعقل، والزمن، بما يخدم استمرار السيطرة. لم تكن أوروبا أول من فعل ذلك، لكنها كانت الأولى الَّتي قدّمت سرديتها بوصفها السردية الوحيدة، وادّعت أن حداثتها ليست أداة قوة، بل وعيًا يتجاوز كل الثقافات السابقة. ولهذا، فإن الحداثة الأوروبيَّة لم تكن فقط لحظة تطور رأسمالي، بل لحظة اغتصاب رمزي للزمن ذاته: لحظة أُرّخ فيها العالم كله ابتداءً من انتصار أوروبا. لم تكن الحداثة، كما قُدّمت لنا، مشروعًا تحرريًا، بل كانت جهازًا رمزيًا يعمل لصالح تراكم الرأسمال الأوروبي. لم يكن "العقل" الَّذي بشّرت به حداثة أوروبا نقديًا، بل حسابيًا؛ أما العلم الَّذي صدّرته، فلم يكن تحرريًا، بل وظيفيًا صارمًا، يُقيس كل شيء، ويُخضع كل شيء، دون أن يُسائل شيئًا. لقد قدّمت الحداثة الأوروبيَّة نفسها على أنها النهاية، وعلى أنها القانون، بينما هي ليست أكثر من لحظة من لحظات السلطة؛ لحظة اكتملت فيها الرأسمالية كمنظومة، واحتاجت إلى خطاب يُجمّلها، ويُخفي قسوتها خلف شعارات الحرية والعقل. أنا لا أرفض الحداثة لأنني أشتاق إلى ما قبلها، بل لأنني أدرك أنها لم تكن قدرًا، بل خيارًا سلطويًا تم تقديمه على أنه تطور طبيعي. والَّذين يقاومون الرأسماليَّة بلغتها، يعيدون إنتاجها. والَّذين يتحدثون عن التقدّم دون أن يُسائلوا البنية الَّتي تنتجه، يخدمون السوق من حيث لا يدرون. الرأسمالية لا تحتاج إلى مزيد من المؤيدين، بل إلى معارضين يتكلمون بلغتها. وهنا مكمن الخطر. إن المعركة ليست بين تقليد وحداثة، بل بين منطق الهيمنة ومنطق التحرر.



#محمد_عادل_زكي (هاشتاغ)       Muhammad_Adel_Zaky#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أزمة الماركسية في العالم العربي
- صدمة الحداثة
- الرأسمالية كحضارة نفي: حين يحكم الربح مسار الإنتاج
- الأزمة البيداجوجية للاقتصاد السياسي
- الإصلاح الاقتصادي: لحظة من لحظات الهيمنة
- مَن يربح حين نموت؟ الإمبرياليَّة تُجيب
- القانون: شرعنة القهر الرأسمالي الحديث
- قفاز حريري يُخفي مخالب من حديد
- نهب القارة الأفريقية: جرحٌ نازفٌ في جسد التَّاريخ والإنسانيّ ...
- الاقْتِصَاد السِّياسيّ: تحطيم المركزيَّة وبناء الإنسانيَّة
- أطلال الحضارات المغدورة: أمريكا اللاتينيَّة في ظل الهيمنة ال ...
- في التَّاريخ الذي كُتب بالذهب والدم: نقد المركزيَّة الأوروبي ...
- الهيمنة بالفائدة: الرأسمالية حين تُدير العالم كخزينة خاصة
- هيمنة التداول وأزمة الاقتصاد المتخلف
- الآلهة الجديدة: الرَّأسمال، والسُّوق، والإمبرياليَّة
- رامساي (1789- 1864)
- خدعة البريكس: قراءة نقدية في وهم الاقتصاد السياسي الجديد
- استبداد السلطة في الأنظمة العربية: جدلية القمع والتخلف
- عن التخلُّف وإعادة إنتاجه
- في مواجهة الاقتصاد النفطيّ المُقدّس


المزيد.....




- أسرار وتوابيت ملوّنة ورقص مبهج... دهشة الجنائز في غانا
- غزة: مفاوضات وقف إطلاق النار تواجه -تعثرا وصعوبات نتيجة إصرا ...
- مسؤولان في -حماس- يكشفان لـCNN سبب تعثر محادثات غزة و-العقبة ...
- الجيش اللبناني يعلن توقيف عشرات السوريين ومداهمة مخيمات لهم ...
- خامنئي يهدّد بتكرار -صفعة العديد-: إيران قادرة على ضرب العمق ...
- رقصة الأقزام تعود إلى لا بالما بعد عشر سنوات ونساء يشاركن لل ...
- مع اقتراب الحرائق من الحدود.. سوريا تغلق معبر كسب مع تركيا
- القضاء الفرنسي يوسّع تحقيقاته مع منصة -إكس- بشأن إساءة استخد ...
- الاحتلال يقصف خيام نازحين بغزة واتهامات أممية بمواصلة قتل ال ...
- إعلامي أميركي يلمّح إلى تورط إسرائيل في فضيحة جيفري إبستين


المزيد.....

- السيرة النبوية لابن كثير (دراسة نقدية) / رحيم فرحان صدام
- كتاب تاريخ النوبة الاقتصادي - الاجتماعي / تاج السر عثمان
- كتاب الواجبات عند الرواقي شيشرون / زهير الخويلدي
- كتاب لمحات من تاريخ مملكة الفونج الاجتماعي / تاج السر عثمان
- كتاب تاريخ سلطنة دارفور الاجتماعي / تاج السر عثمان
- برنارد شو بين الدعاية الإسلامية والحقائق التاريخية / رحيم فرحان صدام
- الانسان في فجر الحضارة / مالك ابوعليا
- مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات ... / مالك ابوعليا
- مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا ... / أبو الحسن سلام
- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - محمد عادل زكى - من بابل إلى لانكشير: تاريخ مقنّن للسيطرة