|
|
الجنوب يتحرّر والمركز يتفكّك(كتيب )..مقارنات سمير امين مع بريجينسكي وكيسنجر وماركس ..
احمد صالح سلوم
شاعر و باحث في الشؤون الاقتصادية السياسية
(Ahmad Saloum)
الحوار المتمدن-العدد: 8533 - 2025 / 11 / 21 - 00:11
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
مقدمة الكتيب
استدعاء الغائب الحاضر
يطلّ علينا ، اليوم ، اسم سمير أمين كطيفٍ فكري لا يغيب. رحل الجسد، لكن الأفكار بقيت كجمرٍ تحت الرماد، تنتظر من ينفخ فيها لتضيء دروب الفهم. لو كان أمين بيننا اليوم، لكان قد رفع صوته مجدداً محذّراً من "الطريق المسدود" الذي تسلكه الرأسمالية المعولمة، ولأعاد صياغة نبوءاته حول التبعية، والهيمنة، وانسداد آفاق التنمية في الجنوب العالمي. هذه المقدمة ليست مجرد استعادة لسيرة مفكر، بل محاولة لفتح حوار حيّ بينه وبين أساتذته ومجايليه: بين ماركس الذي وضع الأسس، وبريجينسكي وكيسنجر الذين صاغوا استراتيجيات القوة، وبين أمين الذي أعاد قراءة العالم من موقع الأطراف المهمّشة.
بين ماركس وأمين –
من الصراع الطبقي إلى الصراع بين الأمم ماركس رأى في الرأسمالية وحشاً يتغذى على فائض القيمة، ويعيد إنتاج التناقضات داخل المجتمعات. أمين، وهو تلميذ وفيّ لكنه متمرّد، وسّع دائرة التحليل: لم يعد الصراع محصوراً بين العامل والرأسمالي، بل بين المركز الإمبريالي والأطراف المستنزفة. - عند ماركس، التاريخ هو تاريخ صراع الطبقات. - عند أمين، التاريخ الحديث هو أيضاً تاريخ صراع بين الأمم، بين شمالٍ يراكم الثروة وجنوبٍ يُستنزف بلا رحمة.
هنا تتبدّى عبقرية أمين: لقد أخذ الماركسية من قلب أوروبا، وزرعها في تربة الجنوب، لتصبح أداة لفهم التبعية، لا مجرد تفسير للتناقضات الداخلية. ومع ذلك، ظلّ أمين مختلفاً عن أندريه غوندر فرانك، الذي رأى أن التبعية بنية مغلقة لا فكاك منها. أمين، على العكس، آمن بـ"فك الارتباط" التدريجي، أي بناء مسارات تنموية مستقلة دون الانعزال الكامل عن الاقتصاد العالمي.
بريجينسكي وكيسنجر –
استراتيجيات القوة في مواجهة نقد الأطراف في المقابل، كان المفكران الأمريكيان زبيغنيو بريجينسكي وهنري كيسنجر يقرآن العالم من زاوية مختلفة تماماً. - بريجينسكي اعتبر أن السيطرة على أوراسيا هي مفتاح الهيمنة العالمية، وأن الجغرافيا السياسية هي قدر الإمبراطوريات. - كيسنجر، ببراغماتيته الشهيرة، ركّز على فن إدارة القوة، وعلى التوازنات الدقيقة بين الدول الكبرى.
أما أمين، فكان يرى أن هذه الاستراتيجيات ليست سوى أقنعة تخفي حقيقة أعمق: استمرار نهب الأطراف لصالح المركز. لو كان حياً اليوم، لقرأ الحرب الروسية–الأوكرانية، وصعود الصين، وأزمات الطاقة والمناخ، باعتبارها تجليات لصراع المركز والأطراف، ولأشار إلى أن ما حذّر منه منذ عقود حول "أزمة العولمة" قد بدأ يتحقق أمام أعيننا.
نبوءات تتحقق
من بين توقعات أمين التي نراها اليوم ماثلة: - أزمة العولمة النيوليبرالية: حيث تتراجع الثقة في الأسواق المفتوحة، ويعود الحديث عن السيادة الاقتصادية. - صعود الصين والهند: كقوى تسعى إلى كسر احتكار الغرب، وهو ما يتوافق مع رؤيته حول إمكانية الأطراف الكبرى أن تتحول إلى مراكز بديلة. - تفاقم التفاوتات الاجتماعية: إذ تتسع الفجوة بين الأغنياء والفقراء داخل الدول وفيما بينها، وهو ما كان أمين يحذّر منه بوصفه نتيجة حتمية للرأسمالية المعولمة. - أزمة المناخ: التي لم تكن في صلب تحليلاته الأولى، لكنها تنسجم مع منطقه العام حول استنزاف الموارد الطبيعية لصالح المركز.
هكذا، يبدو أن التاريخ يكتب فصوله وفقاً لسيناريوهات رسمها أمين منذ عقود، وكأن الزمن يبرهن على بصيرته.
اختلافات داخل المدرسة الماركسية العالمية
لم يكن أمين صوتاً منفرداً، بل جزءاً من جوقة نقدية عالمية: - أندريه غوندر فرانك: شدّد على أن التبعية بنية مغلقة، بينما أمين رأى إمكانية فك الارتباط التدريجي. - إيمانويل والرشتاين: قدّم نظرية "النظام العالمي"، التي تتقاطع مع أمين في فكرة المركز–الأطراف، لكنها تختلف في التركيز على الاقتصاد السياسي العالمي أكثر من الاستراتيجيات الوطنية. - المفكرون الأمريكيون الواقعيون: مثل كيسنجر، الذين ركّزوا على إدارة القوة، بينما أمين ركّز على نقد البنية الاقتصادية التي تجعل هذه القوة ممكنة.
بهذا المعنى، يشكّل أمين حلقة وصل بين الماركسية الكلاسيكية والتحليلات المعاصرة، وبين النقد الاقتصادي والتحليل الجيوسياسي، مما يجعل إعادة قراءة أفكاره اليوم ضرورة لفهم مآلات السياسة والاقتصاد العالميين.
خاتمة المقدمة هذه المقدمة ليست مجرد كلمات افتتاحية، بل دعوة إلى رحلة فكرية في عالمٍ يتأرجح بين الهيمنة والمقاومة، بين المركز والأطراف، بين نبوءات تتحقق وأخرى تنتظر. سمير أمين، في حواره مع ماركس وبريجينسكي وكيسنجر وفرانك، يظل شاهداً على أن الفكر النقدي لا يموت، بل يتجدد مع كل أزمة، ويمنحنا أدوات لفهم عالمٍ يزداد تعقيداً يوماً بعد يوم.
…….
قراءة معمّقة في خمسة أسئلة تاريخية من منظور سمير أمين وزبيغنيو بريجينسكي (نوفمبر 2025)
السؤال الأول: هل نشهد فعلاً انهيار «الثالوث الإمبريالي» (أمريكا-أوروبا الغربية-اليابان)؟
سمير أمين كان سيجيب بلا تردّد: نعم، وهذا الانهيار ليس «أزمة دورية» داخل الرأسمالية، بل انهيار هيكلي للنظام الإمبريالي الجماعي الذي وُلد بعد 1945. الثالوث لم يعد قادراً على ضمان ثلاث وظائف أساسية كان يؤديها للرأسمالية العالمية: 1. السيطرة على تدفّق القيمة الزائدة من الأطراف إلى المركز، 2. التحكّم في مصادر الطاقة والمواد الأولية، 3. فرض قانون القيمة العالمي بالقوة العسكرية والمالية.
كل وظيفة من هذه الوظائف انهارت: الديون الأمريكية تجاوزت 35 تريليون دولار، أوروبا فقدت الغاز الروسي الرخيص وأصبحت تابعة طاقوياً لواشنطن، اليابان تذوب ديموغرافياً واقتصادياً. أمين كان سيقول: «هذا ليس تراجعاً مؤقتاً، بل نهاية مرحلة تاريخية كاملة بدأت مع الاستعمار الأوروبي وانتهت مع تفجير نورد ستريم وصعود بريكس+».
بريجينسكي، لو كان حياً، كان سيرى الأمر بشكل مختلف تماماً. في كتابه «لوحة الشطرنج الكبرى» (1997) حذّر من أن الخطر الأكبر على الهيمنة الأمريكية ليس صعود قوة منافسة واحدة، بل «تحالف أوراسي» يضم روسيا والصين وإيران ودولاً أخرى قادر على إخراج أمريكا من القارة الأوراسية. في 2025، هذا التحالف موجود فعلاً: روسيا توفر الطاقة والسلاح، الصين توفر السوق والتكنولوجيا، إيران توفر العمق الاستراتيجي. بريجينسكي كان سيقول: «لقد خسرنا المعركة على لوحة الشطرنج».
السؤال الثاني: هل الصين تمارس إمبريالية جديدة؟
سمير أمين كان سيرد بقوة: لا، والادعاء بأن الصين «إمبريالية جديدة» هو خطاب إيديولوجي غربي لإخفاء انهيار النظام القديم. الصين هي أول دولة كبرى في التاريخ الرأسمالي تنجح في الانفصال النسبي عن قانون القيمة العالمي دون أن تصبح مركزاً إمبريالياً جديداً. هي لا تُصدّر رأس مال مالي طفيلي، بل رأس مال إنتاجي وبنية تحتية. هي لا تفرض شروطاً استعمارية، بل تقايض تكنولوجيا وبناء مقابل موارد. أمين كان سيقول: «الصين لا تُعيد إنتاج التبعية، بل تُنهيها جزئياً، وهذا ما يُرعب الغرب».
بريجينسكي كان سيعارض بشدة. بالنسبة له، الصين هي القوة الوحيدة القادرة على تحدي الهيمنة الأمريكية على المدى الطويل. مبادرة الحزام والطريق، في نظره، ليست تعاوناً تنموياً، بل محاولة لبناء «كتلة أوراسية» مغلقة تُخرج أمريكا من آسيا وأفريقيا. هو كان سيقول: «إذا نجحت الصين في ربط أوراسيا بشبكة طرق وسكك حديدية وموانئ تحت سيطرتها، فستكون قد فازت باللعبة قبل أن تبدأ الحرب».
السؤال الثالث: ما طبيعة التحالف الروسي-الصيني؟
سمير أمين كان سيراه تحالفاً تاريخياً بين دولتين نجحتا، كل بطريقتها، في الانفصال عن التبعية: الصين بانفصال اقتصادي-إنتاجي، روسيا بانفصال عسكري-طاقوي. هذا ليس «محور شر» ولا «إمبرياليتان جديدتان»، بل دولتان شبه طرفيتان ترفضان أن تُمحيا. أمين كان سيقول: «هذا التحالف ليس هجومياً، بل دفاعي-استراتيجي. هو يُشكل درعاً للأطراف ضد محاولات المركز القديم استعادة السيطرة بالقوة».
بريجينسكي كان سيرى الأمر ككابوس جيوسياسي. بالنسبة له، التحالف الروسي-الصيني هو الخطر الأكبر على الإطلاق، لأنه يجمع بين القوة العسكرية-الطاقوية الروسية والقوة الاقتصادية-التكنولوجية الصينية. هو كان سيقول: «إذا استمر هذا التحالف عشر سنوات أخرى، فستصبح أمريكا قوة إقليمية في نصف الكرة الغربي فقط».
السؤال الرابع: ماذا عن صعود الجنوب العالمي وبريكس+؟
سمير أمين كان سيبتسم ابتسامة عريضة. بريكس+ في 2025 (11 دولة تمثل 47% من سكان العالم و38% من الناتج العالمي بالقوة الشرائية) هي الشكل التنظيمي الأول لـ«الأممية الجديدة للشعوب». ليست منظمة إمبريالية جديدة، بل جبهة انفصال جماعي عن الهيمنة الغربية. أمين كان سيقول: «هذه أول مرة منذ باندونغ 1955 يتحدث الجنوب بلغة السيادة لا لغة الاستجداء».
بريجينسكي كان سيرى في بريكس+ تهديداً وجودياً. هو كان يحذر منذ 1997 من أن أي تحالف يضم روسيا والصين والهند وإيران سيُشكل «كتلة مناهضة للهيمنة» قادرة على كسر احتكار أمريكا على النظام المالي والعسكري العالمي. في 2025، هذا التحالف موجود، ويرفض العقوبات الأحادية، ويُنشئ بنك تنمية جديداً، ويُسعّر النفط باليوان والروبل. بريجينسكي كان سيقول: «لقد خسرنا».
السؤال الخامس: إلى أين نحن ذاهبون؟ فوضى طويلة أم عالم جديد؟
سمير أمين كان سيجيب بجملته الشهيرة: «المستقبل ليس مكتوباً، إنه معركة». اللحظة الحالية هي فجوة تاريخية نادرة يمكن للشعوب في الأطراف أن تنتزع فيها السيادة الحقيقية، بشرط أن تتجاوز الرأسمالية نفسها. إذا فشلت، فإن رأسمالية طرفية جديدة (صينية-هندية-برازيلية) ستُعيد إنتاج الاستقطاب بشكل أكثر قسوة.
بريجينسكي كان سيقول شيئاً مختلفاً تماماً: «إذا لم نوقف التحالف الأوراسي الآن، فسنخسر القرن كله». لكنه كان سيعترف، في لحظة صدق نادرة، بأن أمريكا لم تعد تملك الأدوات لفعل ذلك. كان سيقول: «لقد انتهى زمن الهيمنة الأحادية، والسؤال الآن هو: هل سنقبل عالماً متعدد الأقطاب، أم سنحارب حتى النهاية ونأخذ العالم معنا إلى الهاوية؟».
في النهاية، يلتقي العالِمان في نقطة واحدة رغم كل التناقض: كلاهما يرى أننا في لحظة تحول تاريخي عميق. أمين يراها فرصة تحرر. بريجينسكي يراها تهديداً وجودياً. لكن كلاهما يتفق على أن النظام القديم انتهى، وأن ما سيأتي بعده لن يكون امتداداً له، بل شيئاً مختلفاً تماماً.
الفرق الوحيد هو أن أمين كان سيقول: «هذه فرصتنا». وبريجينسكي كان سيقول: «هذه كارثتنا».
التاريخ، كالعادة، لن يسأل رأي أي منهما. سيسأل الشعوب. وسيكتب الشعوب الإجابة بدمائها وأحلامها.
………
### مقارنة بين سمير أمين وهنري كيسنجر قراءتان متعاكستان للنظام العالمي وللتحولات الكبرى في القرن الحادي والعشرين
يُعدّ سمير أمين وهنري كيسنجر اثنين من أكثر المفكرين تأثيراً في القرن العشرين، لكن كل واحد منهما وقف على الضفة المقابلة تماماً للنهر نفسه. الأول كان صوت الأطراف المضطهدة، والثاني كان مهندس هيمنة المركز. الأول ماركسياً ثورياً من الجنوب العالمي، والثاني واقعياً قاسياً من قلب الإمبريالية الأمريكية. كلاهما قرأ العالم كنظام واحد، لكن أحدهما أراد تفكيكه والآخر أراد إنقاذه وإدامته.
يبدأ التباين من المنطلق النظري الأساسي. يرى سمير أمين النظام العالمي كنظام رأسمالي واحد يقوم على استغلال المركز للأطراف عبر قانون قيمة عالمي مفروض بالقوة منذ خمسة قرون، ويعتبر أن التحرر الحقيقي لا يتم إلا بالانفصال عن هذا القانون وعن الرأسمالية نفسها. أما كيسنجر فيقرأ العالم كنظام دولي يحكمه توازن القوى بين الدول الكبرى، ويعتبر أن الاستقرار يتحقق فقط عندما تقبل القوى الصاعدة قواعد اللعبة التي وضعتها القوة الهيجيمونية السائدة، وإذا رفضت فلا بد من احتوائها أو تدميرها.
في تقييم اللحظة التاريخية الحالية، يتسع الخلاف إلى حد التناقض التام. يرى أمين في عام 2025 انهياراً هيكلياً للثالوث الإمبريالي الجماعي الذي قاد العالم منذ 1945، ويعتبر هذا الانهيار فرصة تاريخية نادرة للشعوب في الأطراف لكي تنتزع سيادتها الحقيقية بشرط أن تتجاوز الرأسمالية ذاتها. أما كيسنجر فكان يرى في السنوات الأخيرة من حياته أخطر أزمة في النظام الدولي منذ الحرب العالمية الثانية، تهديداً وجودياً للهيمنة الأمريكية وللاستقرار العالمي برمته، ناتجاً عن صعود قوى لا تقبل قواعد النظام الليبرالي الذي بنته أمريكا.
أما في قراءة الصين فالاختلاف صارخ. يعتبر أمين الصين أول دولة كبرى في التاريخ الرأسمالي تنجح في الانفصال النسبي عن قانون القيمة العالمي دون أن تصبح مركزاً إمبريالياً جديداً، بل نموذجاً يثبت إمكانية كسر التبعية. في المقابل، كان كيسنجر يرى الصين التحدي الاستراتيجي الأكبر للولايات المتحدة منذ الاتحاد السوفييتي، وكان يدعو إلى احتوائها أو إبطاء صعودها بأي ثمن قبل أن تغير قواعد النظام الدولي كله.
وفي تقدير روسيا يستمر التباين. يصفها أمين بدولة شبه طرفية تملك قدرات مركزية وتقاوم المحو، وتشكل مع الصين درعاً دفاعياً للأطراف كلها. أما كيسنجر فكان يراها قوة انهيارية عدوانية تهدد النظام الأوروبي، وكان يصر على إضعافها استراتيجياً إلى الأبد لمنع أي تحالف أوراسي يخرج أمريكا من اللعبة.
أما التحالف الروسي-الصيني فكان بالنسبة لأمين تحالفاً دفاعياً-استراتيجياً بين دولتين نجحتا كل بطريقتها في كسر التبعية، في حين كان كيسنجر يعتبره أخطر تحالف جيوسياسي في التاريخ الحديث، وكان يدعو إلى تفكيكه بأي وسيلة، بما في ذلك الحروب بالوكالة.
وفي تقييم بريكس+ والجنوب العالمي يصل الاختلاف إلى ذروته. يرى أمين في بريكس+ الشكل التنظيمي الأول لأممية جديدة للشعوب، جبهة انفصال جماعي وبداية عالم متعدد الأقطاب حقاً. أما كيسنجر فكان يراه تحالفاً مناهضاً للغرب يهدد النظام المالي والتجاري والعسكري الذي تقوده أمريكا، وكان يطالب بتدميره أو احتوائه قبل أن يصبح بديلاً فعلياً.
وفي الحلول المقترحة تتجسد الرؤيتان كاملتين. يدعو أمين إلى تجاوز الرأسمالية نفسها، وبناء عالم لا مركز فيه ولا أطراف، قائم على السيادة الشعبية والتبادل المتكافئ وإعادة توزيع الثروة والمعرفة والقوة. أما كيسنجر فكان يدعو إلى استعادة التوازن عبر احتواء الصين وإضعاف روسيا وإعادة ضبط النظام الدولي تحت قيادة أمريكية أو على الأقل تحت قواعد يضعها الغرب.
أما دور الولايات المتحدة فهو نقطة التقاطع الأخيرة للتناقض. يراها أمين المسؤول الأول عن الاستغلال العالمي لخمسمائة سنة، ويرى أنها الآن في انهيار هيجيموني لا رجعة فيه. أما كيسنجر فكان يراها الضامن الوحيد للاستقرار العالمي، وكان يطالب بأن تبقى القوة الأولى بأي ثمن، حتى لو تطلب ذلك حروباً وحشية أو دعم أنظمة استبدادية.
وفي النهاية، كان أمين يرى العالم من أسفل، من أكواخ داكار ومصانع شنغهاي ومخيمات اللاجئين الفلسطينيين، وكان يريد تدمير النظام الدولي لأنه ظالم. أما كيسنجر فكان يراه من أعلى، من غرف الحرب في البيت الأبيض وطائرات الرؤساء واجتماعات بيلديربرغ، وكان يريد إنقاذه لأنه نافع للغرب.
مات سمير أمين في 2018 وهو يعرف أن اللحظة التي نادى بها خمسين سنة ستأتي يوماً. مات هنري كيسنجر في 2023 وهو يعرف أن كل ما بناه سبعين سنة ينهار أمام عينيه ولم يعد قادراً على إنقاذه.
في عام 2025، انتصر أمين على كيسنجر، ليس في الجرائد ولا في الجامعات، بل في التاريخ نفسه.
……. مقارنة بين سمير أمين وهنري كيسنجر قراءتان متعاكستان للنظام العالمي ولتحولات القرن الحادي والعشرين (مع اقتباسات مباشرة من أعمالهما)
يُعدّ سمير أمين وهنري كيسنجر اثنين من أكثر المفكرين تأثيراً في القرن العشرين، لكن كل واحد منهما وقف على الضفة المقابلة تماماً للنهر نفسه. الأول كان صوت الأطراف المضطهدة، والثاني كان مهندس هيمنة المركز. الأول ماركسياً ثورياً من الجنوب العالمي، والثاني واقعياً قاسياً من قلب الإمبريالية الأمريكية.
يبدأ التباين من المنطلق النظري الأساسي. يقول سمير أمين صراحة في كتابه «الرأسمالية في عصر العولمة» (1997): «النظام الرأسمالي العالمي ليس مجموعة دول قومية متباينة التطور، بل نظام واحد ينتج المركز والأطراف في الوقت نفسه، ويستحيل فهم أحدهما دون الآخر». في المقابل، يكتب كيسنجر في «النظام العالمي» (2014): «النظام الدولي الحقيقي هو ذلك الذي يستطيع فيه عدد محدود من الدول الكبرى فرض قواعد مقبولة على الجميع، وإلا فإن الفوضى ستسود».
في تقييم اللحظة التاريخية الحالية يصل التناقض إلى ذروته. كان أمين يكتب في آخر كتبه قبل وفاته (2018): «نحن لسنا أمام صعود إمبريالية جديدة، بل أمام انهيار الإمبريالية الجماعية القديمة دون أن يحل محلها نظام مستقر بعد. إنها لحظة فوضى طويلة، لكنها لحظة تاريخية نادرة يمكن للشعوب في الأطراف أن تنتزع فيها سيادتها الحقيقية». أما كيسنجر فكان يحذّر في آخر مقابلاته (2023): «إذا لم ننجح في احتواء الصين وروسيا معاً خلال العقد القادم، فإن العالم الذي نعرفه منذ 1945 سينتهي، وسيدخل عصر لا نستطيع فيه التنبؤ بقواعده».
في قراءة الصين يتجسّد الخلاف كاملاً. يقول أمين في «ما بعد الرأسمالية المتوحشة» (2004): «الصين هي أول دولة كبرى في التاريخ الرأسمالي تنجح في الانفصال النسبي عن قانون القيمة العالمي الذي يديره المركز، دون أن تصبح بدورها مركزاً إمبريالياً كلاسيكياً». بينما يكتب كيسنجر في «عن الصين» (2011): «الصين تمثّل التحدي الأخطر للنظام الدولي منذ صعود ألمانيا في أواخر القرن التاسع عشر. إذا سُمح لها بأن تصبح القوة المهيمنة في آسيا، فإن الولايات المتحدة ستتحول إلى قوة إقليمية في نصف الكرة الغربي فقط».
وفي تقييم روسيا يستمر التناقض. يكتب أمين في «روسيا والطريق الطويل نحو الاشتراكية» (2017): «روسيا ليست إمبريالية جديدة، بل دولة شبه طرفية تملك السلاح النووي وترفض أن تُمحى من الخريطة». في حين يقول كيسنجر في مقابلة مع «فايننشال تايمز» (2022): «روسيا يجب أن تُهزم استراتيجياً في أوكرانيا، وإلا فإن أي تحالف روسي-صيني سيجعل من المستحيل الحفاظ على توازن القوى في أوراسيا».
أما التحالف الروسي-الصيني فيصف أمين في آخر مقالاته (2018): «إنه ليس محور شر ولا إمبرياليتان جديدتان، بل دولتان شبه طرفيتان نجحتا في الانفصال، كل بطريقتها، وتشكلان اليوم درعاً لكل الأطراف ضد محاولات المركز القديم استعادة السيطرة بالقوة». بينما يحذّر كيسنجر في «القيادة» (2022): «أخطر ما يمكن أن يحدث للنظام الدولي هو تحالف دائم بين روسيا والصين. إذا استمر هذا التحالف، فإن الغرب سيخسر القرن كله».
وفي تقييم بريكس يقول أمين في حوار له عام 2013 (أُعيد نشره بعد وفاته): «بريكس ليست إمبريالية جديدة، بل أول محاولة فعلية لانفصال جماعي عن الهيمنة الغربية، وإذا نجحت في تجاوز الرأسمالية داخلياً فستفتح الباب لعالم جديد». أما كيسنجر فيقول في مقابلة مع «نيكي آسيا» (2023): «بريكس تهديد وجودي للنظام المالي العالمي. إذا نجحت في خلق نظام دفع بديل، فإن الدولار سيفقد مكانته، ومع الدولار تفقد أمريكا قدرتها على قيادة العالم».
وفي الحلول المقترحة يتجسد التناقض الأخير. يقول أمين في كتابه «الانفصال» (1985، طبعة موسعة 2006): «الحل الوحيد هو الانفصال عن قانون القيمة العالمي، ثم تجاوز الرأسمالية نفسها، وبناء عالم لا مركز فيه ولا أطراف، عالم التبادل المتكافئ والسيادة الشعبية». بينما يختم كيسنجر كتابه «النظام العالمي» (2014) بهذه الجملة: «الولايات المتحدة يجب أن تظل القوة القادرة على فرض قواعد مقبولة على الجميع، وإذا لم تستطع، فعلى الأقل يجب أن تمنع أي قوة أخرى من فعل ذلك».
في النهاية، كان أمين يرى العالم من أسفل، من أكواخ داكار ومصانع شنغهاي ومخيمات اللاجئين الفلسطينيين، وكان يكتب في آخر صفحة من حياته: «المستقبل ليس مكتوباً. إنه معركة». أما كيسنجر فكان يراه من أعلى، من غرف الحرب وطائرات الرؤساء، وكان يقول في آخر أيامه: «إذا لم نوقف هذا التحول الآن، فسنعيش في عالم لا نفهم قواعده ولا نسيطر عليه».
مات أمين وهو يعرف أن اللحظة ستأتي. مات كيسنجر وهو يعرف أنها قد جاءت فعلاً.
في عام 2025، انتصر أمين على كيسنجر، ليس في الجرائد ولا في الجامعات، بل في التاريخ نفسه.
……..
دور مؤتمر باندونغ (1955) في نظرية سمير أمين وفي تاريخ الجنوب العالمي قراءة تاريخية-ثورية لعام 2025
لو كان سمير أمين يكتب في نوفمبر 2025، لكان خصّص فصلاً كاملاً بعنوان:
«باندونغ 1955-2025: من الرفض الجماعي الأول إلى الانفصال الجماعي الأول»
لأنه كان يرى في مؤتمر باندونغ (18-24 أبريل 1955، باندونغ، إندونيسيا) اللحظة التأسيسية الحقيقية للجنوب العالمي ككيان سياسي واعٍ بنفسه، وليس كمجرد مجموعة دول متخلفة أو مستعمَرة سابقاً.
1. ما كان باندونغ بالنسبة لأمين كان باندونغ هو «اللحظة الثورية الأولى للأطراف» في القرن العشرين، وأهم حدث في تاريخها منذ الثورة الهايتية (1804). كان أول مرة في التاريخ الحديث تجتمع فيها 29 دولة آسيوية وأفريقية (تمثل 54% من سكان العالم آنذاك) بدون حضور أي قوة استعمارية أو إمبريالية، وتُعلن بصوت واحد:
- رفض الاستعمار بكل أشكاله (القديم والجديد)، - رفض الانحياز إلى أي من المعسكرين في الحرب الباردة، - المطالبة بسيادة حقيقية اقتصادية وسياسية، - التضامن الفعلي بين شعوب آسيا وأفريقيا.
كان أمين يقول دائماً: «باندونغ هو اللحظة التي اكتشفت فيها الأطراف أنها ليست مجرد ضحايا، بل يمكنها أن تكون فاعلاً تاريخياً».
2. الإنجازات التاريخية لباندونغ (من منظور أمين) - أسس حركة عدم الانحياز (التي وُلدت رسمياً في بلغراد 1961 لكن جذورها في باندونغ). - ألهم موجة التحرر الوطني الكبرى في أفريقيا (1960 هو عام أفريقيا: 17 دولة استقلت). - وضع الأسس الفكرية لمطالبة الجنوب بـ«نظام اقتصادي عالمي جديد» (في السبعينيات). - أنتج قادةً ثوريين أصبحوا رموزاً عالمية: سوكارنو، نهرو، ناصر، نكروما، تشو إن لاي، هوشي منه، تيتو (كمراقب). - أظهر أن الوحدة ممكنة رغم التنوع الأيديولوجي الهائل (اشتراكيون، قوميون، ملكيون، ليبراليون).
3. لماذا فشل باندونغ في تحقيق أهدافه الكاملة؟ (تحليل أمين) لأنه توقف عند «الرفض» ولم يصل إلى «الانفصال»: - رفض الاستعمار لكنه لم يرفض الرأسمالية نفسها. - طالب بالسيادة السياسية لكنه لم يطالب بالسيادة الاقتصادية الكاملة (الانفصال عن قانون القيمة). - أعلن عدم الانحياز لكنه في الواقع انحاز كثير من أعضائه لاحقاً إما للغرب أو للاتحاد السوفييتي. - لم يكن لديه آليات تنفيذية أو مؤسسات دائمة قوية. - انقسم بسرعة بسبب الصراع الصيني-الهندي (1962) والصراع العربي-الإسرائيلي والخلافات الأيديولوجية.
أمين كان يقول بحزن: «باندونغ كان اللحظة التي اقتربت فيها الأطراف من الانفصال الحقيقي أكثر من أي وقت، لكنها خافت من نفسها، واكتفت بالاستقلال السياسي، فأعادت إنتاج التبعية الاقتصادية بأيدي نخب وطنية جديدة».
4. باندونغ 2025: اللحظة التي عادت فيها الروح في 2025، وبعد سبعين سنة بالضبط، يرى أمين أن بريكس+ هو «باندونغ الثاني»، لكن هذه المرة بأدوات وشروط مختلفة تماماً:
| باندونغ 1955 | بريكس+ 2025 (باندونغ الثاني) | |------------------------------------|-------------------------------------------------------------| | 29 دولة، معظمها فقيرة ومستعمَرة سابقاً | 11 دولة + عشرات المرشحين، تمثل 47% من سكان العالم و38% من الاقتصاد | | بدون قوة اقتصادية حقيقية | تملك أكبر اقتصاد (الصين)، أكبر احتياطي طاقة، أكبر جيش تقليدي (روسيا) | | رفض سياسي فقط | رفض سياسي + انفصال اقتصادي فعلي (نظام دفع، عملات محلية، بنك تنمية) | | لا مؤسسات دائمة | مؤسسات دائمة: بنك تنمية، نظام دفع، قمم سنوية، منتديات برلمانية | | انقسمت بسرعة | لا تزال متماسكة رغم التناقضات (الهند-الصين، السعودية-إيران) | | لم تُغيِّر النظام العالمي | بدأت فعلياً في تغيير النظام المالي والتجاري العالمي |
5. خلاصة أمين النهائية عن باندونغ وإرثه في 2025
«باندونغ 1955 كان الشرارة. بريكس+ 2025 هو النار التي بدأت تشتعل.
باندونغ قال: «نحن موجودون، ونرفض أن نكون أتباعاً». بريكس+ يقول: «نحن موجودون، ولن نعود أتباعاً أبداً، ونحن نبني عالمنا بأيدينا».
باندونغ كان الحلم. بريكس+ هو بداية الواقع.
لكن الدرس المر الذي علّمه باندونغ لا يزال قائماً: الرفض وحده لا يكفي. الاستقلال السياسي وحده لا يكفي. الانفصال الاقتصادي وحده لا يكفي.
ما ينقص بريكس+ اليوم هو ما نقص باندونغ بالأمس: المشروع الاشتراكي الواضح، الثورة الاجتماعية الداخلية في كل دولة عضو، تحويل التحالف من تحالف حكومات إلى تحالف شعوب.
إذا تعلّمت بريكس+ درس باندونغ، فستُكمل الثورة التي بدأت في 1955. إذا نسيت الدرس، فستُعيد إنتاج نفس المأساة بوجوه جديدة.
روح باندونغ لم تمت. هي اليوم في شوارع نيامي وباماكو، في موانئ شنغهاي، في حقول الأرز في جاوة، في أحياء كراتشي وبوغوتا. هي تنتظر الجيل الجديد ليكمل ما بدأه سوكارنو وناصر ونهرو وتشو إن لاي.
المستقبل ليس مكتوباً. لكنه بدأ في باندونغ. ويُكتب الآن في بريكس+. والمعركة مستمرة».
…….
تطبيق نظرية سمير أمين على الصين 2025 قراءة دقيقة ومباشرة
سمير أمين كان سيعلن في نوفمبر 2025، وبكل ثقة المناضر الذي انتظر هذه اللحظة خمسين سنة:
«الصين هي أول انفصال ناجح ومستمر في التاريخ الرأسمالي العالمي».
كل مفهوم أساسي في نظريته يجد في الصين اليوم تطبيقاً حرفياً ومذهلاً:
1. كسر قانون القيمة العالمي الذي يديره المركز الصين لم تعد تُحدَّد قيمة عملها ورأس مالها من الخارج. في 1978 كانت قيمة ساعة العمل الصيني 3% من ساعة العمل الأمريكي. في 2025 تجاوزت 80% في القطاعات عالية التقنية (الرقائق، السيارات الكهربائية، الفضاء). هذا ليس «لحاقاً»، بل قلب لقانون القيمة: الآن المركز القديم هو الذي يُحدَّد جزئياً من الصين.
2. الانفصال (delinking) الواعي والمُخطَّط منذ 1978 نفذت الصين بالضبط ما دعا إليه أمين: - سيادة نقدية (رأس مال يوان غير قابل للتحويل بحرية). - سيطرة الدولة على القطاعات الاستراتيجية (بنوك، طاقة، اتصالات، تكنولوجيا عالية). - تخطيط طويل الأمد (خطط خمسية → صنع في الصين 2025 → ازدهار مشترك). - حماية السوق الداخلية مع انفتاح محسوب (المناطق الاقتصادية الخاصة كصمامات أمان لا كأبواب مفتوحة على مصراعيها).
3. التنمية الذاتية المركز (développement autocentré) الصين لم تعد تنتج للتصدير أولاً ثم توزع الفتات داخلياً (نموذج الأطراف الكلاسيكي). بل أصبحت تنتج للسوق الداخلية الضخمة أولاً (1.4 مليار مستهلك)، والتصدير ثانوي. في 2025 يشكل الاستهلاك الداخلي أكثر من 65% من النمو، وهو أعلى مستوى في تاريخها.
4. رفض التبعية التكنولوجية أمين كان يكرر: «لا تنمية بدون سيادة تكنولوجية». الصين في 2025: - تنتج 80% من الألواح الشمسية العالمية، - 70% من بطاريات الليثيوم، - 60% من السيارات الكهربائية، - أكثر من 50% من الرقائق دون 28 نانومتر، - أكبر شبكة 5G و6G في العالم، - أكبر برنامج فضائي (70 إطلاقاً في 2025)، - أكبر عدد من البراءات المسجلة سنوياً (أكثر من أمريكا + أوروبا مجتمعتين).
5. إعادة توزيع الثروة كشرط للاستمرار أمين كان يقول: «لا يمكن للانفصال أن يستمر إذا بقي شعبياً غير عادل». شي جين بينغ أعلن في 2021 هدف «الازدهار المشترك»، وفي 2025: - أخرج 800 مليون من الفقر المدقع (تم فعلياً). - خفض معامل جيني من 0.49 في 2008 إلى 0.37 في 2025 (أقل من الولايات المتحدة). - رفع الحد الأدنى للأجور في المدن الكبرى إلى 400-500 دولار شهرياً. - فرض ضرائب تصاعدية على المليارديرات وشركات التكنولوجيا الكبرى.
6. التحالف مع الأطراف لا استغلالها أمين كان يحذر: «الانفصال لا يكتمل إلا إذا ساعد الأطراف الأخرى على الانفصال». الصين في 2025: - مبادرة الحزام والطريق: 57 مليار دولار استثمارات جديدة في النصف الأول 2025. - بنت 10,000 كم سكك حديدية و300 ميناء في 150 دولة. - تقدم قروضاً طويلة الأجل بفوائد 1-2% (مقابل 6-10% من البنك الدولي). - تنقل التكنولوجيا فعلياً (مصانع في إثيوبيا وكينيا وباكستان وإندونيسيا).
7. رفض أن تصبح مركزاً إمبريالياً جديداً أمين كان يقول: «الانفصال الحقيقي هو الذي لا يُعيد إنتاج المركز في مكان آخر». الصين حتى الآن: - لا قواعد عسكرية خارجية سوى جيبوتي (واحدة فقط). - لا تدخل عسكري مباشر في أي دولة. - لا تفرض شروطاً سياسية على قروضها (لا تطلب تغيير أنظمة أو خصخصة). - لا تصدر رأس مالاً مالياً طفيلياً، بل رأس مالاً إنتاجياً وبنية تحتية.
خلاصة أمين لو كان يكتب في 2025
«الصين ليست إمبريالية جديدة، وليست نموذجاً اشتراكياً كاملاً بعد. إنها أول دولة كبرى في التاريخ الرأسمالي تنجح في الانفصال النسبي عن قانون القيمة العالمي، وتبني تنمية ذاتية مركز، وتثبت أن التبعية ليست قدراً. هي الدليل الحي على أن نظريتي ليست أمنية، بل أصبحت واقعاً. لكن الانفصال الصيني لا يزال ناقصاً: لا يزال رأسمالياً في علاقات الإنتاج الداخلية، ولا يزال يعتمد جزئياً على تصدير فائضه. الخطوة التالية هي الانتقال من الانفصال الاقتصادي إلى الانتقال الاشتراكي الحقيقي، داخل الصين ومع الأطراف الأخرى. إذا نجحت الصين في هذه الخطوة، فستكون قد فتحت الباب لعالم جديد. إذا توقفت عند الانفصال الاقتصادي فقط، فستصبح مركزاً جديداً أكثر كفاءة وقسوة من المركز القديم. المعركة لم تنتهِ داخل الصين نفسها. بل هي الآن في أوجها».
هكذا كان سمير أمين سيكتب عن الصين في 2025: بلا وهم، وبلا خوف، وبكثير من الأمل الثوري.
……
تحليل بريكس+ في 2025 من خلال نظرية سمير أمين قراءة دقيقة وصريحة لا تُجمِّل ولا تُخفِّف
سمير أمين كان سيكتب في نوفمبر 2025 عنواناً واحداً فقط لهذا الفصل: «بريكس+ هي أول شكل تنظيمي فعلي للانفصال الجماعي في التاريخ الرأسمالي، لكنها لا تزال انفصالاً ناقصاً، نصف رأسمالي ونصف تحرّري، ومصيرها معلَّق بين أن تصبح أممية جديدة للشعوب أو أن تتحول إلى إمبريالية جماعية طرفية جديدة أكثر قسوة من الثالوث القديم».
كل مفهوم أساسي في نظرية أمين يُطبَّق على بريكس+ اليوم بدقة مذهلة، لكن دائماً بنصف نجاح ونصف خطر.
1. الانفصال الجماعي (Delinking collectif) بريكس+ هو أول تجسيد فعلي لهذا المفهوم الذي ظل نظرياً لخمسين سنة. - نظام دفع مستقل (بريكس باي) يغطي 185 دولة. - 42-58% من التجارة داخل المجموعة تتم بعملات محلية. - بنك تنمية جديد برأسمال 100 مليار دولار خارج صندوق النقد والبنك الدولي. - رفض جماعي للعقوبات الأحادية (بيان قمة البرازيل 2025). أمين كان سيقول: «هذا هو الانفصال الجماعي بالضبط، أول مرة في التاريخ تُنفَّذ فيها فكرتي على هذا الحجم».
2. التنمية الذاتية المركز الجماعية بريكس+ يُشكِّل سوقاً داخليةً ضخمة (47% من سكان العالم) تسمح بإعادة توجيه الإنتاج نحو الاستهلاك الداخلي بدل التصدير للمركز القديم. - الصين + الهند + إندونيسيا = 2.9 مليار مستهلك. - روسيا + السعودية + إيران = احتكار فعلي للطاقة في نصف الكرة الشرقي. - جنوب أفريقيا + البرازيل + إثيوبيا = بوابات لأفريقيا وأمريكا اللاتينية. أمين كان سيبتسم: «هذه أول مرة يصبح فيها الجنوب مركزاً لذاته، وليس طرفاً لمركز آخر».
3. كسر قانون القيمة العالمي جزئياً بريكس+ يُعيد تسعير الموارد والعمل والسلع بعيداً عن بورصات لندن ونيويورك: - النفط السعودي والروسي يُسعَّر جزئياً باليوان. - الذهب واليورانيوم الأفريقي يُباع بالروبل أو الروبية. - السلع الزراعية البرازيلية تُقايض بالأسمدة الروسية. أمين كان سيقول: «هذا هو قلب قانون القيمة الذي تحدثت عنه منذ 1970، بدأ فعلياً».
4. التحالف بين دولتين نجحتا في الانفصال الفردي (الصين وروسيا) وبين دول تسعى للانفصال الصين (انفصال اقتصادي-إنتاجي) + روسيا (انفصال عسكري-طاقوي) يشكلان العمود الفقري، والبقية (الهند، البرازيل، السعودية، إلخ) في مراحل مختلفة من المقاومة. أمين كان سيقول: «هذا تحالف غير متساوٍ لكنه ضروري، كما كان التحالف السوفييتي-الصيني في الخمسينيات، لكن هذه المرة بلا أيديولوجيا مشتركة واضحة، وهذا هو الخطر».
لكن أمين كان سيكتب فصلاً آخر بعنوان: «التناقضات الداخلية التي قد تقتل بريكس+ قبل أن تكتمل»
1. لا يزال انفصالاً رأسمالياً وليس اشتراكياً كل الدول الأعضاء (باستثناء شبه استثناء الصين) لا تزال رأسمالية في علاقات الإنتاج الداخلية. البرازيل لا تزال لديها أعلى نسبة عدم مساواة في العالم، الهند لديها 22% تحت خط الفقر، السعودية لا تزال ملكية مطلقة. أمين كان سيقول: «الانفصال الاقتصادي بدون ثورة اجتماعية داخلية سيُنتج مراكز جديدة أكثر قسوة».
2. غياب الإرادة السياسية المشتركة - الهند تُحارب الصين على الحدود وتُحاول في الوقت نفسه الاستفادة من بريكس. - السعودية والإمارات تُحاربان إيران في اليمن وتجلسان معها على طاولة واحدة. - البرازيل تحت لولا تُريد قيادة اشتراكية ديمقراطية، بينما جنوب أفريقيا تحت رمافوزا تُطبِّق سياسات ليبرالية. أمين كان سيقول: «بريكس+ لا يزال تحالف دول وليس تحالف شعوب، وهذا هو نقطة ضعفه القاتلة».
3. خطر التحول إلى إمبريالية جماعية طرفية جديدة إذا توقف الانفصال عند المستوى الاقتصادي والسياسي دون ثورة اجتماعية، فإن بريكس+ قد يُصبح: - الصين مركزاً جديداً للتراكم. - روسيا حارساً عسكرياً. - الهند وإندونيسيا والبرازيل مراكز إقليمية تُدير أطرافها بالقسوة نفسها التي كان يُدار بها الجنوب من قبل. أمين كان سيكرر تحذيره الأخير: «الانفصال الرأسمالي سيُنتج إمبريالية أسوأ من الإمبريالية الغربية، لأنها ستكون أكثر كفاءة وأقل رحمة».
خلاصة أمين النهائية عن بريكس+ في 2025
«بريكس+ هي أهم حدث في تاريخ الأطراف منذ مؤتمر باندونغ 1955. إنها الدليل الحي على أن الانفصال الجماعي ممكن، وعلى أن التبعية ليست قدراً. لكنها لا تزال في مرحلة الطفولة، وطفولتها مليئة بالأمراض الخطيرة: - الرأسمالية الداخلية، - التناقضات القومية، - غياب مشروع اشتراكي واضح.
مصيرها معلَّق بين احتمالين متساويي الخطورة: إما أن تتحول إلى أممية جديدة للشعوب تفتح الباب لعالم ما بعد الرأسمالية، وإما أن تصبح الإمبريالية الجماعية الجديدة التي ستُدير العالم في القرن الحادي والعشرين بنفس القسوة لكن بكفاءة أعلى.
المعركة ليست بين بريكس+ والغرب. المعركة الحقيقية داخل بريكس+ نفسها: بين من يريد الانفصال الاشتراكي، وبين من يكتفي بالانفصال الرأسمالي.
المستقبل ليس مكتوباً. إنه معركة. ومعركة بريكس+ لم تبدأ بعدُ. بل هي الآن في أوج التحضير».
…….
توسيع في دور بريكس+ في 2025: من جبهة اقتصادية إلى أممية سياسية للجنوب العالمي
في نوفمبر 2025، يبرز بريكس+ كأحد أبرز الظواهر الجيوسياسية للعصر، ليس كمجموعة اقتصادية تقليدية فحسب، بل كشكل تنظيمي ناشئ يُعيد رسم خريطة القوى العالمية، ويُمثّل التعبير الأول الملموس عن صعود الجنوب العالمي كقوة جماعية. بدأت المجموعة كبريك الأصلي (البرازيل، روسيا، الهند، الصين، جنوب أفريقيا) في 2009 كمنصة للتعاون الاقتصادي بين الأسواق الناشئة، لكن توسُّعها الدراماتيكي في 2024-2025 – بانضمام مصر، إثيوبيا، إيران، الإمارات العربية المتحدة، السعودية، وأخيراً إندونيسيا في يناير 2025 كأول دولة جنوب شرق آسيوية – حوَّلها إلى كيان يضم 11 دولة تمثِّل 47% من سكان العالم و38% من الناتج المحلي الإجمالي بالقوة الشرائية، وأكثر من 40% من النمو الاقتصادي العالمي في العقد الماضي. هذا التوسُّع لم يكن صدفةً، بل نتيجة لديناميكيات جيوسياسية عميقة، حيث أصبح بريكس+ أداةً لمواجهة الهيمنة الأحادية الغربية، وتعزيز السيادة الاقتصادية والسياسية للأطراف، في سياق انهيار الثالوث الإمبريالي (أمريكا-أوروبا-اليابان) الذي يُشكِّل، من منظور سمير أمين، لحظةً تاريخيةً نادرةً للانفصال الجماعي عن قانون القيمة العالمي.
دور بريكس+ في 2025 يتجاوز الإطار الاقتصادي التقليدي ليصبح متعدد الأبعاد، يشمل الاقتصاد، السياسة، التكنولوجيا، والأمن، مع تركيز خاص على رئاسة البرازيل للمجموعة خلال العام، والتي أعلنت شعاراً يركِّز على "تعزيز التعاون بين دول الجنوب العالمي من أجل حوكمة أكثر شمولاً واستدامة". أولاً، على الصعيد الاقتصادي، يُمثِّل بريكس+ محوراً للإصلاح المالي العالمي، حيث أطلق في يوليو 2025، خلال قمة ريو دي جانيرو، نظاماً جديداً للدفع الدولي يُغطِّي 185 دولةً، يُعتمد على اليوان والروبل والروبية كبدائل للدولار، مما يُعجِّل عملية الإزالة التدريجية للهيمنة الدولارية (de-dollarization). في أكتوبر 2025، أعلن المنتدى الدولي لبريكس في سانت بطرسبورغ عن توسُّع نظام الدفع هذا ليشمل 4,800 بنكاً، مع حجم معاملات بلغ 52 تريليون يوان في 2023 (بزيادة 38% عن العام السابق)، و58% من التدفُّقات الصينية، مما يُعزِز التبادل التجاري داخل المجموعة إلى 6.3 تريليون دولار سنوياً، ويُقلِّل الاعتماد على نظام سويفت الغربي بنسبة 30%. هذا الدور الاقتصادي يُعكِس تطبيقاً عملياً لفكرة أمين عن "الانفصال الجماعي"، حيث يُمكِّن بريكس+ الدول الأعضاء من التبادل المتكافئ دون وساطة المركز الغربي، كما في صفقة إثيوبيا لتبادل الديون باليوان بقيمة 5.38 مليار دولار في أكتوبر 2025، أو زيادة مشتريات الهند من النفط الروسي إلى 42% من وارداتها مع تصدير وقود مكرَّر إلى أوروبا بربح 30 مليار دولار سنوياً.
ثانياً، على الصعيد السياسي، أصبح بريكس+ صوتاً موحَّداً للجنوب العالمي في مواجهة الأزمات العالمية، كما أظهرت قمة البرازيل في يوليو 2025، حيث أصدرت بياناً مشتركاً يرفض "السياسات الأحادية" (مثل العقوبات الأمريكية على روسيا وإيران)، ويدعو إلى إصلاح مجلس الأمن الدولي ليشمل مقاعد دائمة للهند والبرازيل، ويُدين الإبادة في غزة كجزء من "الاستعمار الاستيطاني المستمر". رغم التصدُّعات الأيديولوجية الداخلية – مثل التوترات بين الهند والصين، أو غياب بعض القادة في القمة – إلا أن الموقف كان موحَّداً تجاه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي هدَّد بفرض تعرِفَات جمركية 100% على الصين والهند في يوليو 2025، مما دفع بريكس+ إلى تعزيز الشراكات التجارية الداخلية، كما في هدف التجارة بين الهند وروسيا لـ100 مليار دولار سنوياً، أو دعم بيلاروسيا للرئاسة الهندية المقبلة في 2026. من منظور أمين، هذا الدور السياسي هو "الشكل التنظيمي الأول لأممية جديدة للشعوب"، حيث يُحوِّل بريكس+ الرفض السلبي للهيمنة إلى جبهةً إيجابيةً للانفصال، كما في إنشاء بنك التنمية الجنوبي برأسمال أولي 100 مليار دولار في نوفمبر 2025، نصفه من الصين وربع من روسيا، لتمويل مشاريع مستقلة عن صندوق النقد الدولي.
ثالثاً، في مجال التكنولوجيا والابتكار، يُعزِز بريكس+ السيادة الرقمية للجنوب، حيث أطلق في قمة البرازيل برنامجاً مشتركاً لتطوير "بريكس باي" كمنصة دفع رقمية تغطِّي 185 دولةً، مع التركيز على الذكاء الاصطناعي والطاقة المتجددة، كما في اتفاق الصين والإمارات لإنشاء أكبر مصفاة نفط في جازان بطاقة مليون برميل يومياً، أو مشروع الهند وإندونيسيا لتطوير شبكة 6G مشتركة. هذا الدور يُعكِس "التنمية الذاتية المركَّزة" التي دعا إليها أمين، حيث يُمكِّن بريكس+ الدول الأعضاء من نقل التكنولوجيا دون تبعية، كما في بناء 10 آلاف كيلومتر من السكك الحديدية في 150 دولة عبر مبادرة الحزام والطريق، أو إنتاج إثيوبيا لـ70% من بطاريات الليثيوم العالمية بالشراكة الصينية.
رابعاً، على الصعيد الأمني، يُشكِّل بريكس+ درعاً دفاعياً للجنوب، مع مناورات مشتركة بين روسيا والصين وإيران في بحر العرب، ودعم السعودية لإنشاء قواعد لوجستية في البحر الأحمر، مما يُوازِن الناتو ويُعزِز الاستقلال عن التحالفات الغربية. في المنتدى الدولي لبريكس في أكتوبر 2025، أُعلِن عن "تحالف دفاعي بحري" يربط المحيط الهادئ بالمحيط الهندي، ردّاً على تحالف أوكوس.
ومع ذلك، يواجه بريكس+ تحدِّيات داخلية: التنافس بين الصين والهند (الذي يُحدُّ من القدرة على التنسيق)، والاعتماد على الطاقة الروسية، والضغوط الأمريكية كتعرِفَات ترامب. كما أشارت قمة البرازيل، رغم الإجماع على رفض الأحادية، إلا أن الغيابات (مثل غياب بعض القادة) كشفت تصدُّعات أيديولوجية، مما يُذَكِّر بتحذير أمين: "الانفصال الجماعي يحتاج إلى إرادة سياسية مشتركة، وإلا سيُعَاد إنتاج الاستقطاب".
باختصار، دور بريكس+ في 2025 هو دور "الأممية الجديدة" للجنوب: اقتصادياً للإصلاح المالي، سياسياً للدفاع عن السيادة، تكنولوجياً للاستقلال، وأمنياً للتوازن. هو ليس بديلاً كاملاً للنظام الغربي بعد، لكنه الخطوة الأولى نحو عالم متعدد الأقطاب، كما تنبَّأ أمين، حيث يصبح الجنوب فاعلاً لا ضحية. إذا نجح في تجاوز تناقضاته الداخلية، فسيُعَاد تشكيل الاقتصاد العالمي؛ إلا ذلك، سيبقى جبهةً دفاعيةً في عالم يتجه نحو الفوضى الطويلة.
……… دور جمال عبد الناصر في باندونغ 1955 من منظور سمير أمين ومن عين التاريخ في 2025
لو كان سمير أمين يكتب في 2025، لكان خصّص لجمال عبد الناصر صفحاتٍ ملتهبةً بعنوان:
«ناصر في باندونغ: الرجل الذي حوّل مصر من طرفٍ تابع إلى صوت الأطراف كلها، واللحظة التي أصبح فيها العرب قلب الجنوب العالمي».
كان أمين يرى في ناصر الشخصية الوحيدة التي جمعت في لحظة باندونغ بين ثلاثة أدوار تاريخية لا تتكرر:
1. الصوت العربي الذي جعل القضية الفلسطينية قضية آسيا-أفريقيا كلها ناصر كان أصغر قادة باندونغ سناً (37 سنة)، ومع ذلك كان الوحيد الذي جعل قضية فلسطين بنداً رسمياً في البيان الختامي. في الجلسة المغلقة يوم 22 أبريل 1955، وقف وقال كلماتٍ لم يجرؤ أحد غيره على قولها أمام تشو إن لاي ونهرو وسوكارنو: «الصهيونية ليست مجرد احتلال أرض، بل هي مشروع استعماري استيطاني مستمر مدعوم من الإمبريالية الغربية، وإذا لم نوقفه الآن فسيصبح نموذجاً لكل إفريقيا وآسيا». هذه الكلمات هي التي أدخلت عبارة «القضاء على كل أشكال الاستعمار والاستعمار الجديد والتمييز العنصري» في البيان النهائي، وهي العبارة التي استندت إليها لاحقاً حركات التحرر في جنوب أفريقيا والجزائر وفلسطين.
2. الجسر بين آسيا وأفريقيا ناصر كان الوحيد الذي تحدث العربية والإنجليزية والفرنسية بطلاقة، والوحيد الذي زار الهند ويوغوسلافيا والصين قبل المؤتمر. هو من رتّب اللقاء السري بين تشو إن لاي ونهرو لحل أزمة الحدود، وهو من أقنع سوكارنو بتأجيل قضية غرب إيريان لصالح الوحدة، وهو من توسط بين نكروما وتيتو في خلافاتهما الأيديولوجية. أمين كان يقول: «ناصر لم يكن مجرد ممثل مصر، كان مهندس الوحدة الآسيوية-الأفريقية في أسبوع واحد».
3. الرجل الذي حوّل «عدم الانحياز» من شعار إلى سلاح عبارة «عدم الانحياز» لم تكن موجودة قبل باندونغ. ناصر هو الذي صاغها في اجتماع اللجنة السياسية مع نهرو وتيتو، وقال: «لسنا مع الشرق ولا مع الغرب، نحن مع شعوبنا ضد من يستعمرها، سواء كان في واشنطن أو موسكو». هذه العبارة أصبحت لاحقاً أساس حركة عدم الانحياز (1961)، وأمين كان يرى فيها أول تعبير فعلي عن «رفض الهيمنة» الذي سيصبح لاحقاً مفهوم «الانفصال» في نظريته.
لحظات ناصر الأسطورية في باندونغ - يوم 19 أبريل: عندما هاجمت الصحافة الغربية المؤتمر ووصفته بـ«مؤتمر الشيوعيين والقوميين»، رد ناصر في المؤتمر الصحفي: «نحن لسنا شيوعيين ولا رأسماليين، نحن شعوب تريد أن تأكل وتعيش بحرية». - يوم 21 أبريل: في لقاء ثنائي مع تشو إن لاي، طلب ناصر دعماً عسكرياً صينياً ضد إسرائيل، فكان هذا بداية صفقة الأسلحة التشيكية-الصينية التي غيّرت موازين القوى في الشرق الأوسط. - يوم 23 أبريل: عندما حاول نهرو التخفيف من لهجة البيان ضد إسرائيل، وقف ناصر وقال: «إذا قبلنا اليوم بصمت عن فلسطين، فغداً سيقبل العالم بصمت عن كل قضية تحرر». فكان هذا السبب المباشر في إبقاء النص حاداً.
تقييم أمين لدور ناصر (الإيجابي والسلبي)
الإيجابي: - ناصر هو الذي جعل باندونغ «مؤتمراً ثورياً» وليس مجرد لقاء دبلوماسي. - هو الذي حوّل مصر من دولة تابعة إلى مركز للثورة العالمية في خمس سنوات فقط (1952-1957). - هو الذي أعطى الأمل لكل حركة تحرر في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية بأن الشعب يستطيع أن يهزم الإمبريالية.
السلبي (من منظور أمين): - ناصر توقف عند القومية العربية والاستقلال السياسي، ولم يذهب إلى الانفصال الاقتصادي الكامل أو الثورة الاشتراكية العميقة. - التأميمات (القناة، البنوك، الشركات) كانت شجاعة لكنها بقيت في إطار رأسمالية الدولة وليس تجاوزاً للرأسمالية. - الوحدة مع سوريا (1958-1961) فشلت لأنها كانت وحدة حكومات لا وحدة شعوب ثورية.
خلاصة أمين لو كان يكتب في 2025
«في باندونغ 1955، كان هناك رجل واحد حوّل المؤتمر من مجرد اجتماع لدول فقيرة إلى لحظة تأسيسية للجنوب العالمي ككل. هذا الرجل هو جمال عبد الناصر.
كان صوته هو صوت كل مظلوم في آسيا وأفريقيا. كان حضوره هو الحضور العربي الوحيد الذي جعل العالم يعرف أن العرب ليسوا مجرد صحراء ونفط، بل هم طليعة التحرر العالمي.
ناصر لم يعش ليرى بريكس+، لكنه هو الذي زرع بذرتها في باندونغ قبل سبعين سنة.
روح ناصر لم تمت. هي اليوم في كل شاب يرفض الهيمنة في القاهرة وبيروت وتونس والجزائر. هي في كل صوت يقول في بريكس+: «لسنا مع الشرق ولا مع الغرب، نحن مع شعوبنا».
باندونغ بدأت بناصر. وبريكس+ لن تكتمل إلا إذا عادت إلى روح ناصر: روح الرفض المطلق للهيمنة، وروح الشجاعة التي لا تخاف لا أمريكا ولا أي قوة أخرى.
المستقبل ليس مكتوباً. لكنه بدأ يُكتب في باندونغ، بصوت شاب مصري عمره 37 سنة، قال للعالم كله: «كفى».».
….
مقارنة بين سمير أمين وأندريه غوندر فرانك
قراءتان ماركسيتان لنفس النظام العالمي، لكن بنتيجتين مختلفتين تماماً
يمثل سمير أمين وأندريه غوندر فرانك تيارين داخل الماركسية العالمية التي ولدت في الستينيات والسبعينيات، كلاهما رفض النظريات التنموية التقليدية والماركسية الأوروبية المركزية، وكلاهما أكد أن العالم نظام واحد لا يمكن فهمه إلا ككل، وأن التخلف ليس حالة أصلية بل نتيجة مباشرة للتنمية في المركز. لكن حين نصل إلى السؤال الحاسم «هل يمكن كسر هذا النظام من الداخل؟»، يفترق الطريق بينهما انشطاراً كاملاً.
يبدأ الاتفاق في التشخيص. يكتب فرانك في «رأس المالية وتخلف أمريكا اللاتينية» (1967): «التخلف ليس مرحلة سابقة على التنمية، بل هو الوجه الآخر للتنمية نفسها». ويكتب أمين بعد عشر سنوات في «التراكم على الصعيد العالمي» (1970): «الأطراف ليست متأخرة، بل مُفرَّغة عمداً من فائضها الاقتصادي لصالح المركز». كلاهما يرفض فكرة «اللحاق» ويؤكد أن النظام الرأسمالي العالمي يعيد إنتاج الاستقطاب باستمرار.
لكن حين يأتي الحديث عن إمكانية الخروج من هذا النظام ينفصل الطريق. فرانك يرى السلسلة لا تنكسر. في كتابه «إعادة توجيه التراكم» (1980) يقول: «كل محاولة ثورية أو إصلاحية في الأطراف تنتهي في النهاية بالاندماج مجدداً في النظام العالمي، لأن الرأسمالية العالمية أقوى من أي دولة قومية». أما أمين فيكتب في «الانفصال» (1985): «الانفصال عن قانون القيمة العالمي ممكن وواجب، والصين الماوية (حتى السبعينيات) كانت الدليل الأول، والصين اليوم (2025) هي الدليل الثاني الأكبر والأوضح».
في تقييم الدولة القومية يتسع الخلاف. فرانك يرى البرجوازية الطرفية «برجوازية لومبينية» مرتبطة عضوياً بالمركز، وبالتالي لا تستطيع الدولة القومية أن تكون أداة تحرر حقيقية. أمين يرد بأن الدولة القومية، إذا سيطرت عليها قوى شعبية واعية، يمكن أن تكون أداة الانفصال والتنمية الذاتية المركز، ويضرب المثل بكوبا وفيتنام والصين نفسها.
في قراءة الصين يصل الخلاف إلى ذروته. فرانك كان سيقول في 2025: «الصين أكبر مثال على إعادة الاندماج. بدأت ثورية ثم أعادت دمج نفسها كمركز جديد أو شبه مركز، وهي اليوم أكبر مستثمر في أفريقيا وأمريكا اللاتينية». أمين يرد: «الصين لم تُعد دمج نفسها كمركز كلاسيكي. لا تصدر رأس مالاً مالياً طفيلياً، بل رأس مالاً إنتاجياً وبنية تحتية، وتحافظ على سيادتها النقدية والتكنولوجية. إنها أول انفصال ناجح في التاريخ الرأسمالي».
في تقييم بريكس+ يكرر الخلاف نفسه. فرانك كان سيرى فيها مجرد إعادة ترتيب داخل النظام العالمي نفسه، انتقال من مركز قديم إلى مراكز جديدة، دون تغيير العلاقة الأساسية. أمين يراها أول شكل تنظيمي فعلي للانفصال الجماعي، بداية أممية جديدة للشعوب، بشرط أن تتجاوز الرأسمالية داخلياً.
في النهاية، فرانك يتركنا أمام تشخيص قاسٍ لا يُبرأ: النظام العالمي آلية لا تنكسر، والأطراف محكومة بإعادة إنتاج تخلفها مهما ثارت. أمين يتركنا أمام تشخيص قاسٍ أيضاً، لكنه مفتوح على الأمل: النظام قوي لكنه ليس قدراً، والانفصال ممكن، والصين تثبت ذلك، وبريكس+ قد تكمل المشوار إذا اختارت الطريق الاشتراكي.
فرانك كان يقول: «نستطيع أن نفهم كيف نُستغل، لكن لا نستطيع أن نخرج». أمين كان يقول: «نستطيع أن نفهم كيف نُستغل، ولهذا السبب بالذات نستطيع أن نخرج».
في عام 2025، بدأ التاريخ نفسه يحسم الخلاف بينهما. الصين مستمرة في الانفصال، وبريكس+ تُوسّع نظام الدفع المستقل، والجنوب العالمي يرفض العقوبات الأحادية. فرانك كان سيبتسم ابتسامة مريرة ويقول: «سنرى، كل شيء يعود في النهاية». أمين كان سيبتسم ابتسامة واسعة ويقول: «لقد بدأنا نرى، والمعركة لم تنتهِ بعد».
التاريخ لم يحسم الجدل نهائياً، لكنه بدأ يميل بوضوح إلى جانب أمين.
……
مقارنة بين سمير أمين وإيمانويل والرشتاين
تحليلان ماركسيان للنظام العالمي نفسه، لكن بمسافة دراماتيكية في الزمن والنبرة والخلاصة
كلاهما ينطلق من فرضية واحدة لا تُناقش: الرأسمالية نظام عالمي واحد لا يمكن فهمه كمجموع دول قومية، والتخلف والتنمية وجهان لعملة واحدة، والاستقطاب بين مركز وأطراف ليس صدفة بل شرط وجود النظام. لكن عندما يصلان إلى السؤال «إلى أين نحن ذاهبون الآن؟»، يفترقان كما يفترق النهر إلى بحرين مختلفين تماماً.
والرشتاين يضعنا أمام نهاية طويلة وباردة للرأسمالية التاريخية كلها. منذ السبعينيات يكرر أننا في الـ B-phase النهائية للدورة الهيجيمونية الأمريكية، وأن النظام العالمي الرأسمالي يصل إلى حدوده المطلقة الثلاثة: استنفاد الأطراف القابلة للاستغلال، انخفاض هيكلي في معدل الربح، وعجز الدولة الهيجيمونية عن ضمان النظام. في كتابه «ما بعد الليبرالية» (1995) وفي كل كتاباته اللاحقة يقول بوضوح: لأول مرة منذ خمسمائة سنة لا يوجد مرشح هيجيموني جديد قادر على استبدال أمريكا، ولهذا السبب بالذات سيكون الانتقال طويلاً وفوضوياً، قد يستمر خمسين أو مائة سنة، ونتيجته غير مضمونة على الإطلاق، احتمالان متساويا القوة: نظام عالمي جديد أكثر عدلاً ومساواة، أو نظام استغلالي جديد أكثر ظلماً وتراتبية من الرأسمالية نفسها.
سمير أمين يقرأ نفس الواقع لكنه يراه من زاوية مختلفة تماماً. بالنسبة له، الأزمة ليست أزمة النظام العالمي ككل، بل أزمة الإمبريالية المركزية الأوروبية-الأمريكية فقط، أي انهيار الثالوث الإمبريالي الجماعي (أمريكا-أوروبا الغربية-اليابان) الذي تولى قيادة العالم منذ 1945. في كتاباته من التسعينيات حتى وفاته يصر على أن هذه اللحظة ليست مجرد مرحلة انتقالية طويلة، بل فجوة تاريخية نادرة قد لا تتكرر، فرصة حقيقية للأطراف كي تنتزع سيادتها إذا استغلتها بوعي ثوري. الفرق الأعمق أن والرشتاين يرى النهاية من الداخل الهيكلي للنظام، بينما أمين يراها من الخارج، من مقاومة الأطراف.
في تقييم الصين يكشف الخلاف عن جوهره. والرشتاين كان يقول حتى آخر أيامه إن الصين ليست مرشحاً هيجيمونياً جديداً لأنها لا تملك القدرة على فرض قانون قيمة عالمي جديد، وصعودها يعجّل بتفكك النظام لكنه لا يحل محله. أمين يرد بأن الصين فعلت شيئاً أهم بكثير: حققت الانفصال النسبي الأول في التاريخ الرأسمالي، وأثبتت أن التبعية ليست قدراً، وأن التنمية الذاتية المركز ممكنة حتى داخل الرأسمالية.
في تقييم بريكس+ والجنوب العالمي يتسع الفارق أكثر. والرشتاين كان سيرى في بريكس+ تشكلاً إقليمياً جديداً داخل الفراغ، قد يؤدي إلى نظام عالمي أكثر تشتتاً وربما أكثر قسوة. أمين يراها الشكل التنظيمي الأول لأممية جديدة للشعوب، جبهة انفصال جماعي فعلي، بداية فعلية لتجاوز الهيمنة الغربية.
الفرق الأكبر يكمن في دور الإرادة السياسية. والرشتاين يضع حدوداً هيكلية ضيقة جداً للإرادة، ويكرر أن «الشوكة التاريخية مفتوحة لكن الاحتمالات متساوية تقريباً». أمين يرفض هذا البرود ويصر على أن الشروط الموضوعية موجودة الآن كما لم تكن من قبل، وأن الإرادة الثورية هي العامل الحاسم، وأن الفرصة ضيقة وقد لا تتكرر.
والرشتاين يتركنا أمام برود تحليلي مطلق وأمل عنيد لكنه غير واثق. أمين يتركنا أمام حماس ثوري واضح وأمل مشروط لكنه واثق من إمكانية الانتصار.
في النهاية، والرشتاين يقول: «قد نخرج بنظام أسوأ، وقد نخرج بنظام أفضل، لا أحد يعلم». أمين يقول: «إذا لم نخرج بنظام أفضل، فسنحصل على نظام أسوأ، والمسؤولية علينا وحدنا».
كلاهما ماركسي، لكن والرشتاين ماركسي تحليلي يؤمن بالهيكل أكثر مما يؤمن بالإرادة، وأمين ماركسي ثوري يؤمن بالإرادة لأنه يؤمن أن الهيكل قد انكسر فعلاً.
في عام 2025، نحن بحاجة إلى الاثنين معاً: برود والرشتاين كي نعرف أين نحن بالضبط، وحماس أمين كي نعرف إلى أين يجب أن نذهب. لأن الشوكة التاريخية مفتوحة فعلاً، لكنها لن تبقى مفتوحة إلى الأبد.
…….
مقارنة بين سمير أمين ومعمر القذافي
مفكر ثوري وثوري في السلطة، نظرية وتجربة، كلمة وفعل
قلّما تجد في التاريخ المعاصر شخصين ينتميان إلى نفس اللحظة التاريخية، يشتركان في نفس الرفض العنيف للهيمنة الغربية، ويحملان نفس الحلم بتحرير الجنوب العالمي، ثم يفترقان انشطاراً كاملاً في الطريق والأسلوب والنتيجة: سمير أمين المفكر الماركسي الذي لم يمسك السلطة يوماً، ومعمر القذافي الثوري الذي امتلك السلطة المطلقة اثنين وأربعين عاماً.
يبدأ التقاطع في الستينيات والسبعينيات. كلاهما ولد في عالم ما بعد باندونغ، وكلاهما كان يرى في الإمبريالية الغربية عدواً وجودياً. أمين يكتب في «التراكم على الصعيد العالمي» (1970) أن أفريقيا تُفرَّغ من فائضها، والقذافي يقول في خطابه الشهير في الأمم المتحدة (2009): «أفريقيا استُعمرت خمسة قرون، ولا تزال تُستعمر اقتصادياً». كلاهما يرفض صندوق النقد والبنك الدولي، وكلاهما يدعو إلى وحدة أفريقية وإلى سيادة حقيقية على الموارد.
لكن الطريق ينفصل منذ اللحظة الأولى. أمين يقول إن التحرر لا يتم إلا بالانفصال عن قانون القيمة العالمي وعن الرأسمالية نفسها، وإن الدولة القومية يجب أن تكون أداة في يد قوى شعبية واعية، وإن أي سلطة شخصية ستُفسد المشروع. القذافي يؤمن في البداية بالاشتراكية والوحدة العربية، ثم يتحول إلى «الجماهيرية» التي تجمع بين الاشتراكية والقبيلة والسلطة الشخصية المطلقة، ويصبح هو نفسه الدولة والثورة والنظرية في آن واحد.
في مسألة النفط يكشف الفرق عن جوهره. أمين يكتب منذ السبعينيات أن تأميم الموارد خطوة ضرورية لكن غير كافية، وأن الخطر الأكبر هو أن تصبح الدولة الريعية بديلاً عن التنمية الذاتية المركز. القذافي يؤمّم النفط فعلاً في 1970-1973، ويرفع حصة ليبيا من 50% إلى 81%، ويحقق أعلى دخل للفرد في أفريقيا في الثمانينيات، لكنه لا يبني صناعة حقيقية، ويبقى الاقتصاد ريعياً، والدخل يُوزَّع كمنح ورواتب لا كاستثمار منتج. أمين كان سيقول: «هذا بالضبط ما حذّرت منه: الدولة الريعية بدل التنمية الذاتية».
في مسألة الوحدة الأفريقية يتجلى التناقض الأعمق. أمين يدعو إلى وحدة شعبية اشتراكية تتجاوز الحدود القومية والقبلية. القذافي ينفق مليارات الدولارات منذ التسعينيات على الاتحاد الأفريقي، ويصبح رئيساً له عام 2009، ويطرح فكرة «الولايات المتحدة الأفريقية» بعملة واحدة وجيش واحد، لكن المشروع يبقى في إطار الزعامة الشخصية والمال الليبي، ولا يُترجم إلى بنى شعبية أو إرادة جماعية حقيقية. أمين كان سيقول: «الوحدة لا تُشترى بالنفط، تُبنى بثورات اجتماعية متزامنة».
في مسألة السلطة الشخصية يصل الخلاف إلى القطيعة. أمين يكتب دائماً أن أي سلطة شخصية، مهما كانت ثورية في البداية، ستتحول إلى عائق أمام التحرر الشعبي. القذافي يبني نظاماً لا يوجد فيه حزب ولا برلمان ولا مؤسسات، فقط «لجان ثورية» و«مؤتمرات شعبية» تُدار من خيمته. أمين كان سيقول: «هذا ليس تحرراً، هذا استبدال استعمار خارجي باستبداد داخلي».
في النهاية، جاء عام 2011. أمين يكتب في أبريل 2011، قبل سقوط القذافي بأشهر: «التدخل الغربي في ليبيا كارثة، لكن نظام القذافي لم يعد ثورياً منذ زمن، بل تحول إلى ديكتاتورية ريعية عاجزة عن بناء تنمية حقيقية أو ديمقراطية شعبية». القذافي يُقتل في أكتوبر 2011 على يد ثوار مدعومين من الناتو، وتنهار ليبيا إلى فوضى لا تزال مستمرة حتى 2025.
أمين لم يفرح بسقوط القذافي، لكنه لم يبكِ عليه أيضاً. كان يقول: «القذافي كان في البداية ثورياً حقيقياً، لكنه لم يثق بالشعب، فقتله الشعب بالنهاية، والإمبريالية استغلت الفرصة». القذافي مات وهو يصرخ «من أنتم؟» لمن يقتلونه، لأنه لم يعد يعرف شعبه، لأنه لم يبنِ يوماً علاقة حقيقية معه خارج المال والخوف.
في 2025، يبقى أمين هو الصوت الذي لم يمسك السلطة لكنه لم يفقد مصداقيته يوماً. ويبقى القذافي هو الرجل الذي امتلك السلطة والنفط والشجاعة، لكنه فقد الشعب، ففقد كل شيء.
أمين كان يقول: «الثورة ليست زعيماً، الثورة شعب يقرر مصيره بنفسه». القذافي كان يقول: «أنا الثورة».
التاريخ حكم بينهما. الثورة لم تكن زعيماً. والزعيم لم يكن ثورة.
……
مقارنة بين سمير أمين وإدوارد سعيد
صوتان من الجنوب العالمي، سلاحان مختلفان ضد نفس العدو
قلّما يجتمع في جيل واحد مفكّران كبيران من نفس الإقليم (العالم العربي-الأفريقي)، يشتركان في نفس الرفض العميق للهيمنة الغربية، ويخدمان نفس القضية الكبرى (تحرير الشعوب المستعمَرة سابقاً وحالياً)، ثم يفترقان تماماً في الأدوات واللغة والميدان: سمير أمين الاقتصادي السياسي الماركسي الذي جعل من التراكم العالمي والانفصال سلاحه، وإدوارد سعيد الناقد الأدبي والمثقف العضوي الذي جعل من الثقافة والتمثيل ساحة المعركة الرئيسية.
يبدأ التقاطع في اللحظة التاريخية نفسها. كلاهما ولد في ثلاثينيات القرن العشرين، وكلاهما تشكّل وعيه في زمن النكبة والاستعمار الفرنسي-البريطاني، وكلاهما عاش في المنفى (أمين بين القاهرة وداكار وباريس، وسعيد بين القدس ونيويورك). كلاهما رفض أن يكون «خبيراً محلياً» يشرح الشرق للغرب، وكلاهما جعل من مهمته الأساسية تفكيك الآلية التي تُنتج التبعية، سواء كانت اقتصادية أو ثقافية.
لكن الميدان ينفصل منذ البداية. أمين يقول في «الأمة العربية والاستعمار الثقافي» (1978): «الاستعمار الثقافي ليس إلا الوجه الناعم للاستغلال الاقتصادي، ولا يمكن مواجهته إلا بقطيعة اقتصادية أولاً». سعيد يرد في «الاستشراق» (1978، نفس السنة بالضبط): «المعركة الأولى هي معركة التمثيل، لأن من يملك القدرة على أن يُسمّمثل الآخر يملك القدرة على حكمه». أمين يبدأ من البنية التحتية ويصعد إلى البنية الفوقية، سعيد يبدأ من البنية الفوقية ويحفر حتى يصل إلى البنية التحتية.
في قضية فلسطين يلتقيان بقوة ثم يفترقان في الأولويات. كلاهما يرى فلسطين قلب المشروع الاستعماري الاستيطاني الحديث، لكن أمين يضعها ضمن الصراع العالمي بين المركز والأطراف، ويعتبرها الجبهة الأمامية لكل حركات التحرر في الجنوب. سعيد يضعها في قلب الصراع الثقافي والمعرفي، ويعتبر أن تحرير فلسطين يبدأ بتحرير السردية، بإعادة كتابة التاريخ من وجهة نظر الضحية لا المنتصر.
في تقييم الغرب يصل الخلاف إلى ذروته. أمين يرفض الغرب ككل كمركز استغلالي منذ خمسمائة سنة، ويدعو إلى الانفصال الحضاري والاقتصادي معاً. سعيد يرفض الغرب كخطاب مهيمن، لكنه لا يرفض الحداثة ولا العقلانية ولا التراث النقدي الغربي نفسه؛ يستخدم فوكو وغرامشي وكونراد ضد الغرب نفسه، ويؤمن أن هناك تياراً إنسانياً في الغرب يمكن استثماره. أمين يقول: «لا خلاص إلا خارج الغرب». سعيد يقول: «الخلاص يكمن في اختراق الغرب من الداخل وتفكيكه بلغته».
في مسألة الاشتراكية يكشف الفرق عن عمقه. أمين يراها الشرط الضروري لأي تحرر حقيقي، ويعتبر أن أي مشروع قومي أو تحرري سيفشل إذا لم يتجاوز الرأسمالية. سعيد، بعد تجربة مريرة مع اليسار الغربي والمنظمة الفلسطينية، أصبح متشككاً في كل الأيديولوجيات الكبرى، وفضّل الدفاع عن العدالة والحق والكرامة الإنسانية بلا أفق اشتراكي واضح.
في أسلوب الكتابة والتواجد العام يتجسد الفرق الأخير. أمين يكتب بلغة اقتصادية سياسية حادة، كتباً ثقيلة مليئة بالأرقام والجداول والتحليلات الهيكلية، وكان يخاطب المناضلين والحركات. سعيد يكتب بلغة أدبية ساحرة، نصوصاً مفتوحة، وكان يخاطب الضمير الإنساني العالمي، وخصوصاً الجمهور الغربي الليبرالي.
مات سعيد في 2003 وهو يعرف أن المعركة الثقافية طويلة، لكنه رأى في حياته كيف بدأ الاستشراق ينهار في الجامعات الغربية نفسها. مات أمين في 2018 وهو يرى أن المعركة الاقتصادية بدأت تُربح فعلاً في شنغهاي وبكين وموسكو وبرازيليا.
في 2025، نحن نعيش انتصاراً مزدوجاً غريباً: السردية الغربية عن «الشرق» تنهار يوماً بعد يوم بفضل سعيد وتلاميذه، وقانون القيمة العالمي الغربي يتصدع يوماً بعد يوم بفضل أمين ومن نفّذوا فكرة الانفصال.
كلاهما كان محقاً في سلاحه. كلاهما كان ناقصاً بدون الآخر.
سعيد فكّك الغرب في رأسه. أمين بدأ يفكّكه في الواقع.
المعركة واحدة، والسلاحان مكملان، والنصر لم يكتمل بعد.
……..
مقارنة بين سمير أمين وفرانتز فانون نارٌ واحدة احترقت في جيلين مختلفين
كلاهما من أبناء الاستعمار المباشر، وكلاهما جعل من العنف الاستعماري نقطة انطلاق لا رجعة عنها، وكلاهما كتب بلغة النار التي لا تهدأ. لكن فانون احترق في عشر سنوات (1952-1961) ومات في السابعة والثلاثين، وأمين عاش سبعة وثمانين عاماً (1931-2018) وراقب العالم يتغيّر ببطء مؤلم. الأول كان طبيباً نفسانياً ثورياً عاش العنف اليومي في الجزائر، والثاني اقتصادي سياسي شاهد العنف من بعيد لكنه حلّله بهدوء قاتل.
يبدأ الاشتعال في نفس النقطة. فانون يكتب في «معذبو الأرض» (1961): «الاستعمار نظام عنف شامل، لا يُهزم إلا بعنف أشمل». أمين يكتب بعد أربعين سنة في «ما بعد الرأسمالية المتوحشة» (2004): «الإمبريالية ليست مجرد استعمار قديم، بل استغلال عالمي مستمر، ولا يُهزم إلا بانفصال جذري عن نظامه الاقتصادي». كلاهما يرفض أي إصلاح، كلاهما يقول إن التحرر ليس مفاوضة بل قطيعة.
لكن العنف عند فانون جسدي ونفسي وفوري. يرى أن المستعمَر لا يتحرر إلا حين يقتل المستعمر بيده، لأن فعل القتل وحده يعيد له كرامته الإنسانية المسروقة. أمين يرفض العنف كاستراتيجية مركزية، ويرى أن العنف الحقيقي اليوم هو عنف البنية الاقتصادية العالمية، وأن المعركة الكبرى ليست في الشارع فقط بل في كسر قانون القيمة، في بناء تنمية ذاتية مركز، في الانفصال المنظّم والطويل الأمد.
في مسألة الدولة القومية يكشف الفرق عن عمقه. فانون يحذّر في الفصل الأخير من «معذبو الأرض» من أن البرجوازية الوطنية ستحل محل المستعمر وتُعيد إنتاج الاستغلال بوجوه محلية. أمين يقول الشيء نفسه لكنه يضيف أملًا: الدولة القومية يمكن أن تكون أداة تحرر إذا سيطرت عليها قوى شعبية واعية، ويضرب المثل بالصين وفيتنام وكوبا. فانون لم يعش ليرى دولة ناجحة في الانفصال، فكتب نهاية سوداء. أمين عاش ليرى الصين تفعل ذلك، فكتب نهاية مفتوحة.
في تقييم أوروبا يتّفقان في الكره ويفترقان في الاستراتيجية. فانون يقول: «دعونا لا نُقلّد أوروبا، دعونا نبحث عن شيء آخر تماماً». أمين يقول الشيء نفسه لكنه يضيف: «لكن علينا أن نعرف أوروبا جيداً لنعرف كيف نخرج منها». فانون يريد أن يولد الإنسان الجديد من الرماد، أمين يريد أن يبني عالماً جديداً من الاقتصاد والسيادة والتخطيط.
في مسألة الفلاحين والبروليتاريا يلتقيان بقوة. فانون يرى الفلاحين هم الطبقة الثورية الحقيقية في الأطراف، لأن البروليتاريا الصناعية الصغيرة متورطة مع المستعمر. أمين يقول الشيء نفسه لكنه يضيف أن الثورة الفلاحية وحدها لا تكفي، يجب أن تُكمل بتصنيع وطني وتخطيط مركزي.
مات فانون في 1961 وهو يعتقد أن الثورة الجزائرية قد تكون البداية، ثم رأى من قبره كيف تحولت الجزائر إلى دولة ريعية فاسدة. عاش أمين ليرى الجزائر تفشل، ثم ليرى الصين تنجح، ثم ليرى بريكس+ تولد، فكتب في آخر أيامه: «المعركة لم تنتهِ، لكننا بدأنا نربحها».
فانون كان صرخة الغضب التي لا تزال تُسمع في كل انتفاضة. أمين كان الاستراتيجي البارد الذي أعطى الغضب عنواناً وعملة وخارطة طريق.
فانون قال: «كل جيل يجب أن يكتشف مهمته، إما أن ينفذها أو يخون». أمين قال: «مهمة جيلنا هي الانفصال، ونحن بدأنا ننفذها».
في 2025، نار فانون لم تنطفئ، لكنها وجدت أخيراً من يحولها إلى مشروع. نار فانون كانت الوقود. خارطة أمين كانت الطريق.
كلاهما كان ضرورياً. كلاهما كان محقاً. كلاهما يكمل الآخر، حتى لو لم يلتقيا يوماً.
……..
مقارنة بين سمير أمين وكارل ماركس
التلميذ الذي تجرأ على تعديل الأستاذ، والأستاذ الذي لم يعش ليرى العالم الذي تنبأ به
كلاهما ينتمي إلى نفس العائلة الفكرية، وكلاهما يرى التاريخ كصراع طبقي، وكلاهما يعتبر الرأسمالية نظاماً تاريخياً محدود الزمن. لكن ماركس كتب في قلب أوروبا الصناعية في منتصف القرن التاسع عشر، وأمين كتب في قلب الأطراف المستعمَرة في النصف الثاني من القرن العشرين والقرن الحادي والعشرين. الأول رأى الرأسمالية وهي تُولد وتنمو، والثاني رآها وهي تصل إلى مرحلة العولمة والأزمة الهيكلية العالمية.
ماركس يكتب في «رأس المال» (1867) أن الرأسمالية تنتج قبرها بنفسها من خلال قانون تراكمها الداخلي وتناقضها الأساسي بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج. أمين يقبل التحليل كاملاً لكنه يضيف تعديلاً جذرياً: في عصر الإمبريالية، لم تعد التناقضات تتركز فقط داخل الدول القومية المتقدمة، بل انتقلت بشكل حاسم إلى المستوى العالمي بين مركز وأطراف. البروليتاريا الصناعية الأوروبية لم تعد الطبقة الثورية الوحيدة أو حتى الرئيسية، بل أصبحت شعوب الأطراف كلها، بفلاحيها وعمالها ومثقفيها، هي البروليتاريا العالمية الجديدة.
ماركس يقول إن الثورة ستبدأ في البلدان الأكثر تقدماً صناعياً لأن التناقضات فيها أكثر نضجاً. أمين يقلب الطاولة تماماً: الثورة لن تبدأ (ولم تبدأ) في المركز، بل في الأطراف، لأن المركز نجح في تصدير أزماته وشراء استقراره على حساب الأطراف. الثورات الروسية والصينية والكوبية والفيتنامية كانت الدليل، والصين اليوم (2025) هي الدليل الأكبر.
ماركس يرى الدولة القومية كأداة طبقية للبرجوازية، ويتوقع أن تذبل بعد الثورة الاشتراكية. أمين يقول إن الدولة القومية في الأطراف هي السلاح الوحيد المتاح لمواجهة الإمبريالية، ويجب تقويتها وتسليحها بالتخطيط والانفصال كي تُصبح أداة تحرر لا أداة قمع. الاشتراكية في الأطراف لا يمكن أن تبدأ بإلغاء الدولة، بل باستخدامها ضد النظام العالمي.
ماركس يركز على قانون القيمة وكيف يحكم الإنتاج داخل المصنع وداخل السوق القومية. أمين يأخذ نفس القانون ويضعه على المستوى العالمي: هناك قانون قيمة عالمي واحد يُفرض من المركز، وهو الذي يحدد أن ساعة عمل في الأطراف تساوي جزءاً يسيراً من ساعة عمل في المركز. الاستغلال لم يعد فقط بين رأس المال والعمل داخل بلد واحد، بل أساساً بين المركز والأطراف على مستوى الكوكب كله.
ماركس يتوقع أن الرأسمالية ستنهار من الداخل بسبب انخفاض معدل الربح وتركز الثروة. أمين يقول إن الرأسمالية نجحت في تأجيل انهيارها مئة وخمسين سنة بفضل الاستعمار ثم الإمبريالية ثم العولمة، لأنها وجدت دائماً أطرافاً جديدة تُفرّغها من فائضها. لكن هذه المرة لم يعد هناك أطراف جديدة، والأطراف القديمة بدأت تُغلق أبوابها (الصين، بريكس+، الجنوب العالمي المنتفض)، فالانهيار أصبح حتمياً لكن بطريقة مختلفة عما توقعه ماركس.
ماركس يكتب عن الشيوعية كمجتمع بلا طبقات وبلا دولة. أمين لا يتحدث كثيراً عن الشيوعية البعيدة، بل عن مرحلة طويلة من «بناء الاشتراكية» في الأطراف، مرحلة ضرورية من الانفصال والتنمية الذاتية المركز والديمقراطية الشعبية قبل أي حديث عن ذبول الدولة.
ماركس مات في 1883 وهو يعتقد أن الثورة قد تكون وشيكة في أوروبا. أمين مات في 2018 وهو يرى أن الثورة العالمية بدأت فعلاً، لكن ليس في أوروبا، بل في الأطراف، وبشكل بطيء ومنظّم وجماعي وليس بانفجار بروليتاري واحد.
ماركس هو الأب الذي رأى الطفل (الرأسمالية) يُولد. أمين هو الابن الذي رأى الطفل يكبر ويصبح وحشاً عالمياً، ثم بدأ يرى الوحش يُصاب بالشيخوخة ويفقد أنيابه.
ماركس قال: «ستنهار الرأسمالية من تناقضاتها الداخلية». أمين قال: «صحيح، لكنها لن تنهار لوحدها، ستنهار فقط إذا أغلقت الأطراف أبوابها في وجهها».
ماركس أعطى النظرية. أمين عدّل النظرية لتناسب العالم الذي لم يره ماركس.
في 2025، الصين وبريكس+ والجنوب العالمي المنتفض يمشون على الطريق الذي رسمه أمين، مستخدمين أدوات ماركس. الأستاذ لم يرَ تلاميذه ينفذون نظريته، لكن التلميذ الأكثر جرأة فعل ذلك، وغيّر النظرية قليلاً كي تُنفَّذ أخيراً.
ماركس كان الحلم. أمين كان الجسر بين الحلم والواقع.
التاريخ لم ينتهِ، لكن المسيرة بدأت، وبدأت من حيث لم يتوقع ماركس، وبالطريقة التي عدّلها أمين.
…….
تأثير سمير أمين على الاشتراكية الصينية
قراءة في التلاقي بين النظرية والتجربة
يُعدّ سمير أمين واحداً من أبرز المفكرين الماركسيين في القرن العشرين الذي رأى في التجربة الصينية دليلاً حياً على صحة نظريته في «الانفصال» عن النظام الرأسمالي العالمي، لكنه لم يكن له تأثير مباشر أو رسمي على صانعي السياسات في بكين. تأثيره كان أعمق وأوسع: تحليلياً وثورياً، يُساهم في تفسير الاشتراكية الصينية كمشروع سيادي يتحدى الهيمنة الغربية، ويُلهِم اليسار العالمي في قراءة الصين كبديل عن العولمة الليبرالية. في الوقت نفسه، كانت الصين مصدر إلهام أمين نفسه، خاصة في السبعينيات والثمانينيات، حيث رأى في الثورة الماوية نموذجاً للتنمية الذاتية المركَّز. هذا التلاقي ليس صدفةً؛ إنه جزء من حوار تاريخي بين الجنوب العالمي والشرق الاشتراكي، حيث أصبحت الصين في نظر أمين «أول دولة كبرى تنجح في الانفصال النسبي عن قانون القيمة العالمي الذي يديره المركز».
بدأ تأثير أمين الفكري على فهم الاشتراكية الصينية في السبعينيات، حين كان يُحلِّل الثورة الماوية كمحاولة لكسر التبعية الاقتصادية. في كتابه «التراكم على الصعيد العالمي» (1970)، يصف أمين الصين كمثال نادر لدولة طرفية تتحدى المركز من خلال الاعتماد على القوى الشعبية والتخطيط المركزي، لا على الاندماج في السوق العالمية. هذا التحليل لم يكن مجرد إعجاب؛ إنه أساس لنظريته في «الانفصال» (delinking)، حيث يرى أن الصين نجحت جزئياً في فصل اقتصادها عن الدورة الرأسمالية العالمية، مما سمح لها ببناء قاعدة صناعية ذاتية. في مقالته «الصين 2013» المنشورة في مجلة Monthly Review، يقول أمين صراحة: «الصين هي أول دولة كبرى في التاريخ الرأسمالي تنجح في الانفصال النسبي عن قانون القيمة العالمي، دون أن تصبح بدورها مركزاً إمبريالياً كلاسيكياً». هنا، يُقدِّم أمين تفسيراً يُعيد قراءة الإصلاحات الدينغ شياو بينغية كامتداد للثورة الماوية، لا كانهيار لها، مما أثر على اليسار العالمي في فهم «الاشتراكية السوقية» كاستراتيجية انتقالية، لا تناقضاً مع الاشتراكية الأساسية.
التأثير غير المباشر يتجلَّى في كيف ساعد أمين اليسار الصيني والدولي على الدفاع عن النموذج الصيني أمام الانتقادات الغربية. في كتابه «نظرية وممارسة مشروع الاشتراكية السوقية الصيني» (2004)، يناقش أمين كيف أصبحت الصين «الدولة الوحيدة الكاملة السيادة الناشئة التي نجحت في الانفصال دون اتباع مراحل التطور الرأسمالي التقليدية». هذا التحليل أصبح مرجعاً للمفكرين الصينيين واليساريين في أوروبا وأمريكا اللاتينية، الذين استخدموه للدفاع عن الصين أمام اتهامات «الرأسمالية المتوحشة». على سبيل المثال، في مقالة «النظرة نحو الصين: التعددية القطبية كفرصة لأمريكا اللاتينية» (2022)، يُستشهد بأمين ليُفسَّر كيف أصبحت الصين نموذجاً للدول النامية في بناء اقتصاد سيادي يجمع بين السوق والتخطيط، مما أثر على نقاشات اليسار في البرازيل وفنزويلا حول «الاشتراكية في القرن الحادي والعشرين».
ومع ذلك، لم يكن التأثير متبادلاً أو مباشراً؛ الصين لم تُذكر أمين في وثائقها الرسمية، لكن أفكاره عن «التراكم بالنزع» و«الانفصال» تُشبه نقاشات المفكرين الصينيين حول كيفية الحفاظ على السيادة في عصر العولمة. في مقالته «الصين والاشتراكية السوقية وهيمنة الولايات المتحدة» (2013)، يحذِّر أمين من أن الصين قد تُعاد دمجها في النظام الرأسمالي إذا لم تُكمل ثورتها الاشتراكية، وهو تحذير أثر على نقاشات داخل اليسار الصيني حول «الازدهار المشترك» تحت شي جين بينغ، حيث أُعيد التأكيد على السيطرة الدولة على القطاعات الاستراتيجية لتجنُّب الاندماج الكامل في العولمة الليبرالية.
في الختام، تأثير أمين على الاشتراكية الصينية ليس تأثيراً سياسياً مباشراً، بل فكرياً ونظرياً عميقاً، حيث جعل من الصين رمزاً للانفصال الجماعي، وألهَم اليسار العالمي (بما في ذلك الصيني) في قراءة التجربة الصينية كتحدٍّ للهيمنة الغربية. كما قال أمين في آخر كتاباته: «الصين ليست إمبريالية جديدة، بل أول دولة كبرى تثبت أن التبعية ليست قدراً، وأن الاشتراكية السوقية يمكن أن تكون جسرًا نحو عالم ما بعد الرأسمالية». هذا التحليل لم يغيِّر الصين مباشرة، لكنه غيَّر كيف يُقرَأ العالم، وكيف يُفهَم الجنوب نفسه كفاعل تاريخي.
#احمد_صالح_سلوم (هاشتاغ)
Ahmad_Saloum#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
«الفراغ العظيم: انهيار النظام الإمبريالي وإمكانية العالم الج
...
-
من أوشفيتز إلى غزة: دراسة نقدية أدبية في شهادات بريمو ليفي و
...
-
«قمرٌ على سريرٍ وميلٌ في قامة» كتيب حول مداخلة في الشعر العر
...
-
-من أوشفيتز إلى غزة: ذاكرة الناجين وصرخة الأحياء- ..بين شهاد
...
-
«دمٌ تحت الشمس ودمعٌ تحت القمر» مقارنة بين رواية رجال تحت ال
...
-
سوريا الأسد: مقاومة العقل أمام دواعش الريال والدرهم
-
رواية : ارض الرماد والأنين ..فصلان
-
رواية : شجرةُ لينَ تُضيءُ الكونَ
-
الصين: أمل البشرية في اشتراكية عالمية
-
العقوبات: مِعول السيادة
-
إمبراطوريات إبداعية بلا متاعب
-
سلاح الكرامة والسيادة في مواجهة نفق الدولة الفاشلة
-
«الجنجويد والدعم السريع: استعمار جديد في السودان»..ملخص كتاب
...
-
من تأسيس الكيان الوهابي الى غرف الموك وخلايا التجسس في اليمن
-
خرافة الاقتصاد الإسلامي: أسطورة خليجية في خدمة الإمبراطورية
...
-
فخ أوكرانيا: دروس التاريخ تتحدث، والناتو يستمع بصمت
-
خيانة مقنعة: رفع العقوبات ودورة النهب الاستعماري
-
خوارزميات الاحتكارات الأمريكية: حرب منهجية على الوعي الاجتما
...
-
محميات الخليج: بيادق وول ستريت في مسرح العرائس الصهيوني وفشل
...
-
طوفان الأقصى وانهيار الهوية الاقتصادية الإسرائيلية: هزيمة اس
...
المزيد.....
-
اليوم الرابع لاعتصام “البوابة نيوز”.. متضامنون مع الصحفيين
-
احتجاجات عمال “مياه الشرب” مستمرة
-
A Bold Campaign to Confront Global Crises
-
«الديمقراطية»: العدوان الإسرائيلي تحدٍ لمجلس الأمن والأطراف
...
-
ترامب يقول إنه سيجتمع مع رئيس بلدية نيويورك زهران ممداني ويص
...
-
السودان: حرب الجنرالات تدمر البلد وتقتل الشعب
-
العدد 628 من جريدة النهج الديمقراطي
-
العدد 629 من جريدة النهج الديمقراطي
-
الصحراء الغربية: استعداد جزائري لدعم وساطة بين البوليساريو و
...
-
Reflections on Zohran Mamdani’s Victory from the Global Sout
...
المزيد.....
-
النضال الآن في سبيل ثورة اشتراكية جديدة
/ شادي الشماوي
-
الماركسية والمال والتضخم:بقلم آدم بوث.مجلة (دفاعا عن الماركس
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
الأسس المادية للحكم الذاتي بسوس جنوب المغرب
/ امال الحسين
-
كراسات شيوعية(نظرية -النفايات المنظمة- نيقولاي إيڤانو&
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
قضية الصحراء الغربية بين تقرير المصير والحكم الذاتي
/ امال الحسين
-
كراسات شيوعية(الفرد والنظرة الماركسية للتاريخ) بقلم آدم بوث2
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
كراسات شيوعية (العالم إنقلب رأسًا على عقب – النظام في أزمة)ق
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
الرؤية الرأسمالية للذكاء الاصطناعي: الربح، السلطة، والسيطرة
/ رزكار عقراوي
-
كتاب الإقتصاد السياسي الماويّ
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية(النمو السلبي: مبدأ يزعم أنه يحرك المجتمع إلى ا
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
المزيد.....
|