أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - احمد صالح سلوم - رواية : ارض الرماد والأنين ..فصلان















المزيد.....



رواية : ارض الرماد والأنين ..فصلان


احمد صالح سلوم
شاعر و باحث في الشؤون الاقتصادية السياسية

(Ahmad Saloum)


الحوار المتمدن-العدد: 8527 - 2025 / 11 / 15 - 13:22
المحور: الادب والفن
    


الفصل الأول:

يلتصق التراب بالسماء في أفق من الدخان المتيبس كجلد ميت، في شمال غزة ..هناك ، كانت نادية تسير بخطى ثقيلة، كأن كل قدم تزرع في الأرض جرحاً جديداً. كان نوفمبر 2024، والريح الباردة تحمل رائحة البارود المختلطة بدماء الأمس، دماء لم تجف بعد، بل تتخثر في تجاعيد الطريق المحفور بالدبابات. عيناها، سوداوين كليلة الصحراء التي ابتلعت أجدادها، تخفيان تحت رموشها الطويلة ذكريات زوج مفقود في قصف سابق، قصف جعل من بيتهم حفرة سوداء، ومن أطفالهم أيتاماً يتسولون الخبز من أيدي الغرباء. ثلاثة أطفال ينتظرون في خيمة مهترئة، جدرانها من النايلون الممزق، سقفها يتسرب منه المطر كدموع السماء على مصائب الأرض. الحاجز الإسرائيلي يلوح أمامها، بنيته الخرسانية المسلحة بأبراج المراقبة، يشبه وحشاً حديدياً يبتلع كل من يقترب، فمه مفتوح على مصراعيه، أنيابه كاميرات ترصد كل حركة، عيونه رشاشات جاهزة للبصق بالرصاص. توقفت نادية أمام الجنود، أحدهم يرتدي خوذة مائلة على رأسه كتاج الطغيان، عيناه زرقاوان كالثلج القاتل الذي يذيب الروح قبل الجسد. "هويتك"، قال بالعبرية المقطعة، كلماته حادة كشفرات، وهي تدرك أن هذا مجرد بداية، بداية ليلة طويلة من الظلام الذي سيغلف حياتها. في تلك اللحظة، شعرت بيد خفية تضغط على صدرها، كأن الاستعمار نفسه يتنفس داخل رئتيها، يستنشق هواءها، يسرق أكسجين كرامتها. سحبوها إلى غرفة جانبية، جدرانها ملطخة ببقع غامضة، بقع دم جافة أو عرق أو بول، لا فرق، فكلها آثار لأجساد سابقة مرت من هنا، أجساد تحولت إلى أشلاء نفسية. الباب يُغلق بصوت يشبه صرخة مكبوتة، صرخة امرأة أخرى، رجل آخر، طفل ربما، صرخات تتردد في الجدران كأرواح محتجزة. بدأ الاستجواب بكلمات عادية، أسئلة عن حماس، عن الأنفاق، عن الجيران، لكنها سرعان ما تحولت إلى ضربات على كتفيها، كل ضربة تذكرها بتاريخ شعبها المغتصب، تاريخ من النكبة إلى اليوم، حيث الاغتصاب ليس جسدياً فقط، بل أرضاً وتاريخاً وهوية. الجنود يضحكون، أصواتهم تتردد كصدى في كهف الظلم، ضحكات فارغة، ميكانيكية، كأنها صادرة عن آلات وليس بشر. أمرها أحدهم بخلع معطفها، ثم قميصها، وهي تشعر بالبرد يتسلل إلى عظامها كسم استعماري ينتشر ببطء، يجمد الدم في عروقها، يحول جسدها إلى تمثال من الثلج المكسور. "صوروني عارية"، همست لنفسها، لكن الصوت لم يخرج، علق في حلقها ككتلة من الدمع المجمد. الكاميرا تومض، فلاش أبيض يعمي عينيها، والعالم يتقلص إلى نقطة سوداء في روحها، نقطة تبتلع الذكريات، الأمومة، الأنوثة. بعد ساعات، تركوها مقيدة، يديها مكبلتان خلف ظهرها، جسدها يرتجف كورقة في عاصفة، وفكرها يسبح في بحر من الألم النفسي، حيث تفقد الهوية تدريجياً، كأنها ورقة تحترق ببطء، رمادها يتطاير في الهواء، يغطي وجهها، يدخل رئتيها، يخنقها. الجنود يخرجون، يغلقون الباب، لكن أصواتهم تبقى، تتسلل من تحت الباب كديدان، ديدان تتغذى على لحم الكرامة. في الظلام، تبدأ نادية ترى أشباحاً، وجوه نساء سابقات، عيونهن فارغة، أجسادهن ملطخة، يهمسن لها: "صبري، هذا قدرنا"، لكنها ترفض، ترفض أن يكون هذا قدراً، بل جريمة، جريمة ممنهجة، مدعومة بأسلحة أمريكية، بصمت أوروبي، بتواطؤ عالمي. البرد يزداد، جسدها يتحول إلى كتلة من الرعشة، حلماتها تتصلب من البرد لا من الإثارة، والعري يصبح سلاحاً، سلاحاً يستخدمه المحتل ليجردها من إنسانيتها، يحولها إلى حيوان، إلى شيء، إلى لا شيء. تسمع خطوات تقترب، قلبها يخفق بعنف، هل عادوا؟ هل هذه النهاية؟ لكن الخطوات تبتعد، تاركة إياها مع أفكارها، أفكار تتسلل كالسموم، تذكرها بأن هذا ليس جديداً، أن الاستعمار الغربي دائماً استخدم الجسد كساحة حرب، من الهنود الحمر إلى الأفارقة إلى الفلسطينيين، الاغتصاب أداة للسيطرة، للإذلال، لمحو الهوية. في عقلها، تتشكل صورة زوجها، يبتسم لها في الصباح، يقبل جبينها، يعد لها الشاي، صورة تتحطم الآن، تتحطم مع كل لحظة تمر في هذه الغرفة. الدموع تنهمر، ساخنة على خديها الباردة، ملحها يلسع الجروح الصغيرة على وجهها من الضربات الأولى. تتمنى الموت، لكن الموت يرفضها، يتركها حية لتعيش الجحيم، جحيم يُصنع بأيدي بشر يدعون الحضارة. الجدران تبدو وكأنها تتقارب، تضغط عليها، تسحقها، والسقف ينزل ببطء، يهدد بالانهيار. في هذه اللحظة، تبدأ نادية تفهم عمق الجريمة، ليست مجرد اعتقال، بل محاولة لاغتيال الروح، روح شعب بأكمله، من خلال جسد امرأة واحدة. الريح خارجاً تعوي، كأنها تنوح على غزة، على أطفالها، على مستقبل مسروق. وهي، مقيدة، عارية، تنتظر الجولة التالية، جولة ستكون أقسى، أبشع، لأن الاستعمار لا يعرف الرحمة، بل يتغذى على الألم، ينمو منه، يزدهر. جسدها يبدأ يفقد الإحساس، البرد يخدر الأطراف، لكن الروح تبقى مستيقظة، تصارع، تصرخ صرخة صامتة: "أنا هنا، أنا نادية، أنا فلسطين". لكن الصرخة لا تخرج، تبقى داخلها، تكبر، تصبح بركاناً، بركاناً سيثور يوماً، ربما ليس اليوم، لكن يوماً. الوقت يمتد، يصبح لزجاً، كل دقيقة ساعة، كل ساعة أبدية. تسمع أصواتاً بعيدة، صرخات من زنزانات أخرى، صرخات رجال، نساء، ربما أطفال، صرخات تمتزج مع ضحكات الجنود، سيمفونية الجحيم. وهي، في عريها، تشعر بالقرف يغزوها، قرف من أجسادهم، من أنفاسهم، من لمساتهم القادمة، قرف يتحول إلى غثيان، غثيان يعصر معدتها الفارغة. تتقيأ، لكن لا شيء يخرج، سوى مرارة الروح. الجدران تبدو وكأنها تنزف، تنزف دماً قديماً، دم ضحايا سابقين، دم يتساقط قطرة قطرة، يبلل الأرضية، يصل إلى جسدها العاري. في هذه اللحظة، تدرك نادية أنها ليست وحيدة، أن آلاف مرروا من هنا، آلاف تم اغتصابهم، تصويرهم، كسرهم، وأن هذا النظام، النظام الصهيوني، مدعوماً بالغرب، هو وحش لا يشبع، يتغذى على اللحم البشري، على الكرامة المسحوقة. عيناها تغمضان رغماً عنها، النعاس يتسلل كعدو خفي، لكنها تقاوم، تقاوم النوم لتبقى شاهدة، شاهدة على جريمتها، جريمة العصر. البرد يزداد، جسدها يرتعش بعنف، أسنانها تصطك، صوتاً يملأ الغرفة، صوت الرعب. وفجأة، صوت الباب يُفتح، خطوات ثقيلة تدخل، أنفاس حارة، رائحة العرق والتبغ، رائحة الوحشية. عيناها مفتوحتان الآن، ترى الظلال، ظلال الجنود، ظلال الموت. وتبدأ الجولة الجديدة، جولة من اللمسات القذرة، من الأوامر النابية، من الكاميرا التي تومض مرة أخرى، تومض كسيف يقطع آخر خيط من كرامتها. القرف يغزوها، قرف عميق، قرف من بشرية هؤلاء، من قدرتهم على الضحك أثناء الاغتصاب، على التصوير أثناء الإذلال، على الاستمتاع بالألم. جسدها يُستباح، روحها تُسحق، لكن في أعماقها، تنبت بذرة، بذرة مقاومة، بذرة ستزهر يوماً، ربما في وجه أطفالها، ربما في قصة تحكيها، قصة تثير القرف في العالم، قرفاً يدفعه للتحرك، للثورة، للعدالة. لكن الآن، في هذه الغرفة، هي وحيدة، عارية، مقيدة، تنتظر النهاية التي لا تأتي، تنتظر الصباح الذي قد لا يأتي، تنتظر الموت الذي يرفضها. والعالم خارجاً يستمر، كأن شيئاً لم يكن، كأن اغتصاب امرأة فلسطينية مجرد خبر عابر، مجرد إحصائية في تقرير حقوقي. لكن بالنسبة لها، هو نهاية عالم، وبداية آخر، عالم من الظلام، عالم من القرف الأبدي.


2
في زنزانة معسكر سدي تيمان، حيث يتجمد الهواء في حنجرة الجدران الخرسانية الملطخة ببقايا أنين سابق، استيقظت نادية على صوت أقدام ثقيلة تضرب الأرض كمطارق على نعش حي. كانت مقيدة إلى سرير حديدي صدئ، أطرافها ممدودة كضحية على مذبح استعماري قديم، عارية تماماً، بشرتها المُنهكة تلامس المعدن البارد الذي يلتصق بجلدها كلسعات جليدية تتغذى على دفئها المتبقي. الغرفة مظلمة إلا من ضوء خافت يتسرب من شق في الباب، ضوء أصفر قذر يرسم ظلالاً مشوهة على جسدها، ظلالاً تتحرك كأرواح الضحايا السابقين، تهمس بأسماء لم تعد تُنطق. الجندي الأول دخل، ملثماً بقناع أسود يخفي ملامحه لكنه لا يخفي رائحته، رائحة عرق متعفن مختلط بدخان السجائر والبارود، رائحة الوحشية المتراكمة عبر أجيال من الاحتلال. في يده عصا كهربائية، طرفها المعدني يومض شرارة زرقاء صغيرة، شرارة تُنذر بالجحيم. اقترب منها ببطء متعمد، خطواته تُقاس كإيقاع تعذيب، ثم ضغط العصا على بطنها، على السرة تحديداً، حيث يلتقي الجسد بالروح في نقطة هشة. الصعقة انفجرت كبرق في أحشائها، الألم ينتشر كالنار المتوحشة في عروقها، يمزق أعصابها، يجعل عضلاتها ترتجف في تشنج لا إرادي، جسدها يتقوس كقوس مكسور، فمها ينفتح في صرخة صامتة، صرخة تُخنق قبل أن تولد لأن الحلق جاف، جاف كأرض غزة تحت الحصار. "أخبرينا عن حماس"، صاح الجندي، صوته خشن كصوت آلة صدئة، لكن نادية صمتت، عيناها مغمضتان، فكرها يهرب إلى أطفالها، إلى وجوههم البريئة تحت الخيمة، إلى يد صغيرة تمسك بثوبها، إلى ضحكة طفل ينسى القصف للحظة. الصمت أغضبه، فرفع العصا وضرب بها كتفها، ثم صدرها، كل ضربة تترك أثراً أحمراً منتفخاً، أثراً ينزف عرقاً مالحاً يلسع الجراح. ثم جاء الاغتصاب الأول، مفاجئاً كالخنجر في الظلام، عنيفاً كانهيار جبل على روح، دخل جسدها بقوة حيوانية، يمزقها من الداخل، يحول أنوثتها إلى حفرة من الدم والألم. صرخت أخيراً، صرخة ممزقة كالنسيج القديم، لكنه ضرب رأسها بقبضة حديدية، ضربة جعلت الدم يسيل من جبهتها، دم حار يتدفق على عينيها، يعميها، يخلط بدموعها في خليط مالح مر. وفي تلك اللحظة، سمعت صوت الكاميرا، نقرة ميكانيكية باردة، فلاش يومض كسيف يقطع آخر خيط من خصوصيتها، يسجل اللحظة، يحول الألم إلى سلعة، إلى دليل على الانتصار الاستعماري. الدم يسيل بين فخذيها، دم مختلط بسائل لزج قذر، سائل الجندي الذي تركه داخلها كعلامة ملكية، كختم على عبدة. الاغتصاب انتهى، لكنه لم ينتهِ، تركها مفتوحة، مكسورة، جسدها يرتجف في نوبة من الغثيان، غثيان يعصر معدتها، يجعلها تتقيأ صفراء مرة، مرة تتساقط على صدرها العاري، تلسع حلماتها المتورمة. في عقلها، تتدفق ذكريات غسان كنفاني، رجال في الشمس، أجساد محترقة في شاحنة، لكن هنا الاحتراق داخلي، احتراق الروح في جسد حي. الجندي الثاني دخل، روسي الأصل، رفع قناعه ببطء مسرحي، بشرته بيضاء كالثلج الملوث، عيناه فارغتين كحفر في الجليد، فارغتين من الرحمة، مملوءتين بالازدراء الاستعماري. "Do you speak English?" سألها، صوته يحمل لكنة ثقيلة، لكنة المهاجر الذي يحمل حقد المستعمر الجديد. قالت لا، بصوت مكسور، فابتسم ابتسامة باردة، ابتسامة تشبه وجه تمثال شمعي. طلب منها مداعبة عضوه الذكري، كلماته بالعبرية الممزوجة بالروسية، كلمات قذرة تتردد في الغرفة كلعنات. رفضت، رأسها يهز بضعف، لكنه ضرب وجهها بكف مفتوح، ضربة جعلت شفتها تنفجر دماً، دم يتدفق على ذقنها، يسيل على عنقها، يصل إلى صدرها، يخلط بالعرق والقيء في خليط مقزز. ثم اغتصبها مرة أخرى، أبطأ هذه المرة، متعمداً الإذلال، يحرك جسده ببطء كأنه ينحت الجريمة في لحمها، يهمس كلماتاً نابية، يصفها بالكلبة، بالعاهرة، بالفلسطينية القذرة التي تستحق هذا وأكثر. الألم يتضاعف، الجرح الداخلي ينزف، الدم يتجمع تحتها على السرير، يشكل بركة صغيرة، بركة تلامس ظهرها، تبردها، تجعلها ترتجف أكثر. التصوير مستمر، الكاميرا في يد الجندي الأول، يصور من زوايا مختلفة، يركز على وجهها المشوه بالدم والدموع، على جسدها الممدود، على الأعضاء المُستباحة. القرف يغزوها، قرف عميق من رائحة أجسادهم، من لمساتهم الدهنية، من أنفاسهم الحارة على عنقها، من السائل الذي يتركونه داخلها، سائل يشبه السم، سم ينتشر في رحمها، يهدد بإفساد كل ما هو نقي. في لحظة، تتخيل نفسها طائراً، طائراً يحلق فوق غزة، يرى الأنقاض كجبال من الذكريات، يرى أطفالها يلعبون في حديقة خيالية، لكن الخيال يتحطم مع كل دفعة، مع كل ضربة، مع كل نقرة كاميرا. الاغتصاب الثاني ينتهي، يتركونها معلقة في الفراغ، مقيدة، عارية، الدم يتساقط قطرة قطرة، يشكل إيقاعاً مرضياً، إيقاع الجحيم. تسمع ضحكاتهم خارج الباب، ضحكات عالية، مبتهجة، كأنهم يحتفلون بانتصار، انتصار على امرأة واحدة، على شعب بأكمله. تتمنى الموت، تتمناه بكل جوارحها، لكن الحياة تتمسك بها، تتمسك كشجرة زيتون في أرض محتلة، جذورها عميقة، لا تستسلم. اليوم الأول يمتد كأبدية، والكرامة تتآكل كصخرة تحت أمواج التعذيب، لكن في أعماقها، تنبت شيء، شيء صلب، شيء يشبه الصمود، صمود الفلسطيني الذي يواجه الدبابة بحجر. البرد يزداد، الدم يجف على بشرتها، يشكل قشرة قذرة، قشرة تلسع كل حركة. تسمع أصواتاً أخرى، أنيناً من الزنزانة المجاورة، صرخة مكتومة، صوت جسد يُضرب، صوت كاميرا أخرى. هذا ليس حادثاً، بل نظام، نظام فاشي يتغذى على الاغتصاب، على التصوير، على الإذلال. في عقلها، ترى ديستوفسكي، راسكولنيكوف يعذب نفسه، لكن هنا التعذيب خارجي، مدعوم بأوامر عليا، بسياسة دولة. الجنود يتحدثون خارجاً، يخططون للجولة التالية، يتبادلون النكات، نكات عن جسدها، عن صراخها، عن الدم. القرف يتحول إلى غضب، غضب مكبوت، غضب يغلي في عروقها، يعطيها قوة لتبقى حية، لتتذكر كل وجه، كل لمسة، كل كلمة. الظلام يعم، لكن عيناها مفتوحتان، ترى في الظلام، ترى المستقبل، مستقبل تحكي فيه، تحكي للعالم، للأطفال، للتاريخ. السرير يئن تحتها، المعدن يصرخ، جسدها يصرخ، لكن الصرخة داخلية، داخلية كالبركان. وفي تلك اللحظة، تدرك أن الاغتصاب ليس نهاية، بل بداية، بداية لرواية، رواية تثير القرف في كل قلب بشري، قرف يدفع للثورة، للعدالة، للتحرر. لكن الآن، في هذه الزنزانة، هي وحيدة، مكسورة، تنزف، تنتظر الجولة الثالثة، الرابعة، الجولات التي ستأتي، جولات ستحولها إلى أسطورة، أسطورة الصمود في وجه الوحشية الصهيونية الفاشية.

3
مع اقتراب الفجر، حين يبدأ الظلام في الزنزانة بالتلاشي كدماء جافة على حافة الجرح، أدخل الجنود كلباً مدرباً، حيواناً أسود اللون، عضلاته مشدودة كأوتار آلة تعذيب، عيناه حمراء كفحم الجحيم، ينبح بجنون يهز الجدران الرطبة التي تتساقط منها قطرات ماء مالح كعرق الرعب. نادية، لا تزال عارية على السرير الحديدي، مقيدة الأطراف بسلاسل صدئة تقطع الجلد في كل حركة، تشعر بالرعب يجمد دمها في العروق، يحول أحشاءها إلى كتلة من الثلج المكسور، قلبها يخفق بعنف كطائر محبوس في قفص من اللحم. الكلب يقترب ببطء، أنفه يشم الهواء الملوث برائحة الدم والعرق والسائل المنوي الجاف، لسانه الأحمر الطويل يخرج من فمه المفتوح، يلمع كسيف مبلل، يتذوق الفريسة قبل اللمس. الجندي يمسك بالمقود الجلدي، يشدّه بقوة، يأمر الحيوان بالاقتراب أكثر، ونادية تشعر بأنفاس الكلب الحارة على فخذيها، رائحة فمه الكريهة تملأ الغرفة، رائحة لحم نيء ودم متعفن، رائحة الوحشية الممنهجة التي تجعل الاستعمار يستخدم حتى الحيوانات لسحق الإنسانية، ليحول الضحية إلى أقل من حيوان، إلى شيء يُشم ويُلعق ويُهدد بالعض. اللسان يلمس بشرتها، لمسة رطبة لزجة، تترك أثراً من اللعاب الملوث على جلدها، لعاب يحرق كحمض، يثير غثياناً يعصر معدتها الفارغة، يجعلها تتقيأ مرة أخرى، قيئاً أصفر مراً يتساقط على صدرها، يخلط بالدم الجاف والعرق واللعاب في خليط مقزز يشبه مستنقع الجحيم. الجنود يضحكون، ضحكات عالية مبتهجة، كأنهم يشاهدون عرضاً مسرحياً، مسرحية إذلال كتبها الاستعمار الصهيوني، إخراج أمريكي، تمويل أوروبي، والجمهور العالم الصامت. أحدهم يصور، الكاميرا في يده تركز على وجه نادية، على عينيها الواسعتين من الرعب، على فمها المفتوح في صرخة صامتة، على جسدها المقيد الذي يرتجف كورقة في عاصفة. الإذلال يصل ذروته، ذروة تجعل الروح تنفصل عن الجسد، تطير بعيداً، تحوم فوق الزنزانة، ترى نفسها من الأعلى، ترى الجسد المُستباح، المُلعوق، المُهدد، وتشعر بالقرف، قرف عميق من هؤلاء البشر الذين يستخدمون كلباً لكسر امرأة، قرف من أنفاسهم، من أيديهم، من أوامرهم، من قدرتهم على الضحك أثناء الجريمة. في تلك اللحظة، تتذكر تولستوي في وصف الروح الروسية المعذبة تحت الطغيان، لكن هنا الطغيان غربي، أمريكي-صهيوني، طغيان يتخفى خلف شعارات الديمقراطية والحضارة، بينما يمارس أبشع أشكال الهمجية. الكلب يُبعد أخيراً، لكن التهديد يبقى، الجندي يهمس: "إذا لم تتكلمي، سنتركه يغتصبك"، كلمات تتردد في الغرفة كلعنة، كلعنة تجعل الجسد يتقلص، الرحم ينقبض، الروح تنكمش. ثم يأتي الاغتصاب الثالث، بأداة معدنية باردة، عصا حديدية ملتوية، يدخلونها قسراً في مهبلها، يحركونها بعنف، يمزقون اللحم، يفتتون الأحشاء، الألم ينفجر كقنبلة داخلية، يمزقها من الداخل، يجعل الدم يتدفق بغزارة، دم أحمر غامق يشبه النفط، يتجمع تحتها، يبلل السرير، يتساقط على الأرضية في قطرات ثقيلة، قطرات تُصدر صوتاً كإيقاع الموت. صرخت حتى بح صوتها، صرخة ممزقة كالنسيج العتيق، صرخة تتردد في الزنزانة، تصطدم بالجدران، ترتد إليها، تملأ أذنيها، لكن لا أحد يسمع في هذا السجن المعزول، سجن مبني في الصحراء، محاط بالأسلاك الشائكة والكاميرات والكلاب، سجن يبتلع الصرخات، يحولها إلى وقود للتعذيب. التصوير مستمر، الجندي يصور الدم، يصور الأداة، يصور الوجه المشوه، يصور كل لحظة، كأنه يصنع فيلماً إباحياً للإذلال، فيلم سيُعرض في غرف مغلقة، سيُضحك عليه الجنود، سيُستخدم للابتزاز، للتهديد، لنشر الرعب. أحدهم يقول: "سننشرها على التواصل"، تهديد يحول الألم إلى خوف أبدي، خوف من أن ترى عائلتها، أطفالها، جيرانها، العالم، هذه الصور، صور امرأة عارية، دامية، مكسورة، صور تُستخدم لمحو العائلة، المجتمع، الهوية. في عقلها، تتخيل ماركيز في واقعيته السحرية: جسدها يتحول إلى شجرة، جذورها في غزة، أغصانها تمتد إلى السماء، أوراقها دم، دم يتساقط كمطر على الأرض المحتلة، يروي بذور المقاومة. لكن الخيال يتحطم مع كل حركة للأداة، مع كل ضربة على ظهرها، على رأسها، ضربات تترك كدمات أرجوانية، كدمات تشبه خرائط الاحتلال، خرائط الاستعمار الذي يرسم حدوده بدماء الضحايا. الجندي يشتمها بألفاظ نابية، كلمات تذكرها بأبو غريب، حيث الأمريكان فعلوا الشيء نفسه، تعرية، كلاب، أدوات، تصوير، ضحك، كلمات تتردد كصدى عبر المحيطات، من العراق إلى غزة، من أفغانستان إلى فلسطين، نفس الأسلوب، نفس الفاشية، نفس الدعم الغربي. تركوها يوماً كاملاً عارية، مقيدة، الدم يجف على فخذيها، يشكل قشرة قذرة، قشرة تلسع كل حركة، البرد يتسلل إلى عظامها، يجمد المفاصل، يحولها إلى تمثال من الثلج الدامي. ينظرون إليها من الفتحة في الباب، عيونهم تتلصص، تتغذى على عريها، على ضعفها، على ألمها، عيون فارغة، عيون الاستعمار الذي يرى في الضحية متعة، في الإذلال انتصاراً. ضحكاتهم تتردد كلعنة استعمارية، لعنة تتكرر عبر الأجيال، من الانتداب البريطاني إلى الاحتلال الصهيوني، نفس النظرة، نفس اللمسة، نفس القرف. جسدها يبدأ يفقد الإحساس، التنميل ينتشر، لكن الروح تبقى مستيقظة، تصارع، تتذكر، تُسجل كل وجه، كل صوت، كل رائحة. في لحظة، ترى أشباحاً، وجوه نساء فلسطينيات سابقات، عيونهن فارغة، أجسادهن ملطخة، يهمسن: "صبري، هذا ليس نهاية"، لكن الصبر يصبح سكيناً، سكين يقطع الروح ببطء. اليوم يمتد، الشمس ترتفع خارجاً، لكن في الزنزانة الظلام باق، ظلام damp مليء برائحة الدم واللعاب والسائل المنوي والقيء، رائحة تجعل الهواء ثقيلاً، ثقيلاً كالقيد، ثقيلاً كالتاريخ. تسمع خطوات تقترب مرة أخرى، قلبها يغرق، هل عادوا؟ هل هناك المزيد؟ نعم، هناك دائماً المزيد في نظام فاشي لا يشبع، نظام يتغذى على الألم، ينمو منه، يزدهر. الجندي يدخل، يحمل أداة جديدة، أداة أكبر، أكثر وحشية، وتبدأ الجولة الجديدة، جولة تجعل القرف يغزو كل خلية، كل ذرة، قرف من بشرية هؤلاء، من قدرتهم على الاستمتاع، على التصوير، على الضحك، قرف يتحول إلى غضب، غضب مكبوت، غضب سيثور يوماً، ربما في قصة، ربما في ثورة، ربما في دماء جديدة. لكن الآن، في هذه الزنزانة، هي وحيدة، دامية، مكسورة، تنزف، تنتظر، تنتظر الموت الذي لا يأتي، تنتظر الصباح الذي قد لا يأتي، تنتظر العالم الذي يشاهد ويصمت.


4
في اليوم الثاني، حين يبدأ الضوء الخافت بالتسلل من شق الباب كسيف صدئ يقطع ستار الظلام، جاء الاغتصاب الرابع، جماعياً هذه المرة، ثلاثة جنود يدخلون الزنزانة كظلال وحوش تتجسد من أساطير الاستعمار، أجسادهم ثقيلة كتاريخ الاحتلال المتراكم على صدر نادية، أنفاسهم حارة كلهب الجحيم، رائحتهم مزيج من العرق المتعفن والبارود والتبغ والسائل المنوي الجاف، رائحة تجعل الهواء كثيفاً، لزجاً، كأنه مستنقع يغرق الروح. الأول يقترب من رأسها، يمسك شعرها بقبضة حديدية، يجذبه بعنف حتى يتمزق الفروة، حتى تسيل الدموع من عينيها، دموع تخلط بالدم الجاف على خديها، ثم يدخل عضوه في فمها، يدفع بعنف، يخنقها، يجعلها تختنق، تلهث، تتقيأ حول اللحم الغريب، قيئاً أصفر يتدفق على ذقنها، يسيل على عنقها، يصل إلى صدرها، يخلط بالدم والعرق واللعاب في خليط مقزز يشبه مستنقع الإذلال. الثاني يتسلق السرير، يجلس على بطنها، وزنه يسحق أضلاعها، يضغط على رئتيها حتى تشعر بالاختناق، ثم يدخل جسدها من الأمام، يمزق الجرح القديم، يفتح اللحم المتورم، الدم يتدفق بغزارة، دم أحمر غامق يشبه النفط، يتجمع تحتها، يبلل السرير، يتساقط على الأرضية في قطرات ثقيلة، قطرات تُصدر صوتاً كإيقاع الجحيم. الثالث يقف خلفها، يرفع ساقيها المقيدتين، يدخل من الخلف، يمزق فتحة الشرج، يحول الألم إلى انفجار نووي داخل أحشائها، ألم يجعلها تصرخ صرخة ممزقة، صرخة تخرج من أعماق الروح، لكن الصرخة تُخنق في فمها بالعضو الأول، تتحول إلى أنين مكتوم، أنين يتردد في الزنزانة، يصطدم بالجدران، يرتد إليها، يملأ أذنيها. الثلاثة يتحركون في إيقاع واحد، إيقاع حيواني، ميكانيكي، كأنهم آلة تعذيب مصممة في معامل الاستعمار، يتناوبون، يتبادلون الأماكن، يضحكون، ضحكات عالية مبتهجة، كأنهم يحتفلون بعيد، عيد الإذلال، عيد سحق الكرامة، عيد محو الهوية. الكاميرا في يد جندي رابع يقف عند الباب، يصور كل لحظة، يركز على الوجوه، على الأعضاء، على الدم، على السوائل، على الدموع، على القيء، فيلم إباحي للرعب، فيلم سيُعرض في غرف مغلقة، سيُضحك عليه الجنود، سيُستخدم للابتزاز، للتهديد، لنشر الرعب في قلوب الفلسطينيين. نادية فقدت الإحساس بالزمن، الدقائق تمتد إلى ساعات، الساعات إلى أبدية، جسدها آلة مكسورة، روحها تسبح في فراغ، فراغ مليء بأنين المعتقلين الآخرين، أنين يتسرب من الزنزانات المجاورة، صرخات رجال ونساء تمتزج كسيمفونية الظلم، سيمفونية كتبها الاستعمار، أوركسترا الجنود، قائد الموسيقى السياسة الصهيونية. في عقلها، تتذكر ديستوفسكي في "الإخوة كارامازوف"، الصراع الداخلي بين الخير والشر، لكن هنا الشر ممنهج، سياسة دولة، مدعومة بأسلحة أمريكية، بصمت أوروبي، بتواطؤ عالمي، الشر يرتدي زياً عسكرياً، يحمل كاميرا، يضحك أثناء الاغتصاب. الضرب مستمر، على ظهرها، على رأسها، على كل مكان، كفوف مفتوحة، قبضات مغلقة، أحذية ثقيلة، كل ضربة تترك أثراً، كدمة أرجوانية، جرحاً مفتوحاً، دماً جديداً، الدم يتدفق من كل مكان، من الرأس، من الفم، من المهبل، من الشرج، يشكل بركة تحتها، بركة تلامس ظهرها، تبردها، تجعلها ترتجف أكثر، البرد يتسلل إلى عظامها، يجمد المفاصل، يحولها إلى تمثال من الثلج الدامي. في لحظة هدوء نادرة، بين دفعة وأخرى، همست لنفسها: "أنا فلسطين"، كلمات تتردد في عقلها كتعويذة، كدرع ضد الإذلال، درع يحمي الهوية، يحافظ على الروح، لكن الكلمات تتحطم مع الدفعة التالية، مع الضربة التالية، مع الضحكة التالية. الجنود يتحدثون عن نشر الصور، يصفون كيف سترى عائلتها، أطفالها، جيرانها، العالم، هذه الصور، صور امرأة عارية، دامية، مكسورة، مغتصبة من ثلاثة، مغتصبة بأجساد ثقيلة، بأعضاء قذرة، بأنفاس كريهة، تهديد يهدف إلى محو العائلة، المجتمع، الهوية، تهديد يحول الألم إلى خوف أبدي، خوف يعيش في الروح، ينمو، يزدهر. خارج السجن، غزة تئن تحت الركام، تسعة وستون ألف شهيد، مئة وسبعون ألف جريح، معظمهم نساء وأطفال، أطفال نادية بينهم، ينتظرون تحت الخيمة، يتسولون الخبز، يبحثون عن أم غائبة، أم تحولت إلى أسيرة، إلى ضحية، إلى رمز. الاغتصاب يستمر، الجنود يتناوبون، يتبادلون النكات، نكات عن جسدها، عن صراخها، عن الدم، عن السوائل، نكات قذرة، نابية، تتردد في الزنزانة كلعنات، لعنات الاستعمار الذي يرى في الاغتصاب أداة، أداة للسيطرة، للإذلال، لمحو الشعب. الكهرباء تعود، العصا تصعق أعصابها، على صدرها، على بطنها، على فخذيها، على الأعضاء التناسلية، الصعقة تجعل عضلاتها تتشنج، جسدها يتقوس، يرتجف، يصرخ صرخة داخلية، صرخة لا تخرج، تبقى محبوسة، تكبر، تصبح بركاناً. القرف يغزوها، قرف عميق من أجسادهم، من لمساتهم الدهنية، من أنفاسهم الحارة، من السائل الذي يتركونه داخلها، سائل يشبه السم، سم ينتشر في رحمها، يهدد بإفساد كل ما هو نقي، كل ما هو أمومة، كل ما هو أنوثة. في لحظة، ترى أشباحاً، وجوه أسلافها، مناضلين سقطوا في سجون الانتداب، في معتقلات النكبة، وجوه تقول: "صبري"، لكن الصبر يصبح سكيناً، سكين يقطع الروح ببطء. الجنود ينتهون أخيراً، يتركونها معلقة في الفراغ، مقيدة، عارية، دامية، الدم يتساقط قطرة قطرة، السوائل تتدفق، القيء يجف، اللعاب يلمع، الجسد مكسور، الروح تسبح. تسمع أصواتهم خارجاً، يتحدثون عن الجولة التالية، عن معتقلين آخرين، عن نساء ورجال، عن أطفال ربما، نظام فاشي لا يشبع، نظام يتغذى على الألم، ينمو منه، يزدهر. في عقلها، ترى هيمنغواي، العجوز والبحر، الرجل يصارع السمكة، لكن هنا المصارعة داخلية، مصارعة الروح ضد الجسد، ضد الإذلال، ضد الاستعمار. اليوم الثاني يمتد، الشمس ترتفع خارجاً، لكن في الزنزانة الظلام باق، ظلام damp مليء برائحة الدم والسوائل والقيء والعرق، رائحة تجعل الهواء ثقيلاً، ثقيلاً كالقيد، ثقيلاً كالتاريخ. جسدها يبدأ يفقد الإحساس، التنميل ينتشر، لكن الروح تبقى مستيقظة، تصارع، تتذكر، تُسجل كل وجه، كل لمسة، كل كلمة، كل ضحكة. في لحظة، تدرك أن الاغتصاب ليس نهاية، بل بداية، بداية لرواية، رواية تثير القرف في كل قلب بشري، قرف يدفع للثورة، للعدالة، للتحرر. لكن الآن، في هذه الزنزانة، هي وحيدة، مكسورة، تنزف، تنتظر، تنتظر الموت الذي لا يأتي، تنتظر الصباح الذي قد لا يأتي، تنتظر العالم الذي يشاهد ويصمت، عالم يدعم الوحش، يموّله، يسلحه، عالم يضحك مع الجنود، يصور مع الكاميرا، يغتصب مع الأعضاء. والقرف يبقى، قرف أبدي، قرف من بشرية هؤلاء، من قدرتهم على الاستمتاع، على الضحك، على التصوير، قرف يتحول إلى غضب، غضب مكبوت، غضب سيثور يوماً، ربما في قصة، ربما في ثورة، ربما في دماء جديدة.

5
مع مرور الأيام، حين يتحول الزمن في الزنزانة إلى كتلة لزجة من الألم المتراكم، كأن كل ساعة تُسكب في قارورة من السم الذي يتخثر ببطء، بدأت نادية ترى أشباحاً في الظلام الدامس، وجوه أسلافها تطفو على سطح الجدران الرطبة كانعكاسات في بركة دم متجمدة، وجوه جداتها اللواتي حملن الماء على رؤوسهن في أيام الانتداب، وجوه عماتها اللواتي دفنّ أزواجهن في النكبة، وجوه مناضلات سقطن في سجون الاحتلال الأولى، عيونهن فارغة لكنها مليئة بضوء خافت، ضوء الصمود الذي يرفض الإطفاء. التعذيب يتحول إلى طقس يومي، طقس فاشي يُنفَّذ بدقة ميكانيكية، كأن الجنود آلات مبرمجة في معامل الاستعمار، آلات لا تعرف الرحمة، لا تعرف الإنسانية، تعرف فقط الأوامر، الأوامر العليا التي تأتي من فوق، من قادة يجلسون في مكاتب مكيفة، يشربون القهوة، يضحكون على التقارير، يوقعون على أوراق الإعدام. كل صباح، أو ما تظنه صباحاً لأن الضوء الخافت يتغير قليلاً، يدخل جندي جديد أو قديم، يحمل أداة جديدة أو قديمة، يبدأ بالتعرية من جديد، وإن كانت عارية أصلاً، يتأكد من العري، يلمس الجسد البارد، يصفع الوجه المتورم، يشتم بألفاظ نابية، كلمات تتردد في الغرفة كلعنات، كلمات تصفها بالكلبة، بالعاهرة، بالإرهابية، بالفلسطينية القذرة التي تستحق أكثر من هذا، أكثر من الاغتصاب، أكثر من التصوير، أكثر من الإذلال. التصوير لم يتوقف، الكاميرا دائماً موجودة، في يد جندي، على حامل، معلقة في الزاوية، تسجل كل لحظة، كل دمعة، كل قطرة دم، كل أنين، كل صرخة مكتومة، أرشيف من الجرائم، أرشيف سيُستخدم يوماً، ربما للترفيه، ربما للابتزاز، ربما لإثبات الانتصار الاستعماري على امرأة واحدة، على شعب بأكمله. جسدها مغطى بكدمات، كدمات أرجوانية، صفراء، خضراء، خريطة من التعذيب، خريطة الاحتلال المرسومة على اللحم، الجروح مفتوحة، تنزف صديداً أصفر، رائحته كريهة تملأ الغرفة، رائحة الموت البطيء، الموت الذي يرفض الحضور، يتركها حية لتعيش الجحيم. لكن روحها تنمو، تنمو كشجرة في الصحراء، جذورها عميقة في التراب الفلسطيني، أغصانها تمتد إلى السماء، أوراقها دم، دم يتساقط كمطر على الأرض المحتلة، يروي بذور المقاومة. تتخيل أطفالها يلعبون في حديقة خيالية، حديقة خضراء بعيدة عن الحواجز، عن الدبابات، عن القنابل، يضحكون، يركضون، ينادونها "أماه"، صوت يتردد في عقلها، يعطيها قوة، قوة لتحمل الجولة التالية، الجولة التي تأتي دائماً، تأتي مع الجندي الروسي، الجندي ذو البشرة البيضاء، العينين الفارغتين، الذي يعود مرة أخرى، يرفع قناعه، يبتسم ابتسامة باردة، ابتسامة المنتصر، يحاول كسرها نفسياً، يصف عائلتها بالإرهابيين، يصف أطفالها بالحيوانات، يصف زوجها المفقود بالجثة، كلمات تُقصد لتقطع الروح، لكنها ترفض، ترفض بصمت، بصمت يغضبه، فيزداد الضرب، ضربات على الوجه، على الصدر، على البطن، ضربات تترك أثراً جديداً، جرحاً جديداً، دماً جديداً. في عقلها، ترى غوغول في سخريته من الطغيان، من البيروقراطية الروسية، لكن هنا الطغيان حقيقي، مدعوم أمريكياً، مدعوم بأسلحة، بأموال، بصمت، طغيان يرتدي زياً عسكرياً، يحمل عصا كهربائية، يصعق الجسد، يصعق الأعصاب، يجعل العضلات تتشنج، الجسد يتقوس، يرتجف، يصرخ صرخة داخلية. الشتم مستمر، ألفاظ نابية، كلمات تتعلق بالأم، بالأخت، بالزوجة، كلمات تُقصد للإذلال النفسي، لمحو الهوية، لتحويل الإنسان إلى شيء، إلى حيوان، إلى لا شيء. لكن نادية تتشبث بالهوية، تكرر في عقلها: "أنا نادية، أنا أم، أنا فلسطينية، أنا إنسانة"، تكرار يصبح تعويذة، تعويذة تحميها، تحمي روحها من الانهيار. الجنود يتغيرون، وجوه جديدة، أصوات جديدة، لكن الطقس واحد، التعرية، اللمس، الضرب، الاغتصاب، التصوير، الشتم، دورة لا تنتهي، دورة الجحيم الاستعماري. في لحظة، تسمع صوتاً من الزنزانة المجاورة، صوت امرأة تصرخ، صرخة مألوفة، صرخة تشبه صرختها، صرخة أخت في الألم، أخت في الإذلال، وتدرك أنها ليست وحيدة، أن آلاف النساء، الرجال، مرّوا من هنا، يمرون، سيمرون، نظام فاشي يتغذى على الأجساد، على الأرواح، على الكرامة. البرد دائم، الجسد عارٍ دائماً، النظر من الفتحة دائم، عيون تتلصص، عيون تتغذى، عيون فارغة، عيون الاستعمار. الطعام، إن جاء، خبز جاف، ماء مالح، طعام يُقصد للإذلال، للجوع البطيء، للموت البطيء. لكن الروح ترفض الموت، ترفض الاستسلام، تنمو، تكبر، تصبح عملاقة، عملاقة في عريها، في ألمها، في دمها. تتخيل نفسها طائراً، طائراً يحلق فوق السجن، فوق غزة، فوق فلسطين، يرى الأنقاض، يرى الشهداء، يرى الأطفال، يرى المقاومة، مقاومة تنبت من الدم، من الألم، من الإذلال. الجندي يعود، يصعق، يضرب، يشتم، يصور، لكن عيناها، عيناها تحملان ناراً، ناراً خفية، نار المقاومة، نار الصمود. في عقلها، ترى تشيخوف، الإنسان العادي تحت الضغط، لكن هنا الضغط استعماري، ضغط فاشي، ضغط يهدف للمحو، للإبادة. الدم يجف، الجروح تتقيح، الرائحة كريهة، رائحة الموت، لكن الحياة تتمسك، تتمسك كشجرة زيتون، جذورها في الأرض، أغصانها في السماء. تتمنى الموت، لكن الموت يرفض، يتركها حية، حية لتحكي، لتشهد، لتكون شاهداً على الجريمة، جريمة العصر، جريمة الاستعمار الصهيوني الفاشي. القرف دائم، قرف من اللمسات، من الأنفاس، من السوائل، من الضحكات، من الكاميرا، قرف يغزو كل خلية، لكنه يتحول، يتحول إلى قوة، قوة للصمود، للرواية، للثورة. الظلام يعم، لكن في الظلام، تنبت نور، نور خفي، نور الروح، روح لا تنكسر، روح تنمو، تنمو كشجرة في الصحراء، شجرة فلسطين.




6

أخيراً، بعد أسابيع امتدت كقرون من الجحيم المكثف، حين يصبح الزمن في الزنزانة مجرد أنين مستمر يتخثر في الجدران الرطبة كدماء لم تجف، أفرجوا عن نادية في تبادل أسرى، تبادل يُنفَّذ تحت أضواء كاشفة قاسية، أضواء تُعمي عينيها اللتين اعتادت الظلام، تُحرق بشرتها الشاحبة الملطخة بالكدمات والصديد. جسدها مكسور، عظامه تؤلمه كأنها مكسرة من الداخل، لحمها متورم، جروحه مفتوحة، تنزف صديداً أصفر كريه الرائحة، رائحة الموت البطيء الذي رافقها أياماً، لكن عيناها، عيناها السوداوان تحملان ناراً خفية، ناراً لم تُطفأ بالاغتصاب، بالضرب، بالتصوير، بالإذلال، ناراً تشتعل في أعماقها، تُضيء طريق العودة. سُلِّمت إلى سيارة الصليب الأحمر، أو ما يُشبهها، سيارة متهالكة، مقاعدها ملطخة ببقايا دماء أسرى سابقين، دماء جافة تُصدر صوتاً عند الجلوس، صوتاً يذكرها بكل لحظة في السجن، بكل لمسة قذرة، بكل ضحكة فاشية. الطريق إلى غزة طويل، الطريق محفوف بالحواجز، بالدبابات، بالجنود الذين ينظرون إليها بنظرات مألوفة، نظرات المنتصر، نظرات الذي يعرف ما حدث، يعرف ويبتسم ابتسامة خفية، ابتسامة القرف. جسدها ملفوف ببطانية رقيقة، بطانية لا تخفي الرائحة، رائحة الدم والعرق والسائل المنوي والقيء والصديد، رائحة الجحيم الاستعماري الذي يلتصق بها كظل، ظل لا يفارقها. في السيارة، تغمض عينيها، ترى فلاشات من الزنزانة، فلاشات الكاميرا، فلاشات الاغتصاب، فلاشات الضحك، لكنها تفتح عينيها، ترى السماء، سماء غزة المليئة بالدخان، دخان القصف، دخان الركام، دخان الشهداء، وتشعر بالحياة تعود، تعود ببطء، كشجرة زيتون تنبت من تحت الأنقاض. تصل إلى الخيمة، خيمة مهترئة في مخيم مؤقت، جدرانها من النايلون الممزق، سقفها يتسرب منه المطر، لكن فيها أطفالها، ثلاثة وجوه صغيرة، عيون واسعة، أيدٍ صغيرة تمتد إليها، تحتضنها، تحتضن جسدها المكسور، لا يعرفون السر، لا يعرفون الاغتصاب، التصوير، الإذلال، يعرفون فقط الأم، الأم التي عادت، الأم التي ستحميهم، ستحكي لهم يوماً، يوماً بعيداً. في الليل، حين ينام الأطفال، تجلس نادية وحدها، تحت ضوء مصباح كيروسين خافت، ضوء يرسم ظلالاً على وجهها المشوه، ظلال الكدمات، الجروح، الدموع، وتبدأ تحكي لنفسها القصة، تحكيها كرواية، رواية هيمنغواي، بسيطة وقاسية، كلمات قليلة، جمل قصيرة، لكن كل كلمة سكين، سكين تقطع الذاكرة، تقطع القرف، تقطع الفاشية. تتذكر الجندي الأول، الملثم، العصا الكهربائية، الصعقة على البطن، الألم الذي انتشر كالنار، الاغتصاب الأول، العنيف، المفاجئ، الدم بين الفخذين، صوت الكاميرا، النقرة الميكانيكية، الفلاش الأبيض. تتذكر الجندي الروسي، البشرة البيضاء، العينين الفارغتين، الطلب القذر، الرفض، الضرب على الوجه، الاغتصاب الثاني، الأبطأ، الأكثر إذلالاً، الكلمات النابية، الوصف بالكلبة، بالعاهرة. تتذكر الكلب، اللسان الرطب، اللعاب اللزج، الرائحة الكريهة، التهديد بالاغتصاب الحيواني، الضحكات العالية، الكاميرا تركز على الوجه، على الرعب. تتذكر الأداة المعدنية، الدخول القسري، التمزيق الداخلي، الدم الغزير، الصرخة المبحوحة، التصوير المستمر، التهديد بنشر الصور. تتذكر الاغتصاب الرابع، الجماعي، الثلاثة، الأجساد الثقيلة، الدخول من كل مكان، الفم، المهبل، الشرج، الاختناق، القيء، الدم، السوائل، الضحك، الكاميرا، الإيقاع الحيواني. تتذكر الأيام، الطقس اليومي، التعرية، اللمس، الضرب، الشتم، التصوير، الجروح المتقيحة، الرائحة الكريهة، البرد، الجوع، النظر من الفتحة، العيون التلصصية. كل ذكرى تقطع، تقطع الروح، لكن الروح تشفى، تشفى بالحكي، بالتذكر، بالشهادة. التعذيب لم يمحُ هويتها، لم يمحُ كرامتها، بل عززها، عززها كأن الألم نحت تمثالاً، تمثال مقاومة، تمثال فلسطيني، تمثال أمومة، تمثال أنوثة، تمثال إنسانية. في الليل، تسمع أصوات القصف البعيد، قصف يستمر رغم الاتفاق، اتفاق وقف إطلاق النار الذي انتهى، انتهى لكن الانتهاكات مستمرة، القتل مستمر، الاغتصاب مستمر، في السجون، في الحواجز، في المنازل. لكن نادية الآن حرة، حرة جسداً، حرة روحاً، حرة لتحكي، لتشهد، لتكون صوتاً، صوت الضحايا، صوت الآلاف، صوت غزة. تتخيل العالم يسمع، يسمع القصة، يرى الصور في خياله، يشعر بالقرف، قرف عميق من الممارسات، من الاغتصاب، من التصوير، من الضحك، من الفاشية، قرف يدفع للتحرك، للثورة، للعدالة. في الخيمة، تنام أخيراً، تنام نوماً عميقاً، نوم المنتصر، نوم المقاوم، وفي الحلم، ترى نفسها طائراً، طائراً يحلق فوق السجن، فوق غزة، فوق فلسطين، يحمل في منقاره بذرة، بذرة تنبت شجرة، شجرة زيتون، شجرة مقاومة، شجرة حرية. الصباح يأتي، الشمس تشرق على الركام، على الخيام، على الأطفال، على نادية، نادية التي عادت، عادت أقوى، أقوى من الاغتصاب، أقوى من الفاشية، أقوى من الاستعمار. القصة تبدأ، تبدأ بالحكي، بالشهادة، بالرواية، رواية تثير القرف، قرف يحرق الضمائر، يوقظ العالم، يدفعه للقضاء على الوحش، الوحش الصهيوني، الوحش الاستعماري، الوحش الفاشي. ونادية، في عريها السابق، في ألمها السابق، في دمها السابق، تصبح رمزاً، رمز الصمود، رمز المقاومة، رمز الحرية، حرية لفلسطين، حرية للإنسانية.



الفصل الثاني: أصوات من الظلال

………


1

في قلب غزة الجريحة، حيث تتراكم أكوام الركام كجبال من الذكريات المحترقة، والهواء ثقيل برائحة البارود المختلط بدماء الأطفال، كان محمد، الشاب الثمانية عشري، يقف قرب مركز توزيع المساعدات الإنسانية، يحمل في يده كيس طحين بالٍ، كيس يزن أقل من أحلامه لكنه أثقل من جوع عائلته. عيناه، بنيتان كتراب الأرض التي لم تعد ملكاً لأحد، تتطلعان إلى السماء بحثاً عن طائرة إغاثة، لكن السماء مغلقة، مغلقة كالسجون، مغلقة كقلوب المحتلين. الجوع يعصف بأحشائه، جوع يجعل المعدة تنقبض كقبضة حديدية، جوع يحول الإنسان إلى ظل، ظل يتمايل بين الأنقاض. فجأة، صوت الدبابات، صوت ثقيل يهز الأرض، يهز الروح، ثم الجنود ينزلون، أحذيتهم الثقيلة تدوس على الركام، على ألعاب الأطفال المكسورة، على صور العائلات المهجرة. أحدهم يشير إليه، إشارة حادة كالخنجر، "تعال"، بالعبرية المقطعة، كلمة واحدة تحمل أمراً، تهديداً، نهاية. محمد يتقدم بخطى مترددة، قلبه يخفق بعنف، يداه ترتجفان حول الكيس، الكيس الذي يمثل الحياة، الخبز، الأمل. الجنود يحيطون به، دائرة من الخوذات والرشاشات، عيون زرقاء باردة، عيون الاستعمار، عيون لا ترى إنساناً، ترى هدفاً، ترى فريسة. يسحبونه إلى شاحنة عسكرية، شاحنة خضراء قذرة، جدرانها ملطخة ببقع غامضة، بقع دم أو عرق أو بول، لا فرق، كلها آثار ضحايا سابقين. في الشاحنة، يبدأ الضرب، قبضات على الوجه، أرجل على البطن، ركلات على الظهر، كل ضربة تُصدر صوتاً مكتوماً، صوت اللحم يُسحق، صوت العظام تئن، الدم يسيل من أنفه، من فمه، دم حار يتدفق على قميصه الممزق، يخلط بالعرق، بالتراب، بالخوف. يصلون إلى المعسكر، معسكر سدي تيمان، معسكر الجحيم المقنع، أسوار عالية، أسلاك شائكة، كلاب تنبح، كاميرات ترصد، أبواب حديدية تُغلق بصوت يشبه صرخة مكبوتة. يُنزلونه من الشاحنة، يدفعونه إلى الأرض، يخلعون ملابسه بعنف، قميصاً، بنطالاً، حذاءً، حتى الداخلية، يتركونه عارياً تماماً، جسده النحيل يرتجف في الهواء البارد، بشرته الداكنة تتلألأ بعرق الرعب، عضلاته المتشنجة تُظهر عظاماً بارزة من الجوع، الجوع الذي رافقه أشهراً. يقفون حوله، ينظرون، يضحكون، ضحكات عالية، مبتهجة، كأنهم يشاهدون عرضاً، عرض إذلال، عرض سحق الكرامة. أحدهم يشتم، ألفاظ نابية، كلمات تتعلق بأمه، بأخته، بأبيه الشهيد، كلمات تُقصد لتقطع الروح، لتحول الإنسان إلى حيوان، إلى شيء، إلى لا شيء. الكاميرا موجودة، دائماً موجودة، في يد جندي، تركز على الجسد العاري، على الأعضاء، على الوجه المشوه بالدم والخوف، فلاش يومض، يعمي، يسجل، يحول اللحظة إلى أبدية. محمد يحاول تغطية نفسه، يداه ترتجفان، لكنهم يضربون يديه، يركلون ساقيه، يجبرونه على الوقوف مكشوفاً، مكشوفاً أمام الجنود، أمام الكاميرا، أمام العالم الصامت. الإذلال يبدأ، إذلال ممنهج، إذلال فاشي، إذلال يهدف لمحو الهوية، لسحق الرجولة، لتحويل الشاب إلى عبد، عبد يُعرى، يُضرب، يُشتم، يُصور. في عقل محمد، تتدفق ذكريات، ذكريات الطفولة، اللعب في الشوارع، كرة قدم متهالكة، أصدقاء سقطوا في القصف، أب يعلمه الصمود، أم تبكي على الخبز المفقود. الذكريات تتحطم مع كل ضربة، مع كل شتيمة، مع كل فلاش. الجنود يأمرونه بالركوع، يركلونه حتى يركع، ركبتاه على الأرض الخرسانية الباردة، الألم ينتشر في المفاصل، لكنه ألم جسدي، أقل من الألم النفسي، الألم الذي يمزق الروح. أحدهم يبصق عليه، بصقة لزجة تسقط على وجهه، على عينيه، على فمه، بصقة مالحة، قذرة، تحمل رائحة التبغ والكراهية. القرف يغزو محمد، قرف عميق من أجسادهم، من أنفاسهم، من لمساتهم، من بصقاتهم، قرف يعصر معدته، يجعله يتقيأ، قيء أصفر مر، يتساقط على الأرض، يخلط بالدم، بالبصق، بالتراب. الضحك يزداد، ضحك فاشي، ضحك استعماري، ضحك يتغذى على الألم، ينمو منه، يزدهر. يسحبونه إلى زنزانة، زنزانة صغيرة، جدران خرسانية، أرضية مبللة، رائحة بول وعرق ودم، رائحة الجحيم. يلقون به على الأرض، عارياً، مقيداً، يداه خلف ظهره، قدماه مكبلتان، جسده يرتجف من البرد، من الخوف، من الإذلال. الباب يُغلق، الظلام يعم، لكن الأصوات تبقى، أصوات الجنود خارجاً، يتحدثون، يضحكون، يخططون للجولة التالية. في الظلام، يبدأ محمد يرى أشباحاً، وجوه أصدقاء، أب، أم، وجوه تقول: "صبر"، لكن الصبر يصبح سكيناً، سكين يقطع ببطء. البرد يتسلل، الجسد يتنمل، لكن الروح مستيقظة، تصارع، تتذكر، تُسجل. هذا ليس حادثاً، بل نظام، نظام يعري، يضرب، يشتم، يصور، نظام فاشي مدعوم، مدعوم بأسلحة، بأموال، بصمت. القرف يبقى، قرف أبدي، قرف من بشرية هؤلاء، من قدرتهم على الإذلال، على الضحك، على التصوير. لكن في القرف، تنبت بذرة، بذرة صمود، بذرة مقاومة، بذرة ستزهر يوماً.



2


في أعماق الزنزانة، حيث يتكاثف الظلام كعلقة سوداء تتغذى على جدران الخرسانة المتشققة، والهواء يثقل برائحة البول الراكد والعرق المتعفن والدم المتخثر، استلقى محمد عارياً على الأرضية الباردة، جسده النحيل ممدود كضحية على مذبح الاستعمار، يداه مكبلتان خلف ظهره بقيود حديدية تقطع الجلد، قدماه مربوطتان بحبل خشن يحفر في الكاحلين، كل حركة تُصدر صوتاً خفيفاً، صوت اللحم يُمزق ببطء. البرد يتسلل إلى عظامه كسموم صامتة، يجمد الدم في العروق، يحول الأطراف إلى أعمدة جليدية، لكن الألم الجسدي يبدو تافهًا أمام الألم النفسي، ألم التعرية، ألم النظرة التلصصية، ألم الكاميرا التي لا تزال تُسجل من زاوية الزنزانة، عينها الحمراء تومض كل بضع دقائق، تومض كسيف يقطع آخر خيط من الخصوصية. الباب يُفتح فجأة، صوت المفصلات الصدئة يشبه صرخة مكبوتة، ويدخل جنديان، أحدهما طويل، ملثم، يحمل في يده زجاجة ماء بلاستيكية فارغة، لكنها ليست للماء، الآخر قصير، مكتنز، عيناه صغيرتان كحبات فحم بارد، يحمل عصا خشبية ملساء، نهايتها مدببة قليلاً. يقتربان ببطء متعمد، خطواتهما تُقاس كإيقاع تعذيب، أنفاسهما حارة، رائحتهما كريهة، مزيج من التبغ والعرق والكراهية المتراكمة. "قم"، يأمر الطويل بالعبرية، صوته خشن كصوت آلة صدئة، ويرفع محمد رأسه بصعوبة، عيناه مفتوحتان على وسعهما، لكن الخوف يجمد الدمع قبل أن يسيل. يركلونه حتى يقف، ركلات على الظهر، على البطن، على الفخذين، كل ركلة تُصدر صوتاً مكتوماً، صوت اللحم يُسحق، ثم يدفعونه إلى الحائط، يضغطون وجهه على الخرسانة الخشنة، الخد يُجرح، الدم يسيل، دم حار يتدفق على الرقبة، يصل إلى الصدر، يخلط بالعرق البارد. القصير يمسك الزجاجة، يقلبها بين يديه كأنه يتأمل لعبة، ثم يقترب من الخلف، يفصل ساقي محمد بعنف، يدخل الزجاجة قسراً في فتحة الشرج، دخول مفاجئ، عنيف، يمزق اللحم، يفتت الأحشاء، الألم ينفجر كقنبلة داخلية، يمزق محمد من الداخل، يجعله يصرخ صرخة ممزقة، صرخة تخرج من أعماق الروح، لكن الصرخة تُخنق في حلقه، تتحول إلى أنين مكتوم، أنين يتردد في الزنزانة، يصطدم بالجدران، يرتد إليه، يملأ أذنيه. الدم يتدفق بغزارة، دم أحمر غامق، يشبه النفط، يتجمع تحت قدميه، يبلل الأرضية، يتساقط في قطرات ثقيلة، قطرات تُصدر صوتاً كإيقاع الموت. الطويل يضحك، ضحكة عالية، مبتهجة، كأنه يشاهد عرضاً كوميدياً، ثم يخرج هاتفه، يصور، يركز على الزجاجة، على الدم، على الوجه المشوه بالألم، على الجسد المرتعش، فلاش يومض، يعمي، يسجل، يحول الجريمة إلى فيلم، فيلم إباحي للإذلال، فيلم سيُعرض في غرف مغلقة، سيُضحك عليه الجنود، سيُستخدم للابتزاز، لنشر الرعب. محمد يحاول المقاومة، يحاول دفع الزجاجة بجسده، لكنهم يضربون، ضربات على الرأس، على الظهر، على الأعضاء التناسلية، ضربات تُصدر صوتاً، صوت العظام تئن، صوت اللحم يُسحق. الزجاجة تتحرك، يدورونها، يدفعونها أعمق، يسحبونها، يعيدونها، حركة ميكانيكية، حركة فاشية، حركة تهدف للتمزيق، للكسر، لمحو الرجولة. الدم يزداد، السائل يتدفق، القيء يعصر المعدة، يخرج أصفر مر، يتساقط على الأرض، يخلط بالدم، بالبول الذي يخرج لا إرادياً، خليط مقزز، خليط الجحيم. الضحك يزداد، الشتائم تتدفق، ألفاظ نابية، كلمات تتعلق بالأم، بالأخت، بالأب، كلمات تُقصد لتقطع الروح، لتحول الشاب إلى حيوان، إلى شيء، إلى لا شيء. في عقل محمد، تتدفق ذكريات، ذكريات والده الشهيد، يده على كتفه، يعلمه الصمود، "لا تنحنِ"، لكن الانحناء قسري الآن، الانحناء أمام الزجاجة، أمام الضحك، أمام الكاميرا. الاغتصاب بالزجاجة يتكرر، يتكرر معه، يتكرر مع آخرين في الزنزانات المجاورة، أنين يتسرب من الجدران، صرخات مكتومة، أصوات زجاجات، أصوات ضحك، سيمفونية الجحيم، سيمفونية الاستعمار الفاشي. الجنود يتبادلون الأدوار، يتبادلون الزجاجة، يتبادلون النكات، نكات قذرة، نابية، عن الدم، عن الألم، عن الرجولة المفقودة. القرف يغزو محمد، قرف عميق من أجسادهم، من لمساتهم، من أنفاسهم، من الزجاجة الباردة، من الدم الحار، من الضحك، قرف يعصر الروح، يجعلها تتقيأ، تتقيأ ذكريات، تتقيأ هوية. لكن في القرف، تنبت بذرة، بذرة صمود، بذرة ستزهر يوماً، ربما في شهادة، ربما في ثورة. الاغتصاب ينتهي، يتركونه ملقى على الأرض، الزجاجة ملقاة بجانبه، ملطخة بالدم، بالسوائل، بالقذارة، جسده ينزف، يرتجف، يتنمل، لكن عيناه مفتوحتان، تريان في الظلام، تريان المستقبل، مستقبل يحكي فيه، يشهد، يكون صوتاً للآلاف.





3


في أعماق مستشفى الشفاء، حيث كانت الأرواح تتساقط كأوراق الخريف تحت أزيز الرصاص والقذائف، اعتُقل أحمد، الأب الخمسة والثلاثيني، في مارس 2024، وهو يحمل في ذراعيه طفله المريض، طفل يعاني الحمى، يلهث بحثاً عن دواء في أنقاض الصيدلية المدمرة. كان أحمد رجلاً هادئاً، عيناه رماديتان كدخان القصف، يداه خشنتان من العمل في الحقول قبل الحرب، قبل أن يتحول الحقل إلى حفرة، والمنزل إلى ركام. الجنود اقتحموا المستشفى كالذئاب، أحذيتهم الثقيلة تدوس على الأرضيات الملطخة بالدم، أصواتهم الحادة تخترق جدران الخوف، يصرخون أوامر بالعبرية، يدفعون المرضى، يركلون الأطباء، يسحبون أحمد من ذراعه، يفصلونه عن الطفل الذي يبكي بصوت مكتوم، بكاء يتردد في الممر كلعنة. "إرهابي"، يصرخ أحدهم، وهو يضرب أحمد على وجهه بقبضة حديدية، الدم يسيل من شفته، دم حار يتدفق على ذقنه، يصل إلى صدره، يخلط بالعرق البارد. يُسحب إلى الخارج، إلى شاحنة، شاحنة قذرة، جدرانها ملطخة ببقايا دماء، ثم إلى معتقل سدي تيمان، معتقل الجحيم المقنع. في المعتقل، يبدأ الطقس، طقس التعذيب الممنهج، طقس فاشي يُنفَّذ بدقة، كأن الجنود آلات مبرمجة لسحق الروح. يُجرد من ملابسه، قميصاً، بنطالاً، حتى الداخلية، يترك عارياً أمام الجنود، جسده الممتلئ قليلاً من أيام الرفاهية السابقة، الآن نحيل من الجوع، بشرته الداكنة تتلألأ بعرق الرعب، عضلاته ترتجف في البرد. الشتائم تبدأ، ألفاظ نابية، كلمات تتعلق بزوجته، بأطفاله، بأمه، كلمات تُقصد لتقطع الروح، لتحول الأب إلى حيوان. الكاميرا موجودة، دائماً موجودة، تسجل العري، الرعب، الدم. ثم التهديد بالاغتصاب، تهديد له، لزوجته، "سنحضرها ونغتصبها أمامك"، كلمات تتردد كلعنات، كلعنات تجمد الدم في العروق. بعد أيام، يدخل الكلب، كلب مدرب، أسود، عضلاته مشدودة، عيناه حمراء، ينبح بجنون، يقترب من أحمد المقيد، يشم جسده، لسانه يلمس، لمسة رطبة لزجة، لعاب يحرق، رائحة فمه كريهة، رائحة الموت. الجنود يضحكون، يأمرون الكلب، يهددون بالاغتصاب الحيواني، ثم يفعلون، يدفعون الكلب، يجبرونه، الاغتصاب يحدث، اغتصاب حيواني، الألم يمزق، الدم يتدفق، الصرخة مكتومة، الكاميرا تسجل، الضحك يعلو. أحمد يفقد الإحساس بالزمن، 19 شهراً من التعذيب، 19 شهراً من التعرية، الشتائم، التهديد، الاغتصاب بالكلب، بالأدوات، بالأيدي، الدم، السوائل، القيء، الرائحة الكريهة، القرف العميق. في كل لحظة، يتذكر أطفاله، زوجته، يتشبث بالهوية، بالأبوة، بالرجولة، لكن التعذيب يهدف للمحو، للكسر، للإذلال. الجنود يتبادلون، يضحكون، يصورون، نظام فاشي، نظام استعماري، نظام يتغذى على الألم. القرف يغزو أحمد، قرف من أجسادهم، من لمساتهم، من الكلب، من الضحك، قرف يتحول إلى صمود، صمود أب، صمود فلسطيني.



4


في ديسمبر 2023، حين كانت غزة تئن تحت وطأة الركام والقذائف، والهواء يثقل برائحة البارود المختلط بدماء الأبرياء، اعتُقل تيسير، الأب الأربعيني، أثناء نزوحه في مستشفى كمال عدوان، وهو يحمل في ذراعيه زوجته المريضة، امرأة شاحبة الوجه، عيناها غائرتان من الجوع والخوف، يبحث عن سرير فارغ، عن دواء، عن أمل في أنقاض المستشفى المحاصر. كان تيسير رجلاً صلباً، كتفاه عريضتان من سنوات العمل في البناء، يداه خشنتان كتراب فلسطين، عيناه خضراوان كأوراق الزيتون قبل أن تحرقها النيران. الجنود اقتحموا المستشفى كالوحوش، أحذيتهم الثقيلة تدوس على الأرضيات الملطخة بالدم، أصواتهم الحادة تخترق جدران الرعب، يصرخون أوامر بالعبرية، يدفعون المرضى، يركلون الأطفال، يسحبون تيسير من ذراعه، يفصلونه عن زوجته التي تبكي بصوت مكتوم، بكاء يتردد في الممر كلعنة أبدية. "إرهابي"، يصرخ أحدهم، وهو يضرب تيسير على رأسه بمؤخرة البندقية، الدم يسيل من جبهته، دم حار يتدفق على عينيه، يعميه، يخلط بالعرق البارد. يُسحب إلى الخارج، إلى شاحنة عسكرية قذرة، جدرانها ملطخة ببقايا دماء وصديد، ثم إلى سجن الاحتلال، سجن الجحيم المقنع، حيث يبدأ الطقس الفاشي، طقس التعذيب الممنهج، طقس يُنفَّذ بدقة ميكانيكية، كأن الجنود آلات مبرمجة في معامل الاستعمار، آلات لا تعرف الرحمة، تعرف فقط الأوامر، الأوامر العليا التي تأتي من قادة يجلسون في مكاتب مكيفة، يشربون القهوة، يضحكون على التقارير. يُجرد من ملابسه بعنف، قميصاً ممزقاً، بنطالاً مهترئاً، حتى الداخلية، يترك عارياً تماماً أمام الجنود، جسده القوي الآن يرتجف في البرد، بشرته الداكنة تتلألأ بعرق الرعب، عضلاته المتشنجة تُظهر عروقاً بارزة من الجوع والإرهاق. الشتائم تبدأ فوراً، ألفاظ نابية، كلمات قذرة تتعلق بزوجته، "سنحضرها ونغتصبها أمامك"، كلمات تتردد كلعنات، كلعنات تجمد الدم في العروق، تجعل القلب ينقبض كقبضة حديدية. الكاميرا موجودة، دائماً موجودة، في يد جندي، تركز على الجسد العاري، على الأعضاء، على الوجه المشوه بالدم والخوف، فلاش يومض، يعمي، يسجل، يحول اللحظة إلى أبدية من الإذلال. يُدفع إلى زنزانة، زنزانة صغيرة، جدران خرسانية رطبة، أرضية مبللة ببول وعرق ودم، رائحة كريهة تملأ الهواء، رائحة الموت البطيء. يُلقى على الأرض، مقيداً، يداه خلف ظهره، قدماه مكبلتان، جسده يرتجف، لكن الروح مستيقظة، تصارع، تتذكر زوجته، أطفاله، البيت الذي لم يعد موجوداً. بعد أيام، يبدأ التعذيب الجنسي، تعذيب يهدف لمحو الرجولة، لسحق الأبوة، لكسر الإنسان. الجنود يدخلون، ثلاثة، أربعة، ملثمون، يحملون أدوات، عصي، زجاجات، قطع خشبية، أدوات باردة، قذرة، ملطخة ببقايا ضحايا سابقين. يشتمون، يهددون بإحضار الزوجة، "سنغتصبها هنا، سنصورها، سننشرها"، كلمات تُقصد لتقطع الروح، لكن تيسير يصمت، يصمت صمت الصخر، صمت الزيتون. ثم يأتي الاغتصاب، اغتصاب بقطعة خشبية، قطعة خشنة، مدببة، يدخلونها قسراً في فتحة الشرج، دخول عنيف، يمزق اللحم، يفتت الأحشاء، الألم ينفجر كقنبلة داخلية، يمزق تيسير من الداخل، يجعله يصرخ صرخة ممزقة، صرخة تخرج من أعماق الروح، لكن الصرخة تُخنق بالضرب، ضربات على الرأس، على الظهر، على الصدر. الدم يتدفق بغزارة، دم أحمر غامق، يشبه النفط، يتجمع تحت الجسد، يبلل الأرضية، يتساقط في قطرات ثقيلة، قطرات تُصدر صوتاً كإيقاع الجحيم. الجنود يضحكون، ضحكات عالية، مبتهجة، كأنهم يحتفلون بانتصار، انتصار على أب، على رجل، على فلسطيني. الكاميرا تسجل، تركز على القطعة الخشبية، على الدم، على الوجه المشوه، على الجسد المرتعش، فيلم إباحي للرعب، فيلم سيُعرض في غرف مغلقة، سيُضحك عليه الجنود، سيُستخدم للابتزاز. الاغتصاب يتكرر، يتكرر على مدار 22 شهراً، 22 شهراً من التعذيب، من التعرية، من الشتائم، من التهديد بزوجته، من الاغتصاب بالخشب، بالزجاج، بالأيدي، بالكلاب أحياناً، الدم، السوائل، القيء، الرائحة الكريهة، القرف العميق. في كل لحظة، يتذكر تيسير زوجته، يتخيل وجهها، يديها، صوتها، يتشبث بالأبوة، بالحب، بالهوية، لكن التعذيب يهدف للمحو، للكسر، للإذلال. الجنود يتبادلون، يضحكون، يصورون، نظام فاشي، نظام استعماري، نظام يتغذى على الألم، ينمو منه، يزدهر. القرف يغزو تيسير، قرف من أجسادهم، من لمساتهم، من الخشب البارد، من الدم الحار، من الضحك، قرف يتحول إلى صمود، صمود أب، صمود زوج، صمود فلسطيني.


5

في أكتوبر 2023، حين كانت غزة تُغرق في بحر من الركام والنيران، وأصوات القذائف تُمزق السماء كصرخات أمهات يفقدن أطفالهن، اعتُقل خالد، الشاب الثلاثيني، أثناء محاولته انتشال جثة أخيه من تحت أنقاض البيت المفخخ، بيت تحول إلى حفرة سوداء، جدرانه مدفونة تحت التراب والدم. كان خالد رجلاً طويل القامة، عضلاته مشدودة من سنوات العمل في الصيد، يداه واسعتان كشبكة بحر، عيناه سوداوان كليلة البحر قبل العاصفة. الجنود ظهروا فجأة، كظلال الموت، أحذيتهم الثقيلة تدوس على الجثث، أصواتهم الحادة تخترق صمت الركام، يصرخون أوامر بالعبرية، يدفعون الناجين، يركلون الجرحى، يسحبون خالد من ذراعه، يفصلونه عن أخيه الذي لم ينتهِ بعد من انتشاله، جثة ممزقة، دماءها لا تزال حارة. "إرهابي"، يصرخ أحدهم، وهو يضرب خالد على صدره بمؤخرة البندقية، الضلوع تئن، الألم ينتشر كالنار، الدم يسيل من فمه، دم مالح يتدفق على ذقنه، يخلط بالتراب والعرق. يُسحب إلى الخارج، إلى سيارة جيب عسكرية قذرة، مقاعدها ملطخة ببقايا دماء وصديد، ثم إلى معتقل سدي تيمان، معتقل الجحيم المقنع، حيث يبدأ الطقس الفاشي، طقس التعذيب الممنهج، طقس يُنفَّذ بدقة آلية، كأن الجنود دمى مبرمجة في معامل الاستعمار، دمى لا تعرف الإنسانية، تعرف فقط الأوامر، الأوامر العليا التي تأتي من قادة يجلسون في مكاتب مكيفة، يشربون القهوة، يضحكون على التقارير، يوقعون على أوراق الإعدام. يُجرد من ملابسه بعنف عنيف، قميصاً ممزقاً، بنطالاً مهترئاً، حتى الداخلية، يترك عارياً تماماً أمام الجنود، جسده القوي الآن يرتجف في البرد، بشرته السمراء تتلألأ بعرق الرعب، عضلاته المتشنجة تُظهر عروقاً بارزة من الجوع والإرهاق. الشتائم تبدأ فوراً، ألفاظ نابية، كلمات قذرة تتعلق بأمه، بأخته، بزوجته الغائبة، "سنحضرها ونغتصبها أمامك، سنصورها، سننشرها على الإنترنت"، كلمات تتردد كلعنات، كلعنات تجمد الدم في العروق، تجعل القلب ينقبض كقبضة حديدية، تجعل الروح تنكمش كورقة في النار. الكاميرا موجودة، دائماً موجودة، في يد جندي، تركز على الجسد العاري، على الأعضاء، على الوجه المشوه بالدم والخوف، فلاش يومض، يعمي، يسجل، يحول اللحظة إلى أبدية من الإذلال، أبدية سيُعرض فيها الفيلم في غرف مغلقة، سيُضحك عليه الجنود، سيُستخدم للابتزاز، لنشر الرعب في قلوب الفلسطينيين. يُدفع إلى زنزانة، زنزانة صغيرة، جدران خرسانية رطبة، أرضية مبللة ببول وعرق ودم وصديد، رائحة كريهة تملأ الهواء، رائحة الموت البطيء، رائحة الجحيم الاستعماري. يُلقى على الأرض، مقيداً، يداه خلف ظهره بقيود حديدية تقطع الجلد، قدماه مكبلتان بحبل خشن يحفر في الكاحلين، جسده يرتجف، لكن الروح مستيقظة، تصارع، تتذكر أخاه، أمه، البحر، الشبكة، الحرية. بعد ساعات، يبدأ التعذيب الجنسي، تعذيب يهدف لمحو الرجولة، لسحق الأخوة، لكسر الإنسان. الجنود يدخلون، أربعة، خمسة، ملثمون، يحملون أدوات، عصي كهربائية، زجاجات مكسورة، قطع معدنية، أدوات باردة، قذرة، ملطخة ببقايا دماء ضحايا سابقين، بقايا صديد، بقايا سوائل. يشتمون، يهددون بإحضار الأم، "سنغتصبها هنا، سنصورها، سنرسل الفيديو لعائلتك"، كلمات تُقصد لتقطع الروح، لكن خالد يصمت، يصمت صمت البحر قبل العاصفة، صمت الصياد الذي يعرف أن الشبكة ستعود يوماً. ثم يأتي الاغتصاب، اغتصاب جماعي، أجسادهم الثقيلة، أنفاسهم الحارة، رائحتهم الكريهة، يدخلون من كل مكان، من الفم، من المهبل الشرجي، من الأمام، من الخلف، دخول عنيف، يمزق اللحم، يفتت الأحشاء، الألم ينفجر كقنبلة داخلية، يمزق خالد من الداخل، يجعله يصرخ صرخة ممزقة، صرخة تخرج من أعماق الروح، لكن الصرخة تُخنق بالضرب، ضربات على الرأس، على الظهر، على الصدر، على الأعضاء التناسلية. الدم يتدفق بغزارة، دم أحمر غامق، يشبه دماء البحر، يتجمع تحت الجسد، يبلل الأرضية، يتساقط في قطرات ثقيلة، قطرات تُصدر صوتاً كإيقاع الجحيم، إيقاع الموت البطيء. الجنود يضحكون، ضحكات عالية، مبتهجة، كأنهم يحتفلون بعيد، عيد الإذلال، عيد سحق الكرامة، عيد محو الهوية. الكاميرا تسجل، تركز على الأجساد، على الدم، على السوائل، على الوجه المشوه، على الجسد المرتعش، فيلم إباحي للرعب، فيلم سيُعرض في غرف مغلقة، سيُضحك عليه الجنود، سيُستخدم للابتزاز، لنشر الرعب. الاغتصاب يتكرر، يتكرر على مدار 25 شهراً، 25 شهراً من التعذيب، من التعرية، من الشتائم، من التهديد بالعائلة، من الاغتصاب الجماعي، بالأدوات، بالكلاب، بالكهرباء، الدم، السوائل، القيء، الرائحة الكريهة، القرف العميق. في كل لحظة، يتذكر خالد أخاه، يتخيل وجهه، يده، صوته، يتشبث بالأخوة، بالبحر، بالهوية، لكن التعذيب يهدف للمحو، للكسر، للإذلال. الجنود يتبادلون، يضحكون، يصورون، نظام فاشي، نظام استعماري، نظام يتغذى على الألم، ينمو منه، يزدهر. القرف يغزو خالد، قرف من أجسادهم، من لمساتهم، من السوائل، من الضحك، قرف يتحول إلى صمود، صمود صياد، صمود بحر، صمود فلسطيني.


6


في أواخر 2025، حين انهار وقف إطلاق النار كورقة محترقة في ريح غزة العاتية، وأصبحت السماء ممراً للطائرات المسيرة التي تبث الرعب قبل القنابل، أُفرج عن خالد في تبادل أسرى متعثر، تبادل يُنفَّذ تحت أضواء كاشفة قاسية، أضواء تُعمي عينيه اللتين اعتادت الظلام لخمسة وعشرين شهراً، تُحرق بشرته الشاحبة الملطخة بالكدمات والصديد والندوب التي تشبه خرائط الاحتلال المرسومة على اللحم. جسده مكسور، عظامه تؤلمه كأنها مكسرة من الداخل، لحمه متورم، جروحه مفتوحة، تنزف صديداً أصفر كريه الرائحة، رائحة الموت البطيء الذي رافقه أشهراً، لكن عيناه، عيناه السوداوان تحملان ناراً خفية، ناراً لم تُطفأ بالاغتصاب الجماعي، بالأدوات، بالكلاب، بالكهرباء، بالتصوير، بالإذلال، ناراً تشتعل في أعماقه، تُضيء طريق العودة إلى البحر، إلى الحياة. سُلِّم إلى سيارة إسعاف متهالكة، مقاعدها ملطخة ببقايا دماء أسرى سابقين، دماء جافة تُصدر صوتاً عند الجلوس، صوتاً يذكره بكل لحظة في الزنزانة، بكل لمسة قذرة، بكل ضحكة فاشية، بكل فلاش كاميرا. الطريق إلى غزة طويل، الطريق محفوف بالحواجز، بالدبابات، بالجنود الذين ينظرون إليه بنظرات مألوفة، نظرات المنتصر، نظرات الذي يعرف ما حدث، يعرف ويبتسم ابتسامة خفية، ابتسامة القرف الاستعماري. جسده ملفوف ببطانية رقيقة، بطانية لا تخفي الرائحة، رائحة الدم والعرق والسائل المنوي والقيء والصديد والبول، رائحة الجحيم الفاشي الذي يلتصق به كظل، ظل لا يفارقه، ظل يتبعه في كوابيسه، في يقظته، في كل نفس. في السيارة، يغمض عينيه، يرى فلاشات من الزنزانة، فلاشات الكاميرا، فلاشات الاغتصاب الجماعي، فلاشات الضحك، فلاشات الكلب، فلاشات الزجاجة المكسورة، لكن يفتح عينيه، يرى السماء، سماء غزة المليئة بالدخان، دخان القصف، دخان الركام، دخان الشهداء، ويشعر بالحياة تعود، تعود ببطء، كموجة بحر تنسحب ثم تعود أقوى. يصل إلى مخيم مؤقت، خيمة مهترئة في أطراف الركام، جدرانها من النايلون الممزق، سقفها يتسرب منه المطر، لكن فيها أمه، أمه الشاحبة، عيناها غائرتان، يداها ترتجفان، تحتضنه، تحتضن جسده المكسور، لا تعرف السر كله، لا تعرف الاغتصاب، التصوير، الإذلال، تعرف فقط الابن، الابن الذي عاد، الابن الذي سيحميها، سيحكي لها يوماً، يوماً بعيداً. في الليل، حين تنام الأم، يجلس خالد وحده، تحت ضوء مصباح كيروسين خافت، ضوء يرسم ظلالاً على وجهه المشوه، ظلال الكدمات، الجروح، الندوب، الدموع، ويبدأ يحكي لنفسه القصة، يحكيها كرواية، رواية بحرية، كلمات قليلة، جمل قصيرة، لكن كل كلمة موجة، موجة تقطع الذاكرة، تقطع القرف، تقطع الفاشية. يتذكر الاعتقال، سحب الجثة، أخيه الممزق، الضرب الأول، الدم من الفم. يتذكر التعرية، الجنود ينظرون، يضحكون، الكاميرا تومض. يتذكر الشتائم، التهديد بأمه، بأخته، بالبحر. يتذكر الاغتصاب الأول، الجماعي، الأجساد الثقيلة، الدخول من كل مكان، الدم، السوائل، القيء. يتذكر الكلب، اللسان الرطب، التهديد، الاغتصاب الحيواني. يتذكر الزجاجة المكسورة، التمزيق، النزيف، الصرخة المكتومة. يتذكر الكهرباء، الصعق على الأعضاء، التشنج، الضحك. يتذكر الخمسة وعشرين شهراً، الطقس اليومي، التعرية، اللمس، الضرب، الشتم، التصوير، الجروح المتقيحة، الرائحة الكريهة، البرد، الجوع، النظر من الفتحة، العيون التلصصية. كل ذكرى تقطع، تقطع الروح، لكن الروح تشفى، تشفى بالحكي، بالتذكر، بالشهادة. التعذيب لم يمحُ هويته، لم يمحُ رجولته، بل عززها، عززها كأن الألم نحت تمثالاً، تمثال صياد، تمثال بحر، تمثال فلسطيني، تمثال إنسانية. في الليل، يسمع أصوات القصف البعيد، قصف يستمر رغم التبادل، اتفاق انهار، انتهاكات مستمرة، القتل مستمر، الاغتصاب مستمر، في السجون، في الحواجز، في المنازل. لكن خالد الآن حر، حر جسداً، حر روحاً، حر ليحكي، ليشاهد، ليكون صوتاً، صوت الضحايا، صوت الآلاف، صوت غزة، صوت البحر. يتخيل العالم يسمع، يسمع القصة، يرى الصور في خياله، يشعر بالقرف، قرف عميق من الممارسات، من الاغتصاب، من التصوير، من الضحك، من الفاشية، قرف يدفع للتحرك، للثورة، للعدالة. في الخيمة، ينام أخيراً، ينام نوماً عميقاً، نوم المنتصر، نوم الصياد، وفي الحلم، يرى نفسه في البحر، يلقي الشبكة، يصطاد، يصطاد السمك، يصطاد الحرية، يصطاد العدالة. الصباح يأتي، الشمس تشرق على الركام، على الخيام، على الأمهات، على خالد، خالد الذي عاد، عاد أقوى، أقوى من الاغتصاب، أقوى من الفاشية، أقوى من الاستعمار. القصة تبدأ، تبدأ بالحكي، بالشهادة، بالرواية، رواية تثير القرف، قرف يحرق الضمائر، يوقظ العالم، يدفعه للقضاء على الوحش، الوحش الصهيوني، الوحش الاستعماري، الوحش الفاشي. وخالد، في عريه السابق، في ألمه السابق، في دمه السابق، يصبح رمزاً، رمز الصمود، رمز المقاومة، رمز الحرية، حرية لفلسطين، حرية للبحر، حرية للإنسانية.



#احمد_صالح_سلوم (هاشتاغ)       Ahmad_Saloum#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رواية : شجرةُ لينَ تُضيءُ الكونَ
- الصين: أمل البشرية في اشتراكية عالمية
- العقوبات: مِعول السيادة
- إمبراطوريات إبداعية بلا متاعب
- سلاح الكرامة والسيادة في مواجهة نفق الدولة الفاشلة
- «الجنجويد والدعم السريع: استعمار جديد في السودان»..ملخص كتاب ...
- من تأسيس الكيان الوهابي الى غرف الموك وخلايا التجسس في اليمن
- خرافة الاقتصاد الإسلامي: أسطورة خليجية في خدمة الإمبراطورية ...
- فخ أوكرانيا: دروس التاريخ تتحدث، والناتو يستمع بصمت
- خيانة مقنعة: رفع العقوبات ودورة النهب الاستعماري
- خوارزميات الاحتكارات الأمريكية: حرب منهجية على الوعي الاجتما ...
- محميات الخليج: بيادق وول ستريت في مسرح العرائس الصهيوني وفشل ...
- طوفان الأقصى وانهيار الهوية الاقتصادية الإسرائيلية: هزيمة اس ...
- زهران ممداني: رمز الاشتراكية عالمية الطابع وفرصة أمريكا الأخ ...
- الإبادة الجماعية في غزة: حفلة تنكرية للأشرار الكبار
- العناصر النادرة: سيف الصين الأخلاقي أمام فظاعة الإبادة الجما ...
- كيف تحول ملوك سومر وبابل إلى أنبياء في الروايات اللاحقة
- انهيار الإمبراطورية الأمريكية وانسحابها من عرش العالم..بداية ...
- بلجيكا على حافة الهاوية: حكومة دي ويفر تواجه غضب الشعب وتهدي ...
- الإبادة الجماعية في غزة: تقرير الأمم المتحدة يكشف تواطؤ ستين ...


المزيد.....




- مصر.. إصابة الفنان أحمد سعد في ظهرة ومنطقة الفقرات بحادث سير ...
- أول تعليق لترامب على اعتذار BBC بشأن تعديل خطابه في الفيلم ا ...
- من الوحش إلى البطل.. كيف غير فيلم -المفترس: الأراضي القاحلة- ...
- من الوحش إلى البطل.. كيف غير فيلم -المفترس: الأراضي القاحلة- ...
- لقاء خاص مع الممثل المصري حسين فهمي مدير مهرجان القاهرة السي ...
- الممثل جيمس فان دير بيك يعرض مقتنياته بمزاد علني لتغطية تكال ...
- ميرا ناير.. مرشحة الأوسكار ووالدة أول عمدة مسلم في نيويورك
- لا خلاص للبنان الا بدولة وثقافة موحدة قائمة على المواطنة
- مهرجان الفيلم الدولي بمراكش يكشف عن قائمة السينمائيين المشار ...
- جائزة الغونكور الفرنسية: كيف تصنع عشرة يوروهات مجدا أدبيا وم ...


المزيد.....

- الذين باركوا القتل رواية ... / رانية مرجية
- المسرواية عند توفيق الحكيم والسيد حافظ. دراسة في نقاء الفنون ... / د. محمود محمد حمزة
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة. الطبعة الثانية / د. أمل درويش
- مشروع مسرحيات مونودراما للسيد حافظ. اكسبريو.الخادمة والعجوز. ... / السيد حافظ
- إخترنالك:مقال (الثقافة والاشتراكية) ليون تروتسكي. مجلة دفاعا ... / عبدالرؤوف بطيخ
- المرجان في سلة خوص كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- بيبي أمّ الجواريب الطويلة / استريد ليندجرين- ترجمة حميد كشكولي
- قصائد الشاعرة السويدية كارين بوي / كارين بوي
- ترجعين نرجسة تخسرين أندلسا / د. خالد زغريت
- الممالك السبع / محمد عبد المرضي منصور


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - احمد صالح سلوم - رواية : ارض الرماد والأنين ..فصلان