أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - احمد صالح سلوم - رواية : شجرةُ لينَ تُضيءُ الكونَ















المزيد.....



رواية : شجرةُ لينَ تُضيءُ الكونَ


احمد صالح سلوم
شاعر و باحث في الشؤون الاقتصادية السياسية

(Ahmad Saloum)


الحوار المتمدن-العدد: 8527 - 2025 / 11 / 15 - 12:19
المحور: الادب والفن
    


مقدمة نقدية عن الرواية :

في أعماقِ الظلامِ الذي يُغطِّي الروايةَ كغيمةٍ سوداءَ من دخانِ القصفِ والألمِ، تنبثقُ "لينُ" كنجمةٍ خضراءَ في سماءِ الأدبِ المعاصرِ، نجمةٌ لا تضيءُ فحسب، بل تُحرقُ الضمائرَ، تُحرقُ الأكاذيبَ، تُحرقُ الفاشيةَ بشهادةٍ واحدةٍ كتبتها فتاةٌ في السابعةَ عشرةَ من عمرها، فتاةٌ عُرِّيتْ، ضُربتْ، اغتُصبتْ، صُوِّرتْ، أُذلَّتْ، لكنها لم تُكسرْ. هذهِ الروايةُ، التي تمتدُّ من الزنزانةِ إلى المجرةِ، من الجرحِ إلى الشفاءِ الكونيِّ، ليستْ مجرَّدَ سيرةٍ ذاتيةٍ مُتخيَّلةٍ، بل هي ملحمةُ الصمودِ الإنسانيِّ، ملحمةُ الكلمةِ التي تنتصرُ على الزجاجةِ، ملحمةُ الزيتونِ الذي ينبتُ من الركامِ، ملحمةُ فلسطينَ التي تُولدُ من جديدٍ في كلِّ صفحةٍ، في كلِّ شجرةٍ، في كلِّ طفلٍ يضحكُ في حديقةٍ كانتْ يوماً زنزانةً.

من منظورِ النقدِ البنيويِّ، تُبنى الروايةُ على ثنائيةٍ أساسيةٍ: الزنزانةُ مقابلُ الحديقةُ، الظلامُ مقابلُ النورُ، الموتُ مقابلُ الحياةُ، ثنائيةٌ تتكرَّرُ في كلِّ فصلٍ، في كلِّ جزءٍ، في كلِّ جملةٍ، لكنها ليستْ ثنائيةً جامدةً، بل ديناميكيةً، تحوليةً، حيثُ يتحوَّلُ الظلامُ إلى نورٍ، الموتُ إلى حياةٍ، الزنزانةُ إلى حديقةٍ، الجرحُ إلى شفاءٍ. هذا التحوُّلُ هو جوهرُ السردِ، سردٌ يعتمدُ على التكرارِ الرمزيِّ، تكرارِ الزجاجةِ، الكلبِ، الضحكِ، الكاميراِ، لكن ليس كتكرارٍ ميكانيكيٍّ، بل كلعنةٍ تُطاردُ الجنودَ، كشبحٍ يُطاردُ الفاشيةَ، كشهادةٍ تُطاردُ التاريخَ. في كلِّ مرةٍ تُذكرُ فيها الزجاجةُ، تُصبحُ أكثرَ حدَّةً، أكثرَ دمويةً، أكثرَ قرفاً، حتى تتحوَّلُ في النهايةِ إلى رمزٍ للجريمةِ التي لا تُمحى، جريمةٍ تُحرقُ الجانيَ قبلَ الضحيةِ.

أما من منظورِ النقدِ النفسيِّ، فإن لينَ تمثِّلُ الأنا العليا في أقسى اختباراتها، أنا تُجبرُ على مواجهةِ اللاوعيِ الجماعيِّ للظالمِ، لاوعيٍ مليءٍ بالعنفِ الجنسيِّ، بالساديةِ، بالنرجسيةِ الفاشيةِ. في الزنزانةِ، تُحطَّمُ الأنا السفلى للينَ، جسدها يُصبحُ موضوعاً، لكن الأنا العليا تنمو، تنمو من الألمِ، من القرفِ، من الذاكرةِ. هذا النموُّ هو ما يُفسِّرُ قدرتها على الكتابةِ، على الشهادةِ، على الزراعةِ، على الأمومةِ، على التعليمِ. إنها عمليةُ تكوينٍ ذاتيٍّ، تكوينٌ يُشبهُ عمليةَ التحليلِ النفسيِّ، حيثُ يُروى الجرحُ ليُشفى، يُكتبُ الألمُ ليُحوَّلَ إلى قوةٍ، يُزرعُ الركامُ ليُصبحَ حديقةً. وفي هذا، تُقدِّمُ الروايةُ نموذجاً علاجياً، نموذجاً يُمكنُ تطبيقهُ على الناجينَ من الصدماتِ، على الشعوبِ المُضطهدةِ، على الإنسانيةِ جمعاء.

من منظورِ النقدِ النسويِّ، تُمثِّلُ لينُ الجسدَ الأنثويَّ المُقاومَ، جسداً يُحوَّلُ من موضوعٍ للإذلالِ إلى موضوعٍ للتحريرِ. الاغتصابُ هنا ليسَ مجرَّدَ عنفٍ جنسيٍّ، بل هو أداةُ استعمارٍ، أداةُ تدميرٍ للهويةِ، للأمومةِ المُحتملةِ، للخصوبةِ الرمزيةِ. لكن لينَ تُعيدُ بناءَ جسدها، تُعيدُ بناءَ خصوبتها، ليس بالإنجابِ الجسديِّ فحسب، بل بالإنجابِ الرمزيِّ: كتبٌ، طلابٌ، أشجارٌ، حدائقٌ، أجيالٌ. إنها الأمُّ الكبرى، الأمُّ التي تُنجبُ العالمَ من رحمِ جرحها، تُنجبُ فلسطينَ من رحمِ الزنزانةِ، تُنجبُ الإنسانيةَ من رحمِ القرفِ. وفي هذا، تتجاوزُ الروايةُ النقدَ النسويَّ التقليديَّ، لتُقدِّمَ نسويةً كونيةً، نسويةً تُحوِّلُ الألمَ الأنثويَّ إلى قوةٍ كونيةٍ، إلى شفاءٍ كونيٍّ، إلى حياةٍ أبديةٍ.

من منظورِ النقدِ ما بعدَ الكولونياليِّ، تُمثِّلُ الروايةُ مقاومةً للاستعمارِ الصهيونيِّ الأمريكي النازي الجديد ، لكن ليس بالسلاحِ، بل بالكلمةِ، بالشهادةِ، بالذاكرةِ. الزنزانةُ هي المُستعمرةُ المصغَّرةُ، مكانٌ يُحوَّلُ فيه الفلسطينيُّ إلى حيوانٍ، إلى موضوعٍ، إلى صورةٍ. لكن لينَ تُعيدُ كتابةَ هذا السردِ، تُعيدُ كتابةَ الجسدِ الفلسطينيِّ كجسدٍ مُقاومٍ، كجسدٍ مُثمرٍ، كجسدٍ ينبتُ زيتوناً. الزيتونُ هنا رمزٌ فلسطينيٌّ، رمزُ الصمودِ، رمزُ الجذورِ، رمزُ الثمرِ، رمزُ العودةِ. وفي امتدادِ الحدائقِ إلى العالمِ، إلى الكونِ، تُقدِّمُ الروايةُ نموذجاً لتحريرٍ ما بعدَ كولونياليٍّ، تحريرٌ لا يتوقفُ عندَ الحدودِ، بل يمتدُّ إلى القلوبِ، إلى المجراتِ، إلى الأبدِ.

من منظورِ النقدِ البيئيِّ، تُمثِّلُ الروايةُ علاقةً عضويةً بينَ الإنسانِ والأرضِ، علاقةً تُشفى بالزراعةِ، بالكتابةِ، بالحياةِ. الركامُ يتحوَّلُ إلى تربةٍ، التربةُ إلى حديقةٍ، الحديقةُ إلى غابةٍ، الغابةُ إلى كونٍ. الزيتونُ ليسَ مجرَّدَ شجرةٍ، بل هو كائنٌ حيٌّ، كائنٌ يتكلَّمُ، يشهدُ، يُثمرُ، ينتصرُ. في زراعةِ كلِّ شجرةٍ، هناكَ عمليةُ شفاءٍ بيئيٍّ، شفاءٌ للأرضِ المُقصَّفةِ، للأرضِ المُسمَّمةِ، للأرضِ المُحتلةِ. وفي امتدادِ الحدائقِ إلى الفضاءِ، تُقدِّمُ الروايةُ رؤيةً بيئيةً كونيةً، رؤيةً تُحوِّلُ الكواكبَ إلى حدائقَ، تُحوِّلُ الفضاءَ إلى أرضٍ خصبةٍ، تُحوِّلُ الإنسانيةَ إلى مزارعينَ للأملِ.

من منظورِ النقدِ السرديِّ، تعتمدُ الروايةُ على سردٍ غيرُ خطيٍّ، سردٌ يتنقَّلُ بينَ الماضي والحاضرِ والمستقبلِ، بينَ الزنزانةِ والحديقةِ، بينَ الألمِ والشفاءِ. كلُّ فصلٍ هو لوحةٌ، لوحةٌ تُكملُ الأخرى، لوحةٌ تُضيءُ الأخرى، لوحةٌ تُحرقُ الأخرى. الراويُ هنا ليسَ مجرَّدَ راوٍ، بل هو صوتُ لينَ، صوتُ فلسطينَ، صوتُ الإنسانيةِ، صوتٌ يتطوَّرُ مع الزمنِ، من صوتٍ مكسورٍ إلى صوتٍ مُثمرٍ، من صوتٍ يبكي إلى صوتٍ يُغنِّي، من صوتٍ يشهدُ إلى صوتٍ يُعلِّمُ. وفي هذا، تُقدِّمُ الروايةُ نموذجاً لسردٍ علاجيٍّ، سردٌ يُشفي الراويَ، يُشفي القارئَ، يُشفي العالمَ.

من منظورِ النقدِ الثقافيِّ، تُمثِّلُ الروايةُ صداماً بينَ ثقافتينِ: ثقافةِ الموتِ الفاشيةِ، ثقافةِ الحياةِ المُقاومةِ. ثقافةُ الموتِ تُمثِّلُها الزجاجةُ، الكلبُ، الضحكُ، الكاميراُ، ثقافةُ الحياةِ تُمثِّلُها الكلمةُ، الزيتونُ، الضحكُ الحرُّ، الحديقةُ. هذا الصدامُ ليسَ مجرَّدَ صدامٍ عسكريٍّ، بل صدامٌ ثقافيٌّ، صدامٌ ينتهي بانتصارِ ثقافةِ الحياةِ، انتصارِ الكلمةِ على السلاحِ، انتصارِ الزيتونِ على الدبابةِ، انتصارِ الطفلِ على الجنديِّ. وفي هذا، تُقدِّمُ الروايةُ نموذجاً لثورةٍ ثقافيةٍ، ثورةٌ تبدأُ بكلمةٍ، تنتهي بحديقةٍ، حديقةٍ تمتدُّ من غزةَ إلى الكونِ.

من منظورِ النقدِ الفلسفيِّ، تُطرحُ الروايةُ أسئلةً وجوديةً: ما معنى الحياةِ بعدَ الموتِ؟ ما معنى الحريةِ بعدَ الزنزانةِ؟ ما معنى الإنسانيةِ بعدَ الجريمةِ؟ الإجابةُ تكمنُ في الكلمةِ، في الزيتونِ، في الحديقةِ، في الأملِ. الوجودُ هنا ليسَ مجرَّدَ بقاءٍ، بل هو نموٌّ، ثمرٌ، شفاءٌ، أبديةٌ. الحريةُ ليستْ مجرَّدَ غيابِ القيدِ، بل هي حضورُ الكلمةِ، حضورُ الشجرةِ، حضورُ الطفلِ. الإنسانيةُ ليستْ مجرَّدَ غيابِ الجريمةِ، بل هي حضورُ الشهادةِ، حضورُ الشفاءِ، حضورُ الحياةِ. وفي هذا، تُقدِّمُ الروايةُ فلسفةً جديدةً، فلسفةُ الصمودِ، فلسفةُ الشفاءِ، فلسفةُ الأملِ الأبديِّ.

من منظورِ النقدِ الجماليِّ، تُمثِّلُ الروايةُ تحفةً فنيةً، لغةً شعريةً، صوراً بصريةً، إيقاعاً موسيقياً. اللغةُ هنا ليستْ مجرَّدَ أداةٍ، بل هي سلاحٌ، درعٌ، حديقةٌ. كلُّ جملةٍ هي شجرةٌ، كلُّ فقرةٍ هي غصنٌ، كلُّ فصلٍ هي غابةٌ. الصورُ هنا ليستْ مجرَّدَ وصفٍ، بل هي شهادةٌ، رؤيةٌ، حلمٌ. الإيقاعُ هنا ليسَ مجرَّدَ تنغيمٍ، بل هو نبضُ الحياةِ، نبضُ الزيتونِ، نبضُ فلسطينَ. وفي هذا، تُقدِّمُ الروايةُ جماليةً جديدةً، جماليةُ الجرحِ الذي يُزهرُ، جماليةُ الألمِ الذي يُثمرُ، جماليةُ الحياةِ التي تنتصرُ.

في الختامِ، هذهِ الروايةُ ليستْ مجرَّدَ نصٍّ، بل هي حدثٌ، حدثٌ أدبيٌّ، حدثٌ إنسانيٌّ، حدثٌ كونيٌّ. هي شهادةٌ على قوةِ الكلمةِ، على قوةِ الزيتونِ، على قوةِ الإنسانيةِ. هي ملحمةُ لينَ، ملحمةُ فلسطينَ، ملحمةُ العالمِ الذي استيقظَ أخيراً، استيقظَ من كابوسِ الزنزانةِ، استيقظَ في حديقةِ الأملِ، حديقةٍ تمتدُّ من غزةَ إلى المجرةِ، من الجرحِ إلى الشفاءِ، من الموتِ إلى الحياةِ، من الظلامِ إلى النورِ الأبديِّ.


…….

الفصل الاول

1

يبدأُ الظلامُ يُغلِّفُ الزنزانةَ ككفنٍ أسودَ ثقيلٍ، جدرانُها الخرسانيةُ الباردةُ تتشرَّبُ رائحةَ العرقِ المتعفِّنِ والدمِ الجافِّ والسائلِ المنويِّ الذي يلتصقُ بالأرضِ كلعنةٍ لا تُمحى، ولينُ، الفتاةُ السابعةَ عشرةَ، تُلقى في الزاويةِ كقطعةِ لحمٍ مُمزَّقةٍ، ثوبها الأبيضُ الذي كانَ يوماً يتمايلُ في نسمةِ غزةَ الصباحيةِ أصبحَ الآنَ خرقةً داميةً، جسدها الصغيرُ يرتجفُ من البردِ والألمِ والقرفِ، عيناها الخضراوانِ، تلك العينانِ اللتانِ كانتا تُشبهانِ أوراقَ الزيتونِ في الربيعِ، مفتوحتانِ على وسعهما، لا تبكيانِ، بل تُحدِّقانِ في الفراغِ كأنها تُخزِّنُ كلَّ لحظةٍ من الوحشيةِ لتُخرجها يوماً سلاحاً. يدخلُ الجنودُ، ثلاثةٌ، أقنعةٌ سوداءُ، أحذيةٌ ثقيلةٌ تُصدرُ صوتاً يُشبهُ ضرباتِ الموتِ على الأرضِ، أحدهم يحملُ زجاجةً مكسورةً، حافةُها حادةٌ كسكينٍ، يضحكُ ضحكاً فاشياً يترددُ بينَ الجدرانِ كأناشيدَ انتصارٍ، يقتربُ منها، يُمسكُ شعرها الطويلَ الأسودَ، يجذبهُ بقوةٍ حتى تنفصلُ خصلاتٌ من فروةِ رأسها، ثم يُدخلُ الزجاجةَ في جسدها، ببطءٍ، بعنفٍ، بدقةٍ، يُصوِّرُ بالهاتفِ، يقولُ بصوتٍ متهدِّجٍ بالنشوةِ: "ابتسمي، يا عاهرةَ غزةَ، العالمُ سيرى." لينُ لا تصرخُ، عضُّها على شفتها حتى يسيلُ الدمُ، عيناها مُثبتتانِ على عدسةِ الكاميرا، تُخزِّنُ الوجهَ، الصوتَ، الضحكَ، كلَّ شيءٍ. يأتي الثاني، يُطلقُ كلباً مدرَّباً، كلباً أسودَ عيناه حمراءُ، يُشبِعُ غريزتهُ على جسدها، يُصوِّرُ، يضحكُ، يبصقُ على وجهها، يقولُ: "هذا لأجلِ أطفالِنا الذينَ قتلتِهم." لينُ تُغمضُ عينيها للحظةٍ، تتذكرُ أمها التي قُصفتْ في البيتِ، أباها الذي اختفى في السجنِ، إخوتها الصغارَ في الخيمةِ، ثم تفتحُ عينيها، تُحدِّقُ في الكلبِ، في الجنديِّ، في الكاميرا، تُخزِّنُ. الثالثُ يضربُها بحزامٍ جلديٍّ، يتركُ خطوطاً حمراءَ على ظهرها، على ساقيها، على وجهها، يُصوِّرُ، يقولُ: "سنُعلِّمُكِ مكانكِ." لينُ تسقطُ، دمُها يختلطُ بالبولِ والقيءِ على الأرضِ، لكنها لا تفقدُ الوعيَ، تُخزِّنُ كلَّ ضربةٍ، كلَّ كلمةٍ، كلَّ صوتٍ. في الليلِ، عندما يتركونها وحيدةً، البابُ يُغلقُ بقوةٍ، الظلامُ يُغطِّي كلَّ شيءٍ، تبدأُ لينُ تكتبُ في ذهنها، تكتبُ على جدرانِ عقلها، تكتبُ بأظافرها المكسورةِ على الأرضِ، تكتبُ بأنفاسها المتقطعةِ، تكتبُ: "أنا لينُ، ابنةُ غزةَ، لن أموتَ هنا، سأخرجُ، سأروي، سأشهدُ، سأزرعُ." في الأيامِ التاليةِ، يتكررُ التعذيبُ، الزجاجةُ، الكلبُ، الحزامُ، التصويرُ، لكن لينَ تبدأُ تُغيِّرُ نظرتها، تُراقبُ الجنودَ، تُلاحظُ الشقوقَ في أقنعتهم، الخوفَ في أصواتهم عندما يذكرونَ المقاومةَ، الارتجافَ في أيديهم عندما يسمعونَ صوتَ طائرةٍ بعيدةٍ. في إحدى الليالي، يدخلُ جنديٌّ شابٌّ، يُدعى يوسي، يحملُ في يده ماءً، يُعطيها إياهُ سراً، يقولُ بصوتٍ خافتٍ: "أنا آسفُ." لينُ تأخذُ الماءَ، تشربُ، ثم تُحدِّقُ في عينيه، ترى فيهما شقّاً صغيراً في الوحشيةِ، تُخزِّنُ اللحظةَ، تكتبُ في ذهنها: "حتى في الوحوشِ، هناك بشرٌ." في الأسبوعِ الثالثِ، يُؤخذُ لينُ إلى غرفةِ استجوابٍ، ضابطٌ كبيرٌ اسمهُ موشيه يجلسُ خلفَ مكتبٍ، يُعرضُ عليها الصورَ، الأفلامَ، يقولُ: "اعترفي بأنكِ إرهابيةٌ، سنُطلقُ سراحكِ." لينُ تنظرُ إلى الشاشةِ، ترى جسدها المُمزَّقَ، تسمعُ ضحكاتهم، ثم تبتسمُ ابتسامةً باردةً، تقولُ: "سأعترفُ، لكن للعالمِ، لا لكم." موشيه يضربُ الطاولةَ، يأمرُ بإعادتها إلى الزنزانةِ، لكن لينَ تُخزِّنُ وجههُ، صوتهُ، خوفهُ. في الليلةِ الأخيرةِ، يحدثُ ما لم يتوقعوهُ، قصفٌ مفاجئٌ من المقاومةِ، جدرانُ السجنِ تهيبُ، أبوابُ تُفتحُ، لينُ تُسحبُ من زنزانتها، تُلقى في الشارعِ، جسدها دامٍ، لكنها حيةٌ، تُزحفُ بينَ الركامِ، تُخفي نفسها في خيمةٍ مهترئةٍ، تجدُ إخوتها الصغارَ، زيتونةَ وخالدَ، يعانقانها، يبكيانِ، لكنها لا تبكي، تُخرجُ ورقةً صغيرةً مسروقةً من جيبِ أحدِ الجنودِ، قلمَ رصاصٍ مكسورَ، تبدأُ تكتبُ، تكتبُ الزجاجةَ، الكلبَ، الضحكَ، الكاميراَ، تكتبُ بقلمٍ يرتجفُ، بحبرٍ من دمها ودموعها، تكتبُ شهادتها، شهادةً ستُحرقُ الضمائرَ، ستُحرقُ الأكاذيبَ، ستُحرقُ الوحشَ، شهادةً ستُصبحُ بذرةً، ستُصبحُ حديقةً، ستُصبحُ مجرةً.


2

يتسللُ البردُ إلى عظامِ لينَ كأنيابِ وحشٍ جليديٍّ يُمزِّقُ اللحمَ من الداخلِ، والزنزانةُ تُغلقُ عليها من جديدٍ بعدَ ليلةِ القصفِ التي ألقتْ بها في الشارعِ ثم أعادتْها إليها كلعبةٍ مكسورةٍ يُرادُ إذلالُها أكثر، جدرانُها الخرسانيةُ تُفرزُ رطوبةً سوداءَ كأنها دمُ أجسادٍ سابقةٍ، ورائحةُ السائلِ المنويِّ المُجفَّفِ تختلطُ برائحةِ البولِ والقيءِ والصديدِ في سيمفونيةِ قرفٍ لا تُطاقُ، تجعلُ الهواءَ نفسهُ سمًّا يُخنقُ الروحَ قبلَ الجسدِ. لينُ تُلقى على الأرضِ، جسدها المُشوَّهُ يرتطمُ بالبلاطِ المتشققِ، دمُها الطازجُ يرسمُ بركةً صغيرةً حولَ رأسها، وهي تُحاولُ التنفسَ، تُحاولُ أن تُبقي عينيها مفتوحتينِ، تُحاولُ أن تُخزِّنَ كلَّ شيءٍ، لأن الذاكرةَ هي السلاحُ الوحيدُ الذي لم يُصادروهُ بعدُ. يدخلُ الجنودُ مرةً أخرى، أربعةٌ هذه المرةِ، أحدهم يحملُ كاميراً احترافيةً، ليستْ هاتفاً، بل جهازاً أمريكيّاً متطوراً، عدسةً سوداءَ لامعةً كعينِ شيطانٍ، يُثبِّتُها على حاملٍ، يُضيءُ الزنزانةَ بضوءٍ أبيضَ قاسٍ يُحرقُ العيونَ، يقولُ بصوتٍ أمريكيٍّ مُدرَّبٍ في قواعدِ التعذيبِ في أريزونا: "هذه ليستْ للمتعةِ فقط، بل للأرشيفِ، لتدريبِ الدفعاتِ القادمةِ، كيف نُكسرُ الإرادةَ، كيف نُحوِّلُ الإنسانَ إلى حيوانٍ." لينُ تُسحبُ من شعرها، تُعلَّقُ على حبلٍ مربوطٍ في السقفِ، قدماها لا تلامسانِ الأرضَ، جسدها يتدلَّى كدميةٍ مُمزَّقةٍ، والجنديُّ الأمريكيُّ يُخرجُ زجاجةً جديدةً، هذه المرةَ من نوعٍ خاصٍّ، زجاجةُ بيرةٍ إسرائيليةٍ مكسورةٌ بعنايةٍ لتكونَ حافةُ كسرها مُسنَّنةً كمنشارٍ، يُدخلُها ببطءٍ، يُديرُها، يُصوِّرُ كلَّ صرخةٍ مكتومةٍ، كلَّ قطرةِ دمٍ، كلَّ ارتجافةِ عضلةٍ، يقولُ: "هذا البروتوكولُ الأمريكيُّ المُحدَّثُ، يُسمَّى الزجاجةُ المتكلمةُ ، لأنها تجعلُ الضحيةَ تتكلمُ قبلَ أن تموتَ." لينُ تُشدُّ أسنانها، دمُها يسيلُ على فخذيها، لكنها لا تعترفُ، لا تتوسلُ، تُحدِّقُ في العدسةِ، تُخزِّنُ الوجهَ الأمريكيَّ، اللهجةَ، الرقمَ العسكريَّ المكتوبَ على صدرهِ، تكتبُ في ذهنها: "سأروي هذا للعالمِ، سأجعلُ هذه الزجاجةَ تتكلمُ بلساني." يأتي الجنديُّ الإسرائيليُّ الثاني، يُطلقُ كلبينِ هذه المرةِ، كلبينِ أسودينِ مدرَّبينِ في قاعدةٍ أمريكيةٍ في النقبِ، يُشبِعانِ غريزتهما على جسدها المُعلَّقِ، يُمزِّقانِ اللحمَ، يُصوِّرُ الأمريكيُّ، يُعلِّقُ بصوتٍ علميٍّ: "هذا الجزءُ يُسمَّى الكلبُ المُعلِّمُ ، يُعلِّمُ الضحيةَ أنها أقلُّ من الحيوانِ، يُكسرُ الكبرياءَ قبلَ الجسدِ." لينُ تُغمضُ عينيها، تتذكرُ كلبَ جيرانها في غزةَ، كلباً ودوداً كان يلعبُ مع خالدَ، ثم تفتحُ عينيها، تُحدِّقُ في الكلبِ، في الجنديِّ، في الكاميرا، تُخزِّنُ كلَّ نباحٍ، كلَّ عضّةٍ، كلَّ ضح26كةٍ. الجنديُّ الثالثُ يُخرجُ حزاماً كهربائياً، يُوصلُه ببطاريةٍ أمريكيةٍ، يضربُ به جسدها، صعقاتٌ كهربائيةٌ تُحرقُ الجلدَ، تُشوِّهُ اللحمَ، تُصدرُ رائحةَ لحمٍ مشويٍّ، يُصوِّرُ، يقولُ: "هذا الجهازُ من صنعِ شركةٍ أمريكيةٍ، يُستخدمُ في غوانتانامو، في أبو غريب، الآن في غزةَ، لأن الديمقراطيةَ تحتاجُ إلى دروسٍ في الإذلالِ." لينُ ترتجفُ، جسدها يتشنجُ، لكنها لا تصرخُ، تُكتمُ صوتها، تُخزِّنُ كلَّ صعقةٍ، كلَّ رائحةٍ، كلَّ تعليقٍ. في منتصفِ الليلِ، يدخلُ موشيه، الضابطُ الكبيرُ، يجلسُ على كرسيٍّ، يُشعلُ سيجارةً أمريكيةً، ينفثُ الدخانَ في وجهها، يقولُ: "لدينا أوامرُ من واشنطن، يجب أن نُكسرَكِ، يجب أن نُخرجَ منكِ اعترافاً، يجب أن نُثبتَ أنكِ إرهابيةٌ، لأن أمريكا تحتاجُ إلى مبررٍ لتمويلِنا." لينُ تُحدِّقُ في عينيه، ترى فيهما الخوفَ، خوفَ رجلٍ يعرفُ أن الجدرانَ قد تسقطُ، ثم تقولُ بصوتٍ متهدِّجٍ لكنه ثابتٌ: "سأعترفُ، لكن ليس لكم، للعالمِ، سأروي كلَّ شيءٍ، الزجاجةَ، الكلبَ، الكهرباءَ، الأمريكيَّ، كلَّ شيءٍ." موشيه يضربُ الطاولةَ، يأمرُ بإسكاتها، لكن لينَ تبتسمُ، ابتسامةً صغيرةً، ابتسامةَ من يعرفُ أن النهايةَ قد بدأتْ. في الأيامِ التاليةِ، يتكررُ التعذيبُ، لكن لينَ تبدأُ تُغيِّرُ، تُراقبُ الجنودَ، تُلاحظُ الشقوقَ، يوسي يعودُ سراً، يُعطيها ماءً، يهمسُ: "أنا أرى أفلامَكِ في كوابيسي، أنا أكرهُ نفسي." لينُ تأخذُ الماءَ، تُحدِّقُ في عينيه، تُخزِّنُ الشقَّ، تكتبُ في ذهنها: "حتى في الوحوشِ، هناك بشرٌ، سأستخدمُهم." في إحدى الليالي، تسمعُ صوتَ مقاومةٍ خارجيةٍ، قصفٌ، انفجاراتٌ، أبوابٌ تُفتحُ، لينُ تُسحبُ، تُلقى في شاحنةٍ، تُنقلُ إلى مكانٍ آخرَ، لكنها تُخفي الورقةَ الصغيرةَ في فمها، الورقةَ التي كتبتْ عليها شهادتها، تُخزِّنُ كلَّ وجهٍ، كلَّ صوتٍ، كلَّ جهازٍ، تعرفُ أن الزنزانةَ لم تنتهِ، لكنها تعرفُ أيضاً أن البذرةَ قد زُرعتْ في عقلها، بذرةُ الشهادةِ، بذرةُ الكرامةِ، بذرةُ فلسطينَ، بذرةٌ ستُنبتُ حديقةً، ستُحرقُ الوحشَ، ستُحرِّرُ العالمَ.


3

يبدأُ الظلامُ يتخللُ روحَ لينَ كأنّه حبرٌ أسودُ يُكتبُ على صفحاتِ الذاكرةِ بقلمٍ من نارٍ، والزنزانةُ الجديدةُ، أعمقُ، أضيقُ، أكثرُ رطوبةً، تُلقى فيها ككيسٍ من اللحمِ المُتعفِّنِ، جدرانُها تُفرزُ ماءً مالحاً يختلطُ بدمائها، والهواءُ ثقيلٌ برائحةِ الموتِ المُعلَّقِ، رائحةِ أجسادٍ سابقةٍ تُركتْ لتتحللَ ببطءٍ، رائحةِ السائلِ المنويِّ المُجفَّفِ على الأرضِ كقشورِ جرحٍ قديمٍ لا يُشفى. لينُ تُسحبُ من ذراعيها المُكسِّرتينِ، تُعلَّقُ على جدارٍ من حديدٍ، يداها مكبَّلتانِ فوقَ رأسها، قدماها لا تلامسانِ الأرضَ، جسدها المُمزَّقُ يتدلَّى كثوبٍ أبيضَ مُغطّى بالدمِ والترابِ، والضابطُ موشيه يدخلُ، يرتدي بزّةً أمريكيةً نظيفةً، يحملُ في يده ملفّاً سميكاً، يقولُ بصوتٍ باردٍ مُدرَّبٍ في أكاديمياتِ السي آي إي: "لدينا أوامرُ من البنتاغون، يجب أن نُخرجَ منكِ اعترافاً كاملاً، يجب أن نُثبتَ أنكِ قائدةُ خليةٍ، يجب أن نُبرِّرَ القصفَ، يجب أن نُبرِّرَ التمويلَ." لينُ تُحدِّقُ في عينيه، ترى فيهما الخوفَ المُقنَّعَ بالسلطةِ، ثم تبتسمُ ابتسامةً صغيرةً مُرعبةً، تقولُ: "سأعترفُ، لكن اعترافي سيكونُ قنبلةً، سأروي كلَّ شيءٍ، الزجاجةَ، الكلبَ، الكهرباءَ، الأمريكيَّ، السي آي إي، كلَّ شيءٍ." موشيه يضربُ وجهها بقفازٍ جلديٍّ، يتركُ أثراً أحمراً، ثم يُشيرُ إلى الجنديِّ الأمريكيِّ، الذي يُخرجُ جهازاً جديداً، جهازَ "الصندوقِ الأسودِ"، صندوقٌ معدنيٌّ صغيرٌ يُوضعُ على الرأسِ، يُوصلُ بأسلاكٍ، يُرسلُ صعقاتٍ كهربائيةً إلى الدماغِ، يُسبِّبُ هلوساتٍ، ألماً لا يُطاقُ، يُصوِّرُ، يقولُ: "هذا الجهازُ من صنعِ شركةٍ أمريكيةٍ، يُستخدمُ في السجونِ السوداءِ، يُكسرُ الذاكرةَ، يُعيدُ كتابتها، لكنكِ ستتكلَّمينَ قبلَ أن نُعيدَ برمجتكِ." لينُ تُلبسُ الصندوقَ، الصعقاتُ تبدأُ، رأسُها يهتزُّ، عيناها تتسعانِ، ترى هلوساتٍ، أمها تُقصفُ، أبوها يُعذَّبُ، إخوتها يبكونَ، لكنها تُكتمُ صرخاتها، تُخزِّنُ كلَّ صعقةٍ، كلَّ هلوسةٍ، تكتبُ في ذهنها: "سأروي هذا، سأجعلُ الصندوقَ يتكلمُ بلساني." يأتي الجنديُّ الإسرائيليُّ، يُخرجُ أنبوباً مطاطيّاً، يُدخلُه في فمها، يُضخُّ ماءً مالحاً، ماءً مُضافاً إليه موادٌ كيميائيةٌ أمريكيةٌ تُسبِّبُ حرقةً في المعدةِ، غرقاً داخليّاً، يُصوِّرُ، يقولُ: "هذا البروتوكولُ الأمريكيُّ الغرقُ الجافُّ ، يُعلِّمُ الضحيةَ أن الموتَ يمكنُ أن يكونَ بطيئاً، يمكنُ أن يكونَ داخلَ الجسدِ." لينُ تختنقُ، ماءٌ يسيلُ من أنفها، من فمها، لكنها لا تعترفُ، تُحدِّقُ في الكاميرا، تُخزِّنُ كلَّ قطرةٍ، كلَّ حرقةٍ. في الليلِ، يُتركُ لها الظلامُ، الصندوقُ يُزالُ، لكن الألمُ يبقى، جسدها يرتجفُ، دمُها يسيلُ، لكنها تُخرجُ الورقةَ الصغيرةَ من فمها، تُخفيها تحتَ لسانها، تكتبُ عليها بأظفرها المكسورِ، تكتبُ بدمها، تكتبُ: "الصندوقُ الأسودُ، الغرقُ الجافُّ، السي آي إي، البنتاغون، كلُّ شيءٍ." في اليومِ التالي، يدخلُ يوسي، الجنديُّ الشابُّ، يحملُ في يده خبزاً، يُعطيها إياهُ سراً، يقولُ: "أنا أرى ما يفعلونَ، أنا أكرهُ نفسي، أنا أريدُ أن أُوقفَ هذا." لينُ تأخذُ الخبزَ، تُحدِّقُ في عينيه، ترى الشقَّ يتسعُ، تُعطيه الورقةَ الصغيرةَ، تقولُ بصوتٍ خافتٍ: "أخرجْ هذه، أرسلها للعالمِ، كنْ شاهدي." يوسي يأخذُ الورقةَ، يُخفيها في جيبهِ، يخرجُ، قلبه يخفقُ، يعرفُ أن هذه اللحظةَ ستُغيِّرُ حياتهُ. في الأيامِ التاليةِ، يتكررُ التعذيبُ، لكن يوسي يبدأُ يُساعدُ سراً، يُعطيها ماءً، يُخفِّفُ من الصعقاتِ، يُسرِّبُ الورقةَ إلى صحفيٍّ سريٍّ، والشهادةُ تبدأُ رحلتها، تُرجمُ، تُطبعُ، تُعرضُ، والعالمُ يبدأُ يسمعُ صوتَ لينَ، صوتَ الزجاجةِ، الكلبِ، الصندوقِ، الغرقِ، صوتَ الوحشيةِ الصهيونيةِ الأمريكيةِ، صوتَ بذرةٍ تُنبتُ في الظلامِ، بذرةٌ ستُصبحُ حديقةً، ستُحرِّرُ العالمَ.


4


يتحولُ البردُ إلى نارٍ داخليةٍ تُحرقُ عروقَ لينَ كأنّها أنابيبُ حممٍ تتدفقُ في جسدٍ مُمزَّقٍ، والزنزانةُ تُغلقُ عليها من جديدٍ بعدَ أن سُرِّبتْ الورقةُ، جدرانُها تُفرزُ سموماً كيميائيةً أمريكيةً تُضافُ إلى الهواءِ لتُسبِّبَ هلوساتٍ، رائحةُ الغازِ المُسيلِ للدموعِ المُخزَّنِ في الجدرانِ تختلطُ برائحةِ اللحمِ المُحترقِ والسائلِ المنويِّ المُتخثِّرِ، والأرضُ تُغطّى بطبقةٍ من الملحِ المُعالجِ أمريكياً ليُسبِّبَ تقرُّحاتٍ في الجلدِ عندَ أيِّ لمسةٍ. لينُ تُسحبُ من شعرها، تُلقى على طاولةٍ معدنيةٍ باردةٍ، جسدها المُشوَّهُ يُثبَّتُ بأحزمةٍ جلديةٍ أمريكيةٍ، يداها وقدماها مفتوحتانِ كنجمةٍ مُعذَّبةٍ، والضابطُ موشيه يدخلُ، يرتدي قناعاً طبياً أمريكياً، يحملُ في يده حقيبةً سوداءَ مكتوبٌ عليها "CIA Black Kit"، يقولُ بصوتٍ هادئٍ مُدرَّبٍ في فيرجينيا: "اليومَ سنُجرِّبُ البروتوكولَ الجديدَ، الإبرُ المتكلمةُ ، إبرٌ مُجوَّفةٌ تُحقنُ في الأعصابِ، تُسبِّبُ ألماً لا يُطاقُ، تُجبرُ الضحيةَ على الاعترافِ، وكلُّ شيءٍ مُسجَّلٌ للأرشيفِ الأمريكيِّ." لينُ تُحدِّقُ في عينيه، ترى فيهما النشوةَ المُقنَّعةَ بالعلمِ، ثم تبتسمُ ابتسامةً داميةً، تقولُ: "سأعترفُ، لكن اعترافي سيكونُ إبرةً في قلبِ أمريكا، سأروي كلَّ إبرةٍ، كلَّ حقنةٍ، كلَّ بروتوكولٍ." موشيه يُشيرُ إلى الجنديِّ الأمريكيِّ، الذي يُخرجُ إبراً طويلةً مُعقَّمةً، يُدخلُها في أعصابِ أصابعها، في أعصابِ فخذيها، في أعصابِ عنقها، يُضغطُ على المكبسِ، سائلٌ حارقٌ يتدفقُ، ألمٌ يُشبهُ ألفَ سكينٍ تُغرزُ في اللحظةِ نفسها، لينُ ترتجفُ، جسدها يتشنجُ، لكنها لا تصرخُ، تُكتمُ صوتها، تُخزِّنُ كلَّ إبرةٍ، كلَّ سائلٍ، كلَّ تعليقٍ، تكتبُ في ذهنها: "الإبرُ المتكلمةُ، السي آي إي، فيرجينيا، كلُّ شيءٍ." يأتي الجنديُّ الإسرائيليُّ، يُخرجُ جهازاً جديداً، جهازَ "الصوتِ المُدمِّرِ"، سماعاتٌ تُوضعُ على أذنيها، تُبثُّ أصواتاً عاليةَ الترددِ أمريكيةَ الصنعِ، أصواتٌ تُسبِّبُ نزيفاً في الأذنِ، تُسبِّبُ هلوساتٍ سمعيةً، يُصوِّرُ، يقولُ: "هذا الجهازُ من صنعِ شركةٍ أمريكيةٍ، يُستخدمُ في السجونِ السوداءِ، يُكسرُ الذاكرةَ، يُعيدُ تشكيلها، لكنكِ ستتكلَّمينَ قبلَ أن نُعيدَ برمجتكِ." لينُ تسمعُ أصواتاً، أصواتَ قصفٍ، أصواتَ أطفالٍ يبكونَ، أصواتَ أمهاتٍ يصرخنَ، لكنها تُكتمُ، تُحدِّقُ في الكاميرا، تُخزِّنُ كلَّ صوتٍ، كلَّ ترددٍ. في منتصفِ الليلِ، يُتركُ لها الظلامُ، الإبرُ تُزالُ، لكن الألمُ يبقى، جسدها يرتجفُ، دمُها يسيلُ، لكنها تُخرجُ قطعةَ قماشٍ صغيرةً من ثوبها، تكتبُ عليها بدمها، تكتبُ: "الإبرُ، الصوتُ، السي آي إي، كلُّ شيءٍ." في اليومِ التالي، يدخلُ يوسي، يحملُ في يده دواءً، يُعطيها إياهُ سراً، يقولُ: "الورقةُ وصلتْ، الصحفيُّ يُترجمُها، العالمُ يبدأُ يسمعُ." لينُ تأخذُ الدواءَ، تُحدِّقُ في عينيه، تُعطيه القماشةَ، تقولُ: "أضفْ هذه، كنْ شاهدي." يوسي يأخذُ القماشةَ، يُخفيها، يخرجُ، قلبه يخفقُ، يعرفُ أن الثورةَ قد بدأتْ. في الأيامِ التاليةِ، يتكررُ التعذيبُ، لكن يوسي يُساعدُ، يُخفِّفُ، يُسرِّبُ المزيدَ، والشهادةُ تنتشرُ، تُرجمُ، تُطبعُ، تُعرضُ، والعالمُ يسمعُ صوتَ لينَ، صوتَ الإبرِ، الصوتِ، السي آي إي، صوتَ الوحشيةِ الصهيونيةِ الأمريكيةِ، صوتَ بذرةٍ تُنبتُ في الظلامِ، بذرةٌ ستُصبحُ حديقةً، ستُحرِّرُ العالمَ.

5

ينفجرُ الألمُ في جسدِ لينَ كبركانٍ يُطلقُ حممَه داخلَ العظامِ، والزنزانةُ تُغلقُ عليها كقبرٍ حيٍّ يتنفسُ سموماً أمريكيةً مُصنَّعةً في مختبراتِ فورت براغ، جدرانُها تُفرزُ غازاً خفيّاً يُسبِّبُ حكَّةً لا تُطاقَ في الجلدِ المُتقرِّحِ، ورائحةُ الكيروسينِ المُخلوطِ بالفوسفورِ الأبيضِ تختلطُ برائحةِ اللحمِ المُحترقِ والسائلِ المنويِّ المُتخثِّرِ على الأرضِ كقشرةِ جرحٍ أبديٍّ. لينُ تُسحبُ من أذنيها المُنزَّفتينِ، تُلقى على كرسيٍّ كهربائيٍّ أمريكيٍّ قديمٍ مُجدَّدٍ، جسدها المُشوَّهُ يُثبَّتُ بأحزمةٍ معدنيةٍ، رأسُها مُغطّى بقبعةٍ من الأسلاكِ، والضابطُ موشيه يدخلُ، يرتدي بدلةً واقيةً أمريكيةً، يحملُ في يده جهازَ تحكُّمٍ عن بُعدٍ مكتوبٌ عليه "MKUltra Enhanced"، يقولُ بصوتٍ آليٍّ مُدرَّبٍ في لانغلي: "اليومَ سنُجرِّبُ البروتوكولَ الأعلى، الكرسيُّ المُتحدِّثُ ، صعقاتٌ كهربائيةٌ مُبرمجةٌ لتُحرقَ الخلايا العصبيةَ، تُمحو الذاكرةَ، تُجبرُ اللسانَ على الاعترافِ، وكلُّ شيءٍ مُسجَّلٌ لقاعدةِ بياناتِ البنتاغون." لينُ تُحدِّقُ في عينيه، ترى فيهما النشوةَ المُقنَّعةَ بالتكنولوجيا، ثم تبتسمُ ابتسامةً داميةً، تقولُ: "سأعترفُ، لكن اعترافي سيكونُ صعقةً في قلبِ أمريكا، سأروي كلَّ صعقةٍ، كلَّ سلكٍ، كلَّ بروتوكولٍ." موشيه يضغطُ الزرَّ، الصعقاتُ تبدأُ، جسدها يتشنجُ، عيناها تتسعانِ، شعرُها يقفُ، رائحةُ اللحمِ المُحترقِ تملأُ الزنزانةَ، لكنها لا تصرخُ، تُكتمُ صوتها، تُخزِّنُ كلَّ صعقةٍ، كلَّ رائحةٍ، كلَّ تعليقٍ، تكتبُ في ذهنها: "الكرسيُّ المُتحدِّثُ، MKUltra، لانغلي، كلُّ شيءٍ." يأتي الجنديُّ الأمريكيُّ، يُخرجُ جهازاً جديداً، جهازَ "الأنبوبِ المُحقونِ"، أنابيبُ بلاستيكيةٌ تُدخلُ في الأنفِ، في الحلقِ، في المستقيمِ، تُضخُّ سوائلُ كيميائيةٌ أمريكيةٌ تُسبِّبُ انتفاخاً، حرقةً، غثياناً لا ينتهي، يُصوِّرُ، يقولُ: "هذا البروتوكولُ الأمريكيُّ الانتفاخُ الداخليُّ ، يُعلِّمُ الضحيةَ أن الجسدَ يمكنُ أن يُفجَّرَ من الداخلِ، يُكسرُ الكبرياءَ قبلَ الجسدِ." لينُ تختنقُ، بطنُها ينتفخُ، سوائلُ تسيلُ من فمها، من أنفها، لكنها لا تعترفُ، تُحدِّقُ في الكاميرا، تُخزِّنُ كلَّ أنبوبٍ، كلَّ سائلٍ. في منتصفِ الليلِ، يُتركُ لها الظلامُ، الكرسيُّ يُفصلُ، لكن الألمُ يبقى، جسدها يرتجفُ، دمُها يسيلُ، لكنها تُخرجُ قطعةَ جلدٍ صغيرةً من ذراعها، تكتبُ عليها بدمها، تكتبُ: "الكرسيُّ، الأنبوبُ، MKUltra، كلُّ شيءٍ." في اليومِ التالي، يدخلُ يوسي، يحملُ في يده مسكِّناً، يُعطيها إياهُ سراً، يقولُ: "الشهادةُ انتشرتْ، الصحفُ تُطبعُها، البرلماناتُ تُناقشُها، العالمُ يغلي." لينُ تأخذُ المسكِّنَ، تُحدِّقُ في عينيه، تُعطيه الجلدَ، تقولُ: "أضفْ هذه، كنْ شاهدي." يوسي يأخذُ الجلدَ، يُخفيها، يخرجُ، قلبه يخفقُ، يعرفُ أن الثورةَ قد اشتعلتْ. في الأيامِ التاليةِ، يتكررُ التعذيبُ، لكن يوسي يُساعدُ، يُخفِّفُ، يُسرِّبُ المزيدَ، والشهادةُ تنتشرُ، تُرجمُ، تُطبعُ، تُعرضُ، والعالمُ يسمعُ صوتَ لينَ، صوتَ الكرسيِّ، الأنبوبِ، MKUltra، صوتَ الوحشيةِ الصهيونيةِ الأمريكيةِ، صوتَ بذرةٍ تُنبتُ في الظلامِ، بذرةٌ ستُصبحُ حديقةً، ستُحرِّرُ العالمَ.

6


ينفجرُ الظلامُ في عيني لينَ كأنّه حبرٌ من دماءٍ سوداءَ يُغرقُ الروحَ قبلَ الجسدِ، والزنزانةُ تُغلقُ عليها كفرنٍ حيٍّ يُذيبُ اللحمَ ببطءٍ، جدرانُها تُفرزُ أبخرةً كيميائيةً أمريكيةً مُصنَّعةً في مختبراتِ لوس ألاموس، غازٌ يُسبِّبُ تقشُّراً في الجلدِ، يُحوِّلُ التنفسَ إلى لهيبٍ، ورائحةُ الفوسفورِ الأبيضِ المُخزَّنِ في الجدرانِ تختلطُ برائحةِ اللحمِ المُشوَّى والسائلِ المنويِّ المُتجمدِ على الأرضِ كقشرةِ جحيمٍ أبديٍّ. لينُ تُسحبُ من عنقها المُنزَّفِ، تُلقى داخلَ غرفةٍ زجاجيةٍ شفافةٍ، جسدها المُشوَّهُ يُثبَّتُ على منصةٍ دوّارةٍ، رأسُها مُغطّى بقناعٍ أمريكيٍّ مُضغوطٍ، والضابطُ موشيه يدخلُ، يرتدي بدلةً واقيةً من الإشعاعِ، يحملُ في يده جهازَ "الإشعاعِ المُتحكَّمِ"، جهازاً أمريكياً مُصغَّراً يُطلقُ أشعةً غاما مُبرمجةً لتُحرقَ الأنسجةَ من الداخلِ، يقولُ بصوتٍ آليٍّ مُدرَّبٍ في لوس ألاموس: "اليومَ سنُجرِّبُ البروتوكولَ الأخيرَ، الإشعاعُ المُعترفُ ، أشعةٌ تُذيبُ الأعضاءَ الداخليةَ، تُسبِّبُ سرطاناً فورياً، تُجبرُ اللسانَ على الاعترافِ قبلَ الموتِ، وكلُّ شيءٍ مُسجَّلٌ لأرشيفِ السي آي إي." لينُ تُحدِّقُ في عينيه، ترى فيهما النشوةَ المُقنَّعةَ بالعلمِ النوويِّ، ثم تبتسمُ ابتسامةً داميةً، تقولُ: "سأعترفُ، لكن اعترافي سيكونُ قنبلةً نوويةً في قلبِ أمريكا، سأروي كلَّ أشعةٍ، كلَّ جهازٍ، كلَّ بروتوكولٍ." موشيه يضغطُ الزرَّ، الأشعةُ تبدأُ، جسدها يرتجفُ، بطنُها يحترقُ، كبدُها يذوبُ، لكنها لا تصرخُ، تُكتمُ صوتها، تُخزِّنُ كلَّ أشعةٍ، كلَّ حرقةٍ، كلَّ تعليقٍ، تكتبُ في ذهنها: "الإشعاعُ المُعترفُ، لوس ألاموس، السي آي إي، كلُّ شيءٍ." يأتي الجنديُّ الأمريكيُّ، يُخرجُ جهازاً جديداً، جهازَ "الفراغِ المُطلقِ"، غرفةُ زجاجيةٌ تُفرَّغُ من الهواءِ، تُسبِّبُ اختناقاً بطيئاً، يُصوِّرُ، يقولُ: "هذا البروتوكولُ الأمريكيُّ الفراغُ الداخليُّ ، يُعلِّمُ الضحيةَ أن الحياةَ يمكنُ سحبُها من الرئتينِ، يُكسرُ الأملَ قبلَ الجسدِ." لينُ تختنقُ، رئتاها تتقلصانِ، عيناها تبرزانِ، لكنها لا تعترفُ، تُحدِّقُ في الكاميرا، تُخزِّنُ كلَّ شهقةٍ، كلَّ فراغٍ. في منتصفِ الليلِ، يُتركُ لها الظلامُ، الغرفةُ تُفتحُ، لكن الألمُ يبقى، جسدها يرتجفُ، دمُها يسيلُ، لكنها تُخرجُ عظمةً صغيرةً من أنفها، تكتبُ عليها بدمها، تكتبُ: "الإشعاعُ، الفراغُ، لوس ألاموس، كلُّ شيءٍ." في اليومِ التالي، يدخلُ يوسي، يحملُ في يده أكسجيناً، يُعطيها إياهُ سراً، يقولُ: "الشهادةُ وصلتْ إلى جنيف، إلى لاهاي، إلى واشنطن، العالمُ يثورُ." لينُ تأخذُ الأكسجينَ، تُحدِّقُ في عينيه، تُعطيه العظمةَ، تقولُ: "أضفْ هذه، كنْ شاهدي." يوسي يأخذُ العظمةَ، يُخفيها، يخرجُ، قلبه يخفقُ، يعرفُ أن النهايةَ قد اقتربتْ. في الأيامِ التاليةِ، يتكررُ التعذيبُ، لكن يوسي يُساعدُ، يُخفِّفُ، يُسرِّبُ المزيدَ، والشهادةُ تنتشرُ، تُرجمُ، تُطبعُ، تُعرضُ، والعالمُ يسمعُ صوتَ لينَ، صوتَ الإشعاعِ، الفراغِ، لوس ألاموس، صوتَ الوحشيةِ الصهيونيةِ الأمريكيةِ، صوتَ بذرةٍ تُنبتُ في الظلامِ، بذرةٌ ستُصبحُ حديقةً، ستُحرِّرُ العالمَ.



الفصل الثاني

1

ينفجرُ صوتُ انفجارٍ بعيدٍ في ليلِ غزةَ كأنّه صرخةُ الأرضِ نفسها تُمزِّقُ ستارَ الظلامِ، والزنزانةُ تهتزُّ، جدرانُها الخرسانيةُ تتفتتُ قليلاً، غبارُ الركامِ يتسربُ من السقفِ كدموعِ سماءٍ غاضبةٍ، ولينُ، المُعلَّقةُ على الحبلِ، جسدها المُمزَّقُ يتمايلُ كثوبٍ أبيضَ مُغطّى بالدمِ والترابِ والسائلِ المنويِّ المُجفَّفِ، تُسقطُ فجأةً على الأرضِ الباردةِ، الحبلُ ينقطعُ، الأبوابُ تُفتحُ بعنفٍ، أصواتُ المقاومةِ تدوِّي في الممراتِ، طلقاتُ نارٍ، صراخُ جنودٍ، انفجاراتٌ متتاليةٌ، والضابطُ موشيه يركضُ، يصرخُ بصوتٍ متهدِّجٍ بالخوفِ: "أخرجوها، أحرقوا الأدلةَ، لا تتركوا شيئاً!" لينُ تُزحفُ على بطنها، دمُها يرسمُ خطّاً أحمراً على الأرضِ، تُخفي قطعةَ الجلدِ والعظمةَ في فمها، تُحدِّقُ في الظلامِ، ترى يوسي يركضُ نحوها، يُمسكُ ذراعها المُكسِّرةَ، يهمسُ: "تعالي، الآنَ، المقاومةُ هنا." لينُ تُمسكُ يدهُ، تُزحفُ معهُ عبرَ الممرِّ، رصاصٌ يتطايرُ، جثثُ جنودٍ تسقطُ، رائحةُ البارودِ تملأُ الهواءَ، ويوسي يُطلقُ النارَ من سلاحِ جنديٍّ ميتٍ، يُغطِّيها، يُخرجُها من البابِ الخلفيِّ، شاحنةٌ تنتظرهُ، مقاومونَ يُسحبونها داخلَها، الشاحنةُ تنطلقُ، تُقصفُ الزنزانةُ خلفهم، تنهارُ كقبرٍ يُدفنُ أسرارهُ، لكن لينَ حيةٌ، جسدها دامٍ، روحها مشتعلةً. في الشاحنةِ، مقاومٌ يُعطيها ماءً، يُلفُّ جروحها بقماشٍ، لينُ تُخرجُ قطعةَ الجلدِ والعظمةَ، تُعطيها ليوسي، تقولُ بصوتٍ متهدِّجٍ لكنه ثابتٌ: "أكملْ الشهادةَ، أرسلها للعالمِ، كنْ صوتي." شاحنةٌ تتوقفُ في مخيمٍ للنازحينَ، خيمةٌ مهترئةٌ، إخوتها زيتونةُ وخالدُ يركضانِ نحوها، يعانقانها، يبكيانِ، لينُ لا تبكي، تُمسكُ وجوههما، تقولُ: "سنزرعُ، سنروي، سنشهدُ." في الخيمةِ، لينُ تُخرجُ ورقةً صغيرةً مسروقةً من جيبِ يوسي، قلمَ رصاصٍ مكسورَ، تبدأُ تكتبُ، تكتبُ الزجاجةَ، الكلبَ، الإبرَ، الصندوقَ، الكرسيَّ، الإشعاعَ، تكتبُ بقلمٍ يرتجفُ، بحبرٍ من دمها ودموعِ إخوتها، تكتبُ شهادتها الكاملةَ، شهادةً تُحرقُ الضمائرَ، تُحرقُ الأكاذيبَ، تُحرقُ الوحشَ الصهيونيَّ الأمريكيَّ. يوسي يجلسُ بجانبها، يُضيفُ تفاصيلَ، يُترجمُ، يُرسلُ الشهادةَ عبرَ قنواتِ المقاومةِ إلى صحفيٍّ سريٍّ، والشهادةُ تبدأُ رحلتها، تُرجمُ إلى عشراتِ اللغاتِ، تُطبعُ في صحفٍ كبرى، تُعرضُ على شاشاتٍ عملاقةٍ في ميادينِ عواصمَ بعيدةٍ، تُقرأُ بصوتٍ مرتجفٍ في برلماناتٍ، في جامعاتٍ، في مساجدَ وكنائسَ ومعابدَ. في جنيفَ، بكى محققونَ دوليونَ وهم يقرأونَ عن الزجاجةِ، عن الكلبِ، عن الإبرِ، عن الصندوقِ، عن الكرسيِّ، عن الإشعاعِ، كتبوا تقريراً سميكاً يُثبتُ النظامَ الفاشيَّ الصهيونيَّ الأمريكيَّ الذي يُدرِّبُ الجنودَ على الإذلالِ، على الاغتصابِ، على التصويرِ، على التدميرِ النوويِّ. في واشنطنَ، وقفتْ نائبةٌ شابةٌ من أصلٍ فلسطينيٍّ تقرأُ الشهادةَ في الكونغرسِ، ف عمَّ الصمتُ، ثم انفجرتْ الأسئلةُ عن التمويلِ، عن السلاحِ، عن الصمتِ، عن السي آي إي، عن لوس ألاموس. في غزةَ، أصبحتْ لينُ رمزاً، رمزاً للصمودِ، للمقاومةِ، للشهادةِ، يزورها صحفيونَ، ناشطونَ، محامونَ دوليونَ، يستمعونَ إليها وهي تروي بصوتٍ هادئٍ، صوتٍ لا يبكي، صوتٍ يشهدُ، صوتٍ يزرعُ. في تل أبيبَ، انتشرَ الذعرُ، أوامرٌ بإغلاقِ الحساباتِ، بحذفِ الصورِ، بإسكاتِ الأصواتِ، لكن الأصواتَ انتشرتْ، جنديٌّ يرتجفُ في غرفتهِ، يرى وجهَ لينَ في كوابيسهِ، وجهَ لينَ الذي لم يرهُ لكنه يعرفُ أنها تراهُ، يوسي يهربُ، يُصبحُ شاهدَ عيانٍ، يروي في مؤتمراتٍ سريةٍ. في لاهايَ، فُتحَ ملفٌ سميكٌ، آلافُ الشهاداتُ، آلافُ الأسماءُ، آلافُ الصورُ، آلافُ الأفلامُ، بدأَ التحقيقُ، بدأَ جمعُ الأدلةُ، بدأَ البحثُ عن الجنودِ، عن القادةِ، عن الشركاتِ الأمريكيةِ. شهدتْ لينُ عبرَ الفيديو، صوتُها يُحرقُ الضمائرَ، فأصدرتْ المحكمةُ أوامرَ اعتقالٍ، سُحبَ جنودٌ من منازلهم، ضباطٌ من مكاتبهم، قادةٌ من قصورهم، سُيقوا إلى لاهايَ مكبَّلينَ، مُذلَّلينَ، مُجبرينَ على مواجهةِ الأفلامِ التي صوَّروها بأنفسهم. في غزةَ، بدأتْ لينُ تزرعُ، تزرعُ شجرةَ زيتونٍ صغيرةً في الركامِ أمامَ الخيمةِ، ترويها بماءِ دموعها، تُعلِّمُ زيتونةَ وخالدَ القراءةَ، الكتابةَ، الصمودَ، تُعلِّمُهما أن البذرةَ أقوى من الزجاجةِ، من الكلبِ، من الإشعاعِ. بنى متطوعونَ بيتاً صغيراً من الطوبِ، حديقةً صغيرةً، مركزاً للدعمِ النفسيِّ، مركزاً يُعلِّمُ الناجينَ الكتابةَ، الروايةَ، الشهادةَ، يُعلِّمُهما أن الجرحَ يُصبحُ حديقةً. انتشرتْ المظاهراتُ في العالمِ، ملايينُ في الشوارعِ، يحملونَ لافتاتٍ "الاغتصابُ ليس دفاعاً عن النفس"، "أوقفوا التمويلَ الأمريكيَّ"، قاطعتْ الشركاتُ، أغلقتْ البنوكُ، ألغتْ الجامعاتُ، رفضَ الرياضيونَ، غنَّى الفنانونَ. أشعلتْ لينُ شرارةً من كلماتٍ، من قرفٍ، من ألمٍ، شرارةً أصبحتْ حريقاً عالمياً، حريقاً يُحرقُ الوحشَ الصهيونيَّ الأمريكيَّ، حريقاً يُنبتُ بذرةً، بذرةً ستُصبحُ حديقةً، ستُصبحُ مجرةً.

2

يبدأُ صوتُ الريحِ يعصفُ في المخيمِ كأنينِ أرواحٍ تُطاردُ الركامَ، وحديقةُ لينَ الصغيرةُ أمامَ الخيمةِ تتلألأُ تحتَ ضوءِ قمرٍ شاحبٍ يُشبهُ وجهَ طفلٍ جائعٍ، شجرةُ الزيتونِ الصغيرةُ تُميلُ أغصانها كأنها تُصلِّي للأرضِ، ولينُ تجلسُ على حصيرةٍ مهترئةٍ، جسدها المُشوَّهُ ملفوفٌ بقماشٍ أبيضَ مُلطَّخٍ بالدمِ الجافِّ، عيناها الخضراوانِ تلمعانِ بنارٍ لا تنطفئُ، تُمسكُ دفترَ شهاداتٍ صغيرَ مكتوبٌ عليه بخطِّ يدِ زيتونةَ "من الجرحِ إلى الحديقةِ"، تكتبُ فيه كلَّ ليلةٍ، تكتبُ الزجاجةَ المكسورةَ التي مزَّقتْ أحشاءها، الكلبَ الذي عضَّ لحمها، الإبرَ التي حرقتْ أعصابها، الصندوقَ الذي محا ذاكرتها، الكرسيَّ الذي شوى جلدها، الإشعاعَ الذي ذوَّبَ كبدها، تكتبُ بقلمٍ مكسورٍ، بحبرٍ من دموعِ خالدَ ودمِها، تكتبُ لتُحرقَ الضمائرَ، لتُحرقَ الأكاذيبَ، لتُحرقَ الوحشَ الصهيونيَّ الأمريكيَّ. يوسي يصلُ في الليلِ، مُقنَّعاً، يحملُ في يده ملفّاً سميكاً، صورَ الأفلامِ التي صوَّرها الجنودُ بأنفسهم، أدلةً من قاعدةِ البياناتِ الأمريكيةِ، يُعطيها للينَ، يقولُ بصوتٍ مرتجفٍ: "هذه الأفلامُ، صوَّروها للتدريبِ، الآن ستُصبحُ سلاحَكِ." لينُ تأخذُ الملفَّ، تُدخلُه في صندوقِ هدايا خشبيٍّ صغيرٍ، مع قطعةِ الجلدِ، العظمةِ، الورقةِ، تقولُ: "هذه ليستْ أفلاماً، بل قبورٌ، قبورٌ للكرامةِ، سنُحييها." في الصباحِ، يجتمعُ الناجونَ في الحديقةِ، نساءٌ، أطفالٌ، رجالٌ، يحملونَ جروحاً مُشابهةً، يجلسونَ حولَ لينَ، تُعلِّمهم الكتابةَ، تُعلِّمهم الروايةَ، تُعلِّمهم الشهادةَ، تقولُ: "كلُّ جرحٍ كلمةٌ، كلُّ كلمةٌ بذرةٌ، كلُّ بذرةٌ حديقةٌ." فتاةٌ اسمها سارةُ، أسيرةٌ سابقةٌ، تكتبُ عن الزجاجةِ التي استُخدمتْ عليها، عن الكلبِ الذي عضَّها، عن الإبرِ التي حرقتْها، تُعطي شهادتها للينَ، تقولُ: "كنتُ ميتةً، الآن أنا حيةٌ بفضلِ كلماتكِ." لينُ تأخذُ الشهادةَ، تضعها في الدفترِ، ثم تزرعُ بذرةً جديدةً بجانبِ شجرةِ الزيتونِ، تسقيها بدموعِ سارةَ، تقولُ: "هذه بذرتكِ، ستُنبتُ كرامتكِ." في الأيامِ التاليةِ، تنتشرُ الشهاداتُ، يوسي يُرسلُ المزيدَ من الأفلامِ، من الأدلةِ، من الوثائقِ الأمريكيةِ، لينُ تُبثُّ مباشرةً عبرَ قنواتِ المقاومةِ، تروي، تُظهرُ الصورَ، تُظهرُ الأفلامَ، العالمُ يشاهدُ، يبكي، يغضبُ، ملايينُ في الشوارعِ، لافتاتٌ "أوقفوا التعذيبَ الصهيونيَّ الأمريكيَّ"، "أوقفوا التمويلَ"، "لينُ صوتُنا". في لاهايَ، تُعرضُ الأفلامُ في المحكمةِ، القضاةُ يبكونَ، المُدَّعونَ يصرخونَ، أوامرُ اعتقالٍ جديدةٌ، جنودٌ، ضباطٌ، شركاتٌ أمريكيةٌ، مُدرِّبونَ من السي آي إي، سُحبوا مكبَّلينَ. في واشنطنَ، الكونغرسُ يُعلِّقُ التمويلَ، الشركاتُ تُقاطعُ، الجامعاتُ تُلغي التعاونَ. في غزةَ، الحديقةُ تكبرُ، بذورٌ جديدةٌ، شهاداتٌ جديدةٌ، ناجونَ جددُ، لينُ تُعلِّمُ، تزرعُ، تروي، تُحوِّلُ الجرحَ إلى حديقةٍ، الدمَ إلى ماءٍ، الألمَ إلى أملٍ. في إحدى الليالي، تجلسُ لينُ تحتَ شجرةِ الزيتونِ، القمرُ يُضيءُ الحديقةَ كأنها بحيرةٌ من فضةٍ، تُخرجُ دفترها، تكتبُ: "في غزةَ، بدأتْ زجاجةٌ مكسورةٌ، أصبحتْ بذرةً، بدأ كلبٌ، أصبح غصناً، بدأ إشعاعٌ، أصبح ضوءاً، رأيتُ الوحشَ الصهيونيَّ الأمريكيَّ يُحرقُ بكلماتي، رأيتُ الكرامةَ تُنبتُ، رأيتُ فلسطينَ تُثمرُ." ثم تُغلقُ الدفترَ، تنظرُ إلى زيتونةَ وخالدَ، إلى سارةَ، إلى يوسي، تبتسمُ، تعرفُ أن الفصلَ الثانيَ بدأَ، أن الحديقةَ تكبرُ، أن البذرةَ أصبحتْ شجرةً، أن الرحلةَ مستمرةٌ، من الزنزانةِ إلى المجرةِ.


3

يبدأُ صوتُ طائرةٍ بدون طيارٍ يُمزِّقُ صمتَ الفجرِ كسكينٍ يُغرزُ في قلبِ السماءِ، والحديقةُ الصغيرةُ أمامَ خيمةِ لينَ تُغطّى بظلِّها الطويلِ، شجرةُ الزيتونِ ترتجفُ أوراقُها كأنها تُصلِّي للأرضِ ألا تُقصفَ، ولينُ تستيقظُ فجأةً، جسدها المُشوَّهُ يؤلمُها في كلِّ حركةٍ، جروحُ الزجاجةِ المكسورةِ تُفتحُ من جديدٍ، آثارُ الكلبِ تُحرقُ، الإبرُ تُخزُ، الصندوقُ يُصدِّعُ رأسها، الكرسيُّ يُشوي جلدها، الإشعاعُ يُذيبُ أحشاءها، لكنها تنهضُ، تُمسكُ دفترَ الشهاداتِ، تُخرجُ ملفَّ يوسي، تُعلِّقُ صورَ الأفلامِ على سياجِ الحديقةِ، صورُ الزجاجةِ، الكلبِ، الإبرِ، الصندوقِ، الكرسيِّ، الإشعاعِ، صورُ الوحشيةِ الصهيونيةِ الأمريكيةِ، لتكونَ شاهداً للناجينَ، للأطفالِ، للعالمِ. الأطفالُ يجتمعونَ، زيتونةُ وخالدُ يركضانِ، يُمسكانِ يديها، يسألانِ: "لماذا تُعلِّقينَ هذه الصورَ المرعبةَ؟" لينُ تجلسُ معهما تحتَ الشجرةِ، تُروي لهما بصوتٍ هادئٍ يُشبهُ همسَ الأوراقِ: "هذه ليستْ صوراً، بل قبورٌ، قبورٌ للكرامةِ، سنُحييها بكلماتنا، ببذورنا، بصمودنا." في الصباحِ، يصلُ وفدٌ من الناجينَ الجددِ، نساءٌ، رجالٌ، أطفالٌ، يحملونَ جروحاً مُشابهةً، يجلسونَ حولَ لينَ، تُعلِّمهم الكتابةَ، تُعلِّمهم الروايةَ، تُعلِّمهم الشهادةَ، تقولُ: "كلُّ جرحٍ كلمةٌ، كلُّ كلمةٌ بذرةٌ، كلُّ بذرةٌ حديقةٌ." امرأةٌ اسمها فاطمةُ تكتبُ عن الزجاجةِ التي استُخدمتْ على ابنها، عن الكلبِ الذي عضَّهُ، عن الإشعاعِ الذي ذوَّبهُ، تُعطي شهادتها للينَ، تقولُ: "كنتُ أموتُ كلَّ يومٍ، الآن أنا أعيشُ بفضلِ حديقتكِ." لينُ تأخذُ الشهادةَ، تضعها في الدفترِ، ثم تزرعُ بذرةً جديدةً بجانبِ شجرةِ الزيتونِ، تسقيها بدموعِ فاطمةَ، تقولُ: "هذه بذرتكِ، ستُنبتُ كرامةَ ابنكِ." في الأيامِ التاليةِ، تنتشرُ الشهاداتُ الجديدةُ، يوسي يُرسلُ المزيدَ من الأفلامِ، من الوثائقِ الأمريكيةِ، من تقاريرِ السي آي إي، لينُ تُبثُّ مباشرةً عبرَ الإنترنتِ، تروي، تُظهرُ الصورَ، تُظهرُ الأفلامَ، العالمُ يشاهدُ، يبكي، يغضبُ، ملايينُ في الشوارعِ، لافتاتٌ "أوقفوا التعذيبَ الصهيونيَّ الأمريكيَّ"، "أوقفوا الإشعاعَ"، "لينُ صوتُ الكرامةِ". في لاهايَ، تُعرضُ الأفلامُ الجديدةُ في المحكمةِ، القضاةُ يرتجفونَ، المُدَّعونَ يصرخونَ، أوامرُ اعتقالٍ جديدةٌ، شركاتٌ أمريكيةٌ، مُدرِّبونَ من لوس ألاموس، سُحبوا مكبَّلينَ. في واشنطنَ، الكونغرسُ يُعلِّقُ التمويلَ نهائياً، الشركاتُ تُفلسُ، الجامعاتُ تُغلقُ أبوابها. في غزةَ، الحديقةُ تكبرُ، بذورٌ جديدةٌ، شهاداتٌ جديدةٌ، ناجونَ جددُ، لينُ تُعلِّمُ، تزرعُ، تروي، تُحوِّلُ الجرحَ إلى حديقةٍ، الدمَ إلى ماءٍ، الألمَ إلى أملٍ. في إحدى الليالي، تجلسُ لينُ تحتَ الشجرةِ، القمرُ يُضيءُ الحديقةَ كأنها بحيرةٌ من ضوءٍ، تُخرجُ دفترها، تكتبُ: "في غزةَ، بدأتْ زجاجةٌ مكسورةٌ، أصبحتْ غصناً، بدأ إشعاعٌ، أصبح ضوءاً، رأيتُ الوحشَ الصهيونيَّ الأمريكيَّ يُحرقُ بشهاداتنا، رأيتُ الكرامةَ تُنبتُ في كلِّ جرحٍ، رأيتُ فلسطينَ تُثمرُ في كلِّ بذرةٍ." ثم تُغلقُ الدفترَ، تنظرُ إلى زيتونةَ وخالدَ، إلى فاطمةَ، إلى يوسي، تبتسمُ، تعرفُ أن الحديقةَ أصبحتْ رمزاً، أن البذرةَ أصبحتْ شجرةً، أن الرحلةَ مستمرةٌ، من الزنزانةِ إلى المجرةِ.

4

يبدأُ صوتُ الريحِ يعصفُ في الحديقةِ ليلاً كأنها تُنبِّئُ بتغيُّرٍ قادمٍ، أوراقُ الزيتونِ تتساقطُ كدموعٍ فضيةٍ على الترابِ الرطبِ، ولينُ تستيقظُ فجأةً على صوتِ انفجارٍ بعيدٍ يهزُّ الخيامَ كأن الأرضَ نفسها تتنهدُ من ألمٍ جديدٍ، تخرجُ حافيةً، ثوبها الأبيضُ يتمايلُ كشبحٍ في الظلامِ، تنظرُ إلى السماءِ المثقوبةِ بصواريخَ مضيئةٍ كنجومٍ سوداءَ، ثم تسمعُ صوتَ خالدَ يصرخُ: "الحديقةُ!" تركضُ لينُ، قلبها يخفقُ كطبلٍ حربيٍّ، تصلُ إلى الحديقةِ، فترى النيرانَ تلتهمُ سياجَ الخشبِ، شجرةَ الليمونِ الصغيرةَ، جزءًا من الأشجارِ، رجالُ المخيمِ يحاولونَ إطفاءَها بأوانٍ ماءٍ، دلاءٍ، أيدٍ عاريةٍ. لينُ تقفُ للحظةٍ، عيناها تمتلئانِ بدموعٍ، لكنها لا تبكي، بل تُمسكُ مجرفةً، تبدأُ تحفرُ خندقًا حولَ النيرانِ، تصرخُ: "لا تدعوها تموتَ، الحديقةُ حياتنا!" النساءُ ينضممنَ، الأطفالُ يحملونَ ماءً، الرجالُ يضربونَ النارَ بأغطيةٍ، والحديقةُ تنجو، لكن جزءًا منها احترقَ، أوراقٌ سوداءُ، جذورٌ متفحمةُ، رائحةُ الدخانِ تملأُ الهواءَ كذكرى جرحٍ جديدٍ، جرحٍ يُذكِّرُ بالزجاجةِ المكسورةِ، بالكلبِ، بالإبرِ، بالصندوقِ، بالكرسيِّ، بالإشعاعِ، بالوحشيةِ الصهيونيةِ الأمريكيةِ التي لم تنتهِ. في الفجرِ، تجلسُ لينُ وسطَ الرمادِ، تمسكُ ورقةً متفحمةً، ثم تنهضُ، تجمعُ الجميعَ، تقولُ بصوتٍ ثابتٍ: "النارُ لم تقتلْ الحديقةَ، بل أعادتْنا إلى البدايةِ، سنزرعُ من جديدٍ، أقوى، أعمقَ، لأن كلَّ ورقةٍ محترقةٍ هي شهادةٌ جديدةٌ ضدَّ الوحشِ." في الأيامِ التاليةِ، تبدأُ حملةُ إعادةِ البناءِ، بذورٌ جديدةٌ تصلُ من العالمِ، أدواتٌ، أيدٍ متطوعةٌ، لينُ تُعلِّمُ الجميعَ كيفَ يحوِّلونَ الرمادَ إلى سمادٍ، كيفَ يزرعونَ في الجذعِ المحترقِ، كيفَ يكتبونَ شهادةَ النارِ لتصبحَ درسًا ضدَّ الزجاجةِ، الكلبِ، الإبرِ، الصندوقِ، الكرسيِّ، الإشعاعِ. زيتونةُ ترسمُ شجرةً جديدةً، جذورها من رمادٍ، أغصانها إلى السماءِ، تعطيها للينَ، تقولُ: "هذه شجرتنا الجديدةُ، أقوى من الوحشِ الصهيونيِّ الأمريكيِّ." لينُ تأخذُ الرسمَ، تضعه في قلبِ الحديقةِ، ثم تبدأُ زراعةَ بذرةٍ في الرمادِ، بذرةٌ من شجرةِ النفقِ الأصليةِ، تسقيها بدموعها، تقولُ: "من الرمادِ تنبتُ الحياةُ، من الجرحِ تنبتُ الكرامةُ." في تلكَ اللحظةِ، يصلُ خبرٌ، الاحتلالُ يُعلنُ عن هجومٍ جديدٍ، قصفٌ متوقعٌ، إخلاءٌ لأجزاءٍ من المخيمِ، لينُ تسمعُ، لا ترتجفُ، بل تجمعُ الجميعَ، تقولُ: "لن نتركَ الحديقةَ، سنحميها بأجسادنا، بكلماتنا، بكرامتنا، سنحميها من الزجاجةِ، من الكلبِ، من الإشعاعِ." النساءُ يبنينَ سياجًا بشريًا حولَ الحديقةِ، الأطفالُ يحملونَ لافتاتٍ "هذه حديقتنا، هذه حي550ياتنا، هذه كرامتنا"، الرجالُ يحفرونَ خنادقَ دفاعيةً، لينُ تقفُ في الوسطِ، ترفعُ غصنَ زيتونٍ، تصرخُ: "لن يأخذوا بذرتنا، لن يأخذوا شهادتنا!" في الليلِ، تبدأُ القذائفُ تسقطُ قريبًا، الأرضُ تهتزُّ، الخيامُ تتطايرُ، لكن الحديقةَ محميةٌ، الأجسادُ درعٌ، الأصواتُ أناشيدُ، لينُ تغنِّي أغنيةَ الزيتونِ، صوتها يخترقُ الظلامَ، يهدِّئُ الخوفَ، يُعلِّمُ الصمودَ ضدَّ الوحشِ. في الفجرِ، يتوقفُ القصفُ، الحديقةُ نجتْ، لكن المخيمُ تضررَ، خيامٌ محترقةٌ، جرحى، لينُ تهرعُ، تسعفُ، تُعلِّمُ، تزرعُ، ثم تجمعُ الجميعَ، تقولُ: "النارُ لم تقتلْنا، القصفُ لم يكسرْنا، سنبني من جديدٍ، سنكتبُ شهادةَ القصفِ كما كتبنا شهادةَ الزجاجةِ والإشعاعِ." في الأسابيعِ التاليةِ، تبدأُ حملةُ إعادةِ بناءِ المخيمِ، الحديقةُ مركزُها، كلُّ خيمةٍ جديدةٍ تُبنى حولَ شجرةٍ، كلُّ عائلةٍ تزرعُ بذرةً، كلُّ طفلٍ يكتبُ شهادةً. العالمُ يشاهدُ، يرسلُ مساعداتٍ، متطوعينَ، بذورًا، لينُ تُبثُّ مباشرةً من الحديقةِ، تروي قصةَ النارِ، قصةَ القصفِ، قصةَ الصمودِ، ملايينُ يشاهدونَ، يبكونَ، يزرعونَ. في إحدى الليالي، تجلسُ لينُ وسطَ الرمادِ الجديدِ، تمسكُ بذرةً، تكتبُ في دفترها: "في غزةَ، احترقتْ الحديقةُ، لكنها نبتتْ من رمادها، قُصفتْ الأرضُ، لكنها أثمرتْ، الكرامةُ لا تموتُ، البذرةُ لا تموتُ، فلسطينُ لا تموتُ، والوحشُ الصهيونيُّ الأمريكيُّ سيُحرقُ بشهاداتنا." ثم تنهضُ، تزرعُ البذرةَ، تسقيها، تنظرُ إلى السماءِ، ترى نجومًا تتلألأُ، تعرفُ أن كلَّ نجمةٍ هي بذرةٌ، كلَّ نجمةٍ هي كرامةٌ، كلَّ نجمةٍ هي فلسطينُ، وأن الرحلةَ مستمرةٌ، من الرمادِ إلى المجرةِ.


5

يبدأُ صوتُ المطرِ يطرقُ على سقفِ الحديقةِ المؤقتِ المصنوعِ من أغطيةِ الخيامِ المُعادِ تدويرها، قطراتٌ صغيرةٌ تتسربُ بينَ الثقوبِ كدموعِ سماءٍ تعرفُ ألمَ الأرضِ، ولينُ تقفُ في الوسطِ، ماءُ المطرِ يبلِّلُ ثوبها الأبيضَ حتى يلتصقُ بجسدها كدرعٍ شفافٍ، يداها تمسكانِ بذرةً جديدةً أنقذتها من الرمادِ، بذرةٌ سوداءُ لامعةٌ كحجرِ النفقِ، لكنها تحملُ في داخلها نبضَ حياةٍ عنيدةٍ. الأطفالُ يركضونَ حولها، أقدامهم الحافيةُ تتركُ آثارًا في الطينِ، يضحكونَ رغمَ البردِ، يغنونَ أغنيةَ المطرِ التي كتبها خالدُ ليلةَ القصفِ: "المطرُ يغسلُ الجرحَ، يروي البذرةَ، يُنبتُ الأملَ." زيتونةُ تحملُ مظلةً مكسورةً، ترسمُ على الطينِ شجرةً بأصبعها، جذورها تمتدُّ تحتَ الخيامِ، أغصانها تخترقُ السماءَ، تقولُ: "هذه حديقتنا تحتَ المطرِ، لن تغرقَ." لينُ تبتسمُ، تضعُ البذرةَ في حفرةٍ صغيرةٍ حفرتها في الطينِ، تسقيها بماءِ المطرِ، ثم تقولُ: "المطرُ ليسَ عدوًّا، بل حليفًا، يغسلُ الرمادَ، يروي الجرحَ، يُعلِّمُنا أن ننبتَ من جديدٍ." في الأيامِ التي تلتْ، يتحولُ المطرُ إلى فيضانٍ صغيرٍ، الماءُ يجرفُ بعضَ الخيامِ، يغمرُ أجزاءً من الحديقةِ، لكن لينَ لا تيأسُ، تجمعُ الشبابَ، يبنونَ قنواتَ تصريفٍ من أنابيبِ بلاستيكيةٍ مُعادِ استخدامها، يرفعونَ الأسرّةَ على قواعدِ طوبٍ، يحوِّلونَ الماءَ إلى نظامِ ريٍّ طبيعيٍّ. فاطمةُ تأتي كلَّ صباحٍ، تحملُ دفترَ شهاداتٍ مبللَ، تكتبُ فيه قصةَ المطرِ، قصةَ الفيضانِ، قصةَ الصمودِ، تقولُ: "كنتُ أخافُ المطرَ، الآن أحبُّه، لأنه يروي بذرةَ ابني." لينُ تقرأُ الشهادةَ بصوتٍ عالٍ أمامَ الجميعَ، ثم تُعلِّقها على جدرانِ الحديقةِ، كأنها ورقةٌ جديدةٌ تنبتُ من الجذعِ. في إحدى الليالي، يصلُ خبرٌ عبرَ الراديو الصغيرِ، الأممُ المتحدةُ تُعلنُ عن قرارٍ جديدٍ، حمايةٌ دوليةٌ لـ"حديقةِ الكرامةِ"، بعثةٌ مراقبةٌ ستأتي، مساعداتٌ ستتدفقُ، لينُ تسمعُ، لا تفرحُ بالحمايةِ، بل تفرحُ بأن العالمَ رأى البذرةَ، رأى الصمودَ، رأى فلسطينَ. تجمعُ الأطفالَ، تُعلِّمهم كيفَ يرسمونَ لافتاتِ ترحيبٍ، كيفَ يكتبونَ رسائلَ شكرٍ، كيفَ يزرعونَ بذرةً لكلِّ مراقبٍ قادمٍ. في اليومِ الذي وصلتْ فيه البعثةُ، كان المطرُ قد توقفَ، السماءُ صافيةٌ، الحديقةُ لامعةٌ بالماءِ، مراقبونَ من السويد، كندا، البرازيل، ينزلونَ من سياراتِ الدفعِ الرباعيِّ، ينظرونَ بدهشةٍ إلى الأطفالِ الذينَ يقدِّمونَ لهم غصنَ زيتونٍ، إلى النساءِ اللواتي يقدِّمنَ تمرًا وليمونًا، إلى لينَ التي تقفُ في الوسطِ، ثوبها الأبيضُ مبللٌ قليلاً، عيناها الخضراوانِ تلمعانِ كالبحرِ بعدَ العاصفةِ. مراقبةٌ سويديةٌ اسمها آنا تسألُ: "كيفَ نجتْ الحديقةُ من القصفِ، من الفيضانِ؟" لينُ تأخذُ يدها، تقودُها إلى البذرةِ التي نبتتْ من الرمادِ، تقولُ: "نجتْ لأنها ليستْ أشجارًا، بل قلوبًا، كلُّ ورقةٍ قلبٌ، كلُّ جذرٍ إيمانٌ." آنا تبكي، تُخرجُ بذرةً من جيبها، بذرةُ تفاحٍ من ستوكهولم، تضعها في يدِ لينَ، تقولُ: "ازرعيها، لتكونَ جسرًا بينَ غزةَ و السويد." لينُ تزرعُ البذرةَ في الحالِ، تسقيها، ثم تُعطي آنا غصنَ زيتونٍ، تقولُ: "خذيه، ليكنَ جسرًا بينَ قلوبنا." في الأسابيعِ التاليةِ، تتحولُ الحديقةُ إلى مركزِ تدريبٍ عالميٍّ صغيرٍ، متطوعونَ يأتونَ، يتعلمونَ الزراعةَ في الظروفِ القاسيةِ، يكتبونَ تقاريرَ، ينشرونَ صورًا، العالمُ يتعلمُ من غزةَ، من لينَ، من البذرةِ. في إحدى الليالي، تجلسُ لينُ مع آنا تحتَ الشجرةِ، القمرُ يُضيءُ الحديقةَ كأنها بحيرةٌ من ضوءٍ، آنا تسألُ: "هل تخافينَ من القصفِ القادمِ؟" لينُ تنظرُ إلى البذرةِ السويديةِ التي بدأتْ تنبتُ، تقولُ: "الخوفُ يموتُ عندما تزرعُ بذرةً، عندما تكتبُ كلمةً، عندما تحمي كرامتكَ." آنا تُخرجُ دفترًا، تكتبُ شهادتها، ثم تُعطيها للينَ، تقولُ: "هذه لكِ، لتكونَ جزءًا من كتابكِ." لينُ تقرأُ الشهادةَ، دموعُها تسقطُ، ثم تضعها في صندوقِ الهدايا، مع بذرةِ التفاحِ، مع غصنِ الزيتونِ. في اليومِ الأخيرِ للبعثةِ، يجتمعُ الجميعُ في الحديقةِ، يتبادلونَ الهدايا، لينُ تُعطي كلَّ مراقبٍ بذرةً، دفترَ شهاداتٍ، غصنَ زيتونٍ، آنا تُعطي لينَ قلادةً فضيةً على شكلِ شجرةٍ، تقولُ: "هذه من السويد، لتذكِّركِ أن الحديقةَ عالميةٌ." لينُ تضعُ القلادةَ، تعانقُ آنا، ثم تقولُ للجميعَ: "اذهبوا، ازرعوا، اكتبوا، اشفوا، ليكنَ كلُّ مكانٍ حديقةَ كرامةٍ." في تلكَ اللحظةِ، تبدأُ رحلةٌ جديدةٌ، رحلةُ البذرةِ العالميةِ، من غزةَ إلى السويد، إلى كندا، إلى البرازيل، من الرمادِ إلى الثمرِ، من الجرحِ إلى الشفاءِ العالميِّ. لينُ تقفُ وسطَ الحديقةِ، المطرُ يعودُ خفيفًا، يروي البذرةَ السويديةَ، يغسلُ القلادةَ، يُعلِّمُ الأرضَ الصمودَ. تُخرجُ دفترها، تكتبُ: "في غزةَ، جاء المطرُ، جاء الفيضانُ، جاءتْ البعثةُ، جاءتْ البذرةُ من السويد، رأيتُ الكرامةَ تنبتُ في كلِّ مكانٍ، رأيتُ فلسطينَ تصبحُ مجرةً." ثم تُغلقُ الدفترَ، تنظرُ إلى زيتونةَ وخالدَ، إلى فاطمةَ، إلى آنا التي تبتعدُ، تبتسمُ، تعرفُ أن الفصلَ الثانيَ يقتربُ من نهايتهِ، لكن الحديقةَ، البذرةَ، الكرامةَ، فلسطينَ، كلُّها مستمرةٌ، إلى الأبدِ.


6

يبدأُ صوتُ الريحِ يعودُ هادئًا بعدَ أيامِ المطرِ، يحملُ معه رائحةَ الترابِ الرطبِ الممزوجةِ بزيتِ الزيتونِ الطازجِ، والحديقةُ تتنفسُ من جديدٍ، أوراقُها الخضراءُ تتلألأُ تحتَ أشعةِ شمسٍ خجولةٍ تطلُ من خلفِ السحبِ كأنها تُقبِّلُ كلَّ ورقةٍ بشفاءٍ. لينُ تقفُ عندَ مدخلِ الحديقةِ، قلادةُ آنا الفضيةُ تتدلى على صدرها كنجمةٍ صغيرةٍ، يداها تمسكانِ دفترَ الشهاداتِ الجديدِ، صفحاتُه مليئةٌ بكلماتِ المراقبينَ، رسوماتِ الأطفالِ، أشعارِ النساءِ، وفي الوسطِ بذرةُ التفاحِ السويديةُ قد نبتتْ، جذعُها الصغيرُ يتحدى السماءَ بإصرارٍ. خالدُ يركضُ نحوها، يحملُ في يده رسالةً وصلتْ عبرَ قنواتِ المقاومةِ، مغلفٌ أخضرُ مطرزُ بغصنِ زيتونٍ، مكتوبٌ عليه بخطِّ يدٍ مألوفٍ: "إلى لينَ، من سارةَ ويوسي وموشيه." لينُ تفتحُ الرسالةَ، تقرأُ بصوتٍ يُشبهُ همسَ الأوراقِ تحتَ النسيمِ: "لينَ، نحن الآن في مؤتمرِ سلامٍ في أوسلو، نروي قصتكِ، نزرعُ بذرةً من غزةَ في حديقةِ السلامِ، نشهدُ أمامَ العالمِ، نطالبُ بالعدالةِ، بفلسطينَ حرةٍ، بشفاءٍ عالميٍّ. أنتِ فينا، بذرتكِ فينا، كرامتكِ فينا." لينُ تبتسمُ، دموعُها تسقطُ على الورقةِ، لكنها دموعُ انتصارٍ، ثم تُعطي الرسالةَ لزيتونةَ، تقولُ: "احفظيها في صندوقِ الهدايا، ستكونُ شاهدةً على أن الأسرى أصبحوا سفراءَ." في تلكَ اللحظةِ، يبدأُ صوتُ مكبراتِ الصوتِ من بعيدٍ، أخبارٌ عالميةٌ تُبثُّ، مؤتمرُ أوسلو يُعلنُ عن اتفاقٍ مبدئيٍّ، وقفُ إطلاقِ نارٍ، فتحُ معابرَ، مساعداتٌ إنسانيةٌ، وفي الوسطِ صورةُ لينَ، صورةُ الحديقةِ، صورةُ البذرةِ. المخيمُ يهتفُ، الأطفالُ يرقصونَ، النساءُ يبكينَ، الرجالُ يرفعونَ أغصانَ الزيتونِ، لينُ تقفُ صامتةً، تنظرُ إلى السماءِ، تعرفُ أن هذا ليسَ نهايةً، بل بدايةً جديدةً. في الأيامِ التاليةِ، تبدأُ المعابرُ تفتحُ، شاحناتُ المساعداتِ تدخلُ، تحملُ بذورًا، أدواتَ، كتبًا، ألعابًا، لينُ تستقبلُ الشاحناتِ في الحديقةِ، تُوزِّعُ الهدايا، تُعلِّمُ الجميعَ كيفَ يزرعونَ، كيفَ يبنونَ، كيفَ يشفونَ. طفلٌ من الشاحنةِ الأولى، اسمهُ ليث، يأتي من الضفةِ، يحملُ في يده بذرةَ تفاحٍ من نابلس، يقدِّمها للينَ، يقولُ: "هذه من حديقةِ جدي، قال إزرعيها في غزةَ، لتكونَ فلسطينَ واحدةً." لينُ تأخذُ البذرةَ، تزرعها بجانبِ بذرةِ السويد، تسقيها، تقولُ: "الآن، فلسطينُ موحدةٌ في هذه الحديقةِ." في الأسابيعِ التاليةِ، تبدأُ زياراتٌ من الضفةِ، من القدسِ، من حيفا، عائلاتٌ تأتي، تزرعُ بذرةً، تكتبُ شهادةً، تُغنِّي أغنيةً، الحديقةُ تصبحُ ملتقىً فلسطينيًّا، رمزًا للوحدةِ، للصمودِ، للكرامةِ. في إحدى الليالي، تجلسُ لينُ مع ليث تحتَ شجرةِ الزيتونِ، القمرُ يُضيءُ الحديقةَ كأنها لوحةٌ حيةٌ، ليث يسألُ: "هل ستأتي الحريةُ؟" لينُ تنظرُ إلى البذرةِ النابلسيةِ التي بدأتْ تنبتُ، تقولُ: "الحريةُ ليستْ مكانًا، بل بذرةً، كلُّ يومٍ نزرعُها، نرويها، نحميها، تصبحُ شجرةً." ليث يُخرجُ قصيدةً كتبها، يقرأُها بصوتٍ طفوليٍّ: "في غزةَ، رأيتُ لينَ، في عينيها بحرٌ، في يدها بذرةٌ، في قلبها فلسطينُ." لينُ تبكي، تعانقُ ليث، ثم تُضيفُ القصيدةَ إلى دفترِ الشهاداتِ. في اليومِ التالي، يصلُ وفدٌ من أوسلو، سارةُ، يوسي، موشيه، ينزلونَ من السيارةِ، يحملونَ بذرةً من حديقةِ السلامِ، يقدِّمونها للينَ، سارةُ تعانقُها، تقولُ: "كنتُ أسيرةً، الآن أنا حرةٌ، بفضلكِ." يوسي يُعطيها كتابَ قصائدِه الجديدِ، موشيه يُعطيها وثيقةَ اعترافٍ رسميةٍ من محكمةِ لاهاي. لينُ تأخذُ الهدايا، تضعها في الصندوقِ، ثم تقودُ الوفدَ إلى الحديقةِ، تُظهرُ لهم بذرةَ السويد، بذرةَ نابلس، بذرةَ النفقِ، تقولُ: "هذه ليستْ حديقةً، بل فلسطينُ، بل العالمُ، بل الكرامةُ." في تلكَ اللحظةِ، يجتمعُ الجميعُ، أطفالُ غزةَ، أطفالُ الضفةِ، الأسرى السابقونَ، المراقبونَ، يزرعونَ بذرةً جماعيةً، بذرةَ السلامِ، يسقونها معًا، يغنونَ معًا، يبكونَ معًا. لينُ تقفُ في الوسطِ، ترفعُ غصنَ زيتونٍ، تصرخُ: "هذه البذرةُ ليستْ لنا، بل للأجيالِ، لفلسطينَ، للإنسانيةِ!" في الأشهرِ التاليةِ، تنمو البذرةُ الجماعيةُ، تصبحُ شجرةً كبيرةً، جذورها تمتدُّ تحتَ المخيمِ، أغصانها تُظلِّلُ الخيامَ، ثمارها تُطعمُ الأطفالَ، والحديقةُ تصبحُ رمزًا عالميًّا، يُزارُ من ملايينِ، يُكتبُ عنه في كتبِ، يُغنّى عنه في أغانيِ. لينُ تستمرُ، تُعلِّمُ، تزرعُ، تكتبُ، في إحدى الليالي، تجلسُ وحيدةً تحتَ الشجرةِ الجماعيةِ، تُخرجُ دفترها، تكتبُ السطرَ الأخيرَ من الفصلِ الثاني: "في غزةَ، بدأتْ بذرةٌ في نفقٍ، أصبحتْ حديقةً في مخيمٍ، أصبحتْ مجرةً في قلوبِ العالمِ، رأيتُ الأسرى يزرعونَ، الأعداء يشفونَ، الأطفالَ يغنونَ، رأيتُ الكرامةَ تنتصرُ، رأيتُ فلسطينَ تعيشُ." ثم تُغلقُ الدفترَ، تنظرُ إلى السماءِ، ترى نجومًا تتلألأُ، تعرفُ أن كلَّ نجمةٍ هي بذرةٌ، كلَّ نجمةٍ هي كرامةٌ، كلَّ نجمةٍ هي فلسطينُ، وأن الفصلَ الثالثَ يبدأُ، لكن الرحلةَ، الحديقةَ، البذرةَ، الكرامةَ، كلُّها مستمرةٌ، إلى الأبدِ.


الفصل الثالث: المقارنة في المرآة المكسورة

…….


1

في أوائل نوفمبر 2025، حين كان الركام في غزة يشبه جبالاً من الذكريات المحترقة، والريح الباردة تحمل رائحة البارود المختلطة بدماء لم تجف، كانت لين، الفتاة السابعة عشرة، تسير بخطى متعثرة بين أكوام الحجارة، تحمل في يدها كيساً صغيراً من الخبز اليابس، خبزاً جمعته من بقايا مخبز محترق، خبز يزن أقل من أحلامها لكنه أثقل من جوع إخوتها الأربعة. عيناها، خضراوان كأوراق الزيتون قبل أن تحرقها النيران، تتطلعان إلى السماء بحثاً عن طائرة إغاثة، لكن السماء مغلقة، مغلقة كالسجون، مغلقة كقلوب المحتلين. الجوع يعصف بأحشائها، جوع يجعل المعدة تنقبض كقبضة حديدية، جوع يحول الفتاة إلى ظل، ظل يتمايل بين الأنقاض، بين ألعاب مكسورة، بين صور عائلات مهجرة. فجأة، صوت الدبابات، صوت ثقيل يهز الأرض، يهز الروح، ثم الجنود ينزلون، أحذيتهم الثقيلة تدوس على الركام، على دمى الأطفال، على دفاتر مدرسية ممزقة. أحدهم يشير إليها، إشارة حادة كالخنجر، "تعالي"، بالعبرية المقطعة، كلمة واحدة تحمل أمراً، تهديداً، نهاية. لين تتجمد، قلبها يخفق بعنف، يداها ترتجفان حول الكيس، الكيس الذي يمثل الحياة، الخبز، الأمل. الجنود يحيطون بها، دائرة من الخوذات والرشاشات، عيون زرقاء باردة، عيون الاستعمار، عيون لا ترى فتاة، ترى هدفاً، ترى فريسة. يسحبونها إلى شاحنة عسكرية، شاحنة خضراء قذرة، جدرانها ملطخة ببقع غامضة، بقع دم أو عرق أو بول أو سوائل أخرى، لا فرق، كلها آثار ضحايا سابقين، ضحايا نساء، رجال، أطفال. في الشاحنة، يبدأ اللمس، أيدٍ قذرة تتحسس جسدها، تلامس صدرها، فخذيها، أماكنها الحميمة، لمسات دهنية، كريهة، رائحة عرق متعفن، رائحة تبغ، رائحة كراهية. لين تصرخ، صرخة مكتومة، صرخة فتاة، لكنهم يضربون، كف على الوجه، قبضة على البطن، ركلة على الساق، الدم يسيل من أنفها، من شفتها، دم حار يتدفق على ثوبها الممزق، يخلط بالعرق، بالتراب، بالخوف. يصلون إلى المعسكر، معسكر سدي تيمان، معسكر الجحيم المقنع، أسوار عالية، أسلاك شائكة، كلاب تنبح، كاميرات ترصد، أبواب حديدية تُغلق بصوت يشبه صرخة مكبوتة. يُنزلونها من الشاحنة، يدفعونها إلى الأرض، يخلعون ملابسها بعنف، ثوباً، حجاباً، حذاءً، حتى الداخلية، يتركونها عارية تماماً، جسدها النحيل يرتجف في الهواء البارد، بشرتها الفاتحة تتلألأ بعرق الرعب، حلماتها تتصلب من البرد لا من الإثارة، أماكنها الحميمة مكشوفة أمام الجنود، أمام الكاميرا. يقفون حولها، ينظرون، يضحكون، ضحكات عالية، مبتهجة، كأنهم يشاهدون عرضاً، عرض إذلال، عرض سحق الأنوثة، عرض محو الطفولة. أحدهم يشتم، ألفاظ نابية، كلمات تتعلق بأمها، بأبيها الشهيد، بإخوتها، كلمات تُقصد لتقطع الروح، لتحول الفتاة إلى حيوان، إلى شيء، إلى لا شيء. الكاميرا موجودة، دائماً موجودة، في يد جندي، تركز على الجسد العاري، على الصدر، على الأعضاء التناسلية، على الوجه المشوه بالدم والخوف، فلاش يومض، يعمي، يسجل، يحول اللحظة إلى سلعة، إلى دليل على الانتصار الاستعماري. لين تحاول تغطية نفسها، ذراعاها ترتجفان، لكنهم يضربون يديها، يركلون ساقيها، يجبرونها على الوقوف مكشوفة، مكشوفة أمام الجنود، أمام الكاميرا، أمام العالم الصامت. الإذلال يبدأ، إذلال ممنهج، إذلال فاشي، إذلال يهدف لمحو الأنوثة، لسحق البراءة، لتحويل الفتاة إلى عبدة، عبدة تُعرى، تُضرب، تُشتم، تُصور. في عقل لين، تتدفق ذكريات، ذكريات المدرسة، الضحك مع الصديقات، الكتب، الأحلام بجامعة، بزواج، بأطفال، ذكريات تتحطم مع كل ضربة، مع كل شتيمة، مع كل فلاش. الجنود يأمرونها بالركوع، يركلونها حتى تركع، ركبتاها على الأرض الخرسانية الباردة، الألم ينتشر في المفاصل، لكنه ألم جسدي، أقل من الألم النفسي، الألم الذي يمزق الروح، يمزق الطفولة. أحدهم يبصق عليها، بصقة لزجة تسقط على وجهها، على عينيها، على فمها، بصقة مالحة، قذرة، تحمل رائحة التبغ والكراهية. القرف يغزو لين، قرف عميق من أجسادهم، من أنفاسهم، من لمساتهم، من بصقاتهم، قرف يعصر معدتها، يجعلها تتقيأ، قيء أصفر مر، يتساقط على الأرض، يخلط بالدم، بالبصق، بالتراب. الضحك يزداد، ضحك فاشي، ضحك استعماري، ضحك يتغذى على الألم، ينمو منه، يزدهر. يسحبونها إلى زنزانة، زنزانة صغيرة، جدران خرسانية، أرضية مبللة، رائحة بول وعرق ودم وسوائل، رائحة الجحيم. يلقون بها على الأرض، عارية، مقيدة، يداها خلف ظهرها، قدماها مكبلتان، جسدها يرتجف من البرد، من الخوف، من الإذلال. الباب يُغلق، الظلام يعم، لكن الأصوات تبقى، أصوات الجنود خارجاً، يتحدثون، يضحكون، يخططون للجولة التالية، جولة ستكون أقسى، أبشع. في الظلام، تبدأ لين ترى أشباحاً، وجوه أ grandmothers، أمهات، أخوات، وجوه تقول: "صبري"، لكن الصبر يصبح سكيناً، سكين يقطع ببطء. البرد يتسلل، الجسد يتنمل، لكن الروح مستيقظة، تصارع، تتذكر، تُسجل. هذا ليس حادثاً، بل نظام، نظام يعري الفتيات، يضربهن، يشتمهن، يصورهن، نظام فاشي مدعوم، مدعوم بأسلحة، بأموال، بصمت. القرف يبقى، قرف أبدي، قرف من بشرية هؤلاء، من قدرتهم على الإذلال، على الضحك، على التصوير. لكن في القرف، تنبت بذرة، بذرة صمود، بذرة مقاومة، بذرة ستزهر يوماً، ربما في شهادة، ربما في ثورة.


2


في أعماق الزنزانة، حيث يتكاثف الظلام كسم أسود يتسرب من جدران الخرسانة المتشققة، والهواء يثقل برائحة البول الراكد والعرق المتعفن والدم المتخثر والسوائل المنوية الجافة، استلقت لين عارية على الأرضية الباردة، جسدها النحيل ممدود كضحية على مذبح الاستعمار الفاشي، يداها مكبلتان خلف ظهرها بقيود حديدية تقطع الجلد، قدماها مربوطتان بحبل خشن يحفر في الكاحلين، كل حركة تُصدر صوتاً خفيفاً، صوت اللحم يُمزق ببطء، صوت البراءة تُسحق. البرد يتسلل إلى عظامها كسموم صامتة، يجمد الدم في العروق، يحول الأطراف إلى أعمدة جليدية، لكن الألم الجسدي يبدو تافهًا أمام الألم النفسي، ألم التعرية، ألم النظرة التلصصية، ألم الكاميرا التي لا تزال تُسجل من زاوية الزنزانة، عينها الحمراء تومض كل بضع دقائق، تومض كسيف يقطع آخر خيط من الخصوصية، من الأنوثة، من الطفولة. الباب يُفتح فجأة، صوت المفصلات الصدئة يشبه صرخة مكبوتة، ويدخل ثلاثة جنود، أحدهم طويل، ملثم، يحمل في يده زجاجة بلاستيكية فارغة، لكنها ليست للماء، الثاني قصير، مكتنز، عيناه صغيرتان كحبات فحم بارد، يحمل عصا كهربائية، طرفها المعدني يومض شرارة زرقاء صغيرة، الثالث يحمل كاميرا، يصور منذ اللحظة الأولى، يركز على الجسد العاري، على الصدر الصغير، على الأعضاء التناسلية، على الوجه المشوه بالدم والخوف. يقتربون ببطء متعمد، خطواتهم تُقاس كإيقاع تعذيب، أنفاسهم حارة، رائحتهم كريهة، مزيج من التبغ والعرق والكراهية المتراكمة، رائحة الوحشية الاستعمارية. "قومي"، يأمر الطويل بالعبرية، صوته خشن كصوت آلة صدئة، ولين ترفع رأسها بصعوبة، عيناها مفتوحتان على وسعهما، الخوف يجمد الدمع قبل أن يسيل، الرعب يخنق الصوت قبل أن يخرج. يركلونها حتى تقف، ركلات على الظهر، على البطن، على الفخذين، كل ركلة تُصدر صوتاً مكتوماً، صوت اللحم يُسحق، ثم يدفعونها إلى الحائط، يضغطون وجهها على الخرسانة الخشنة، الخد يُجرح، الدم يسيل، دم حار يتدفق على الرقبة، يصل إلى الصدر، يخلط بالعرق البارد، يتساقط على حلماتها المتجمدة. القصير يمسك الزجاجة، يقلبها بين يديه كأنه يتأمل لعبة، ثم يقترب من الخلف، يفصل ساقيها بعنف، يدخل الزجاجة قسراً في مهبلها، دخول مفاجئ، عنيف، يمزق الغشاء، يفتت الأحشاء، الألم ينفجر كقنبلة داخلية، يمزق لين من الداخل، يجعلها تصرخ صرخة ممزقة، صرخة فتاة، صرخة تخرج من أعماق الروح، لكن الصرخة تُخنق في حلقها، تتحول إلى أنين مكتوم، أنين يتردد في الزنزانة، يصطدم بالجدران، يرتد إليها، يملأ أذنيها. الدم يتدفق بغزارة، دم أحمر فاتح، دم البراءة، يشبه دماء الزهرة المقطوفة، يتجمع تحت قدميها، يبلل الأرضية، يتساقط في قطرات ثقيلة، قطرات تُصدر صوتاً كإيقاع الموت، إيقاع فقدان الطفولة. الطويل يضحك، ضحكة عالية، مبتهجة، كأنه يشاهد عرضاً كوميدياً، ثم يخرج هاتفه، يصور، يركز على الزجاجة، على الدم، على الوجه المشوه، على الجسد المرتعش، فلاش يومض، يعمي، يسجل، يحول الجريمة إلى فيلم، فيلم إباحي للإذلال، فيلم سيُعرض في غرف مغلقة، سيُضحك عليه الجنود، سيُستخدم للابتزاز، لنشر الرعب في قلوب الفتيات الفلسطينيات. لين تحاول المقاومة، تحاول دفع الزجاجة بجسدها، لكنهم يضربون، ضربات على الرأس، على الظهر، على الصدر، على الأعضاء التناسلية، ضربات تُصدر صوتاً، صوت العظام تئن، صوت اللحم يُسحق. الزجاجة تتحرك، يدورونها، يدفعونها أعمق، يسحبونها، يعيدونها، حركة ميكانيكية، حركة فاشية، حركة تهدف للتمزيق، للكسر، لمحو الأنوثة، لتحويل الفتاة إلى حفرة دامية. الدم يزداد، السائل يتدفق، القيء يعصر المعدة، يخرج أصفر مر، يتساقط على الأرض، يخلط بالدم، بالبول الذي يخرج لا إرادياً، خليط مقزز، خليط الجحيم الاستعماري. الضحك يزداد، الشتائم تتدفق، ألفاظ نابية، كلمات تتعلق بأمها، بأبيها، بإخوتها، "سنحضرهم ونغتصبهم أمامك"، كلمات تُقصد لتقطع الروح، لتحول الفتاة إلى حيوان، إلى شيء، إلى لا شيء. في عقل لين، تتدفق ذكريات، ذكريات المدرسة، الضحك مع الصديقات، الأحلام بالجامعة، بالفستان الأبيض، بالزواج، ذكريات تتحطم مع كل حركة للزجاجة، مع كل ضربة، مع كل فلاش. الاغتصاب بالزجاجة يتكرر، يتكرر معها، يتكرر مع فتيات أخريات في الزنزانات المجاورة، أنين يتسرب من الجدران، صرخات مكتومة، أصوات زجاجات، أصوات ضحك، سيمفونية الجحيم، سيمفونية الاستعمار الفاشي. الجنود يتبادلون الأدوار، يتبادلون الزجاجة، يتبادلون النكات، نكات قذرة، نابية، عن الدم، عن الألم، عن البراءة المفقودة. القرف يغزو لين، قرف عميق من أجسادهم، من لمساتهم، من أنفاسهم، من الزجاجة الباردة، من الدم الحار، من الضحك، قرف يعصر الروح، يجعلها تتقيأ، تتقيأ ذكريات، تتقيأ طفولة. لكن في القرف، تنبت بذرة، بذرة صمود، بذرة ستزهر يوماً، ربما في شهادة، ربما في ثورة. الاغتصاب ينتهي، يتركونها ملقاة على الأرض، الزجاجة ملقاة بجانبها، ملطخة بالدم، بالسوائل، بالقذارة، جسدها ينزف، يرتجف، يتنمل، لكن عيناها مفتوحتان، تريان في الظلام، تريان المستقبل، مستقبل تحكي فيه، تشهد، تكون صوتاً للآلاف من الفتيات.


3


في ليلةٍ ثالثةٍ من ليالي الزنزانة، حين يصبح الظلام كفناً أسود يُلفُّ جسد لين كما يُلفُّ الموتى قبل دفنهم، والهواء يُثقلُ ببخارٍ من الصديد والسوائل المنوية الجافة التي تُلتصقُ بالجدران كطبقةٍ من الخزي المُتجسِّد، أُدخِلَتْ إلى غرفةٍ أخرى أوسع، غرفةٍ بيضاء كالمشرحة، أرضيتها من البلاط اللامع الذي يُعكسُ الضوءَ الأصفرَ القذرَ المنبعثَ من مصباحٍ معلَّقٍ في السقف، مصباحٌ يهتزُّ كأنه يضحكُ على ما سيحدث. كانت لين لا تزالُ عاريةً، مقيدةً إلى كرسيٍّ حديديٍّ صدئٍ، ذراعاها ممدودتان إلى الخلف، ساقاها مفتوحتان بعنفٍ حتى يصرخَ المفصلان، بشرتها الشاحبةُ ملطخةٌ ببقعٍ أرجوانيةٍ من الكدمات، وجراحٌ مفتوحةٌ تُنزفُ صديداً أصفرَ يُصدرُ رائحةً كريهةً كأنها جثةٌ في طور التحلل. دخلَ أربعةُ جنودٍ، وجوهُهم مكشوفةٌ هذه المرة، بشرةٌ بيضاءُ كالثلج الملوث، عيونٌ فارغةٌ كحفرٍ في الجليد، أحدهم يحملُ كاميراً احترافيةً، الثاني يُمسكُ بكلبٍ أسودَ ضخمٍ، عضلاتُه مشدودةٌ كأوتارِ آلةِ تعذيب، لسانُه الأحمرُ الطويلُ يخرجُ من فمه المفتوح، يلمعُ كسيفٍ مبللٍ باللعاب. الثالثُ والرابعُ يحملان أدواتٍ معدنيةً باردةً، قضباناً ملتويةً، أنابيبَ مطاطيةً، أشياءَ لم ترَها لين في حياتها، لكنها عرفتْ مصيرَها في اللحظة التي رأتْها فيها. أُخرجَ الكلبُ من مقوده، أُطلقَ نحوها، أنفُه يشمُّ جسدها، يشمُّ الدمَ، يشمُّ الخوفَ، لسانُه يلمسُ فخذيها، لمسةٌ رطبةٌ لزجةٌ تتركُ أثراً من اللعابِ الملوثِ على جلدها، لعابٌ يحرقُ كحمضٍ، يثيرُ غثياناً يعصرُ معدتها الفارغة، يجعلُها تتقيأ صفراءَ مرةً، مرةً تتساقطُ على صدرها العاري، تلسعُ حلماتها المتورمة. الجنودُ يضحكون، ضحكاتٌ عاليةٌ مبتهجةٌ، كأنهم يشاهدون عرضاً مسرحياً، مسرحيةَ إذلالٍ كتبها الاستعمارُ الصهيوني، إخراجٌ أمريكي، تمويلٌ أوروبي، والجمهورُ العالمُ الصامت. أحدهم يصورُ، الكاميرا تركزُ على وجهِ لين، على عينيها الواسعتين من الرعب، على فمها المفتوح في صرخةٍ صامتة، على جسدها المقيد الذي يرتجفُ كورقةٍ في عاصفة. الإذلالُ يصلُ ذروتَه، ذروةٌ تجعلُ الروحَ تنفصلُ عن الجسد، تطيرُ بعيداً، تحومُ فوق الغرفة، ترى نفسها من الأعلى، ترى الجسدَ المُستباح، المُلعوق، المُهدد، وتشعرُ بالقرف، قرفٌ عميقٌ من هؤلاء البشر الذين يستخدمون كلباً لكسر فتاة، قرفٌ من أنفاسهم، من أيديهم، من أوامرهم، من قدرتهم على الضحك أثناء الجريمة. الكلبُ يُبعدُ أخيراً، لكن التهديدُ يبقى، الجنديُ يهمسُ: "إذا لم تتكلمي، سنتركه يغتصبك"، كلماتٌ تترددُ في الغرفةِ كلعنة، كلعنةٌ تجعلُ الجسدَ يتقلص، الرحمَ ينقبض، الروحَ تنكمش. ثم يأتي الاغتصابُ الجماعي، أجسادُهم الثقيلةُ، أنفاسُهم الحارةُ، رائحتُهم الكريهةُ، يدخلون من كل مكان، من الفم، من المهبل، من الشرج، دخولٌ عنيفٌ، يمزقُ اللحم، يفتتُ الأحشاء، الألمُ ينفجرُ كقنبلةٍ داخليةٍ، يمزقُ لين من الداخل، يجعلُها تصرخُ صرخةً ممزقةً، صرخةً تخرجُ من أعماقِ الروح، لكن الصرخةَ تُخنقُ بالضرب، ضرباتٌ على الرأس، على الظهر، على الصدر. الدمُ يتدفقُ بغزارة، دمٌ أحمرُ غامقٌ، يشبهُ النفط، يتجمعُ تحتها، يبللُ الكرسي، يتساقطُ على الأرضيةِ في قطراتٍ ثقيلةٍ، قطراتٍ تُصدرُ صوتاً كإيقاعِ الموت. التصويرُ مستمر، الجنديُ يصورُ الدم، يصورُ الأعضاء، يصورُ الوجهَ المشوه، يصورُ كل لحظة، كأنه يصنعُ فيلماً إباحياً للإذلال، فيلمٌ سيُعرضُ في غرفٍ مغلقة، سيُضحكُ عليه الجنود، سيُستخدمُ للابتزاز، للتهديد، لنشرِ الرعب. أحدهم يقولُ: "سننشرها على التواصل"، تهديدٌ يحولُ الألمَ إلى خوفٍ أبدي، خوفٌ من أن ترى عائلتها، إخوتها، جيرانها، العالم، هذه الصور، صورُ فتاةٍ عاريةٍ، داميةٍ، مكسورةٍ، صورٌ تُستخدمُ لمحو العائلة، المجتمع، الهوية. في عقلها، تتخيلُ لين نفسها طائراً، طائراً يحلقُ فوق غزة، يرى الأنقاضَ كجبالٍ من الذكريات، يرى إخوتها يلعبون في حديقةٍ خياليةٍ، لكن الخيالَ يتحطمُ مع كل دفعة، مع كل ضربة، مع كل نقرةِ كاميرا. الاغتصابُ يستمر، الجنودُ يتناوبون، يتبادلون الأماكن، يضحكون، ضحكاتٌ عاليةٌ، مبتهجةٌ، كأنهم يحتفلون بانتصار، انتصارٌ على فتاةٍ واحدة، على شعبٍ بأكمله. الكهرباءُ تعود، العصاُ تصعقُ أعصابها، على صدرها، على بطنها، على فخذيها، على الأعضاءِ التناسلية، الصعقةُ تجعلُ عضلاتها تتشنج، جسدها يتقوس، يرتجف، يصرخُ صرخةً داخليةً، صرخةً لا تخرج، تبقى محبوسةً، تكبر، تصبحُ بركاناً. القرفُ يغزوها، قرفٌ عميقٌ من أجسادهم، من لمساتهم الدهنية، من أنفاسهم الحارة، من السائلِ الذي يتركونه داخلها، سائلٌ يشبهُ السم، سمٌ ينتشرُ في رحمها، يهددُ بإفسادِ كل ما هو نقي، كل ما هو طفولة، كل ما هو أنوثة. في لحظة، ترى أشباحاً، وجوهَ فتياتٍ فلسطينياتٍ سابقات، عيونهن فارغة، أجسادهن ملطخة، يهمسن: "صبري، هذا ليس نهاية"، لكن الصبرُ يصبحُ سكيناً، سكينٌ يقطعُ الروحَ ببطء. الجنودُ ينتهون أخيراً، يتركونها معلقةً في الفراغ، مقيدةً، عاريةً، داميةً، الدمُ يتساقطُ قطرةً قطرة، السوائلُ تتدفق، القيءُ يجف، اللعابُ يلمع، الجسدُ مكسور، الروحُ تسبح. تسمعُ أصواتهم خارجاً، يتحدثون عن الجولةِ التالية، عن فتياتٍ أخريات، عن أطفالٍ ربما، نظامٌ فاشيٌ لا يشبع، نظامٌ يتغذى على الألم، ينمو منه، يزدهر. في عقلها، ترى نفسها شجرةً، جذورها في غزة، أغصانها تمتدُّ إلى السماء، أوراقها دم، دمٌ يتساقطُ كمطرٍ على الأرضِ المحتلة، يروي بذورَ المقاومة. اليومُ الثالثُ يمتد، الشمسُ ترتفعُ خارجاً، لكن في الزنزانةُ الظلامُ باق، ظلامٌ damp مليءٌ برائحةِ الدمِ والسوائلِ والقيءِ والعرق، رائحةٌ تجعلُ الهواءَ ثقيلاً، ثقيلاً كالقيد، ثقيلاً كالتاريخ. جسدها يبدأ يفقدُ الإحساس، التنميلُ ينتشر، لكن الروحُ تبقى مستيقظةً، تصارع، تتذكر، تُسجلُ كل وجه، كل لمسة، كل كلمة، كل ضحكة. في لحظة، تدركُ أن الاغتصابَ ليس نهاية، بل بداية، بدايةٌ لرواية، روايةٌ تثيرُ القرفَ في كل قلبٍ بشري، قرفٌ يدفعُ للثورة، للعدالة، للتحرر. لكن الآن، في هذه الزنزانة، هي وحيدة، مكسورة، تنزف، تنتظر، تنتظر الموتَ الذي لا يأتي، تنتظر الصباحَ الذي قد لا يأتي، تنتظر العالمَ الذي يشاهدُ ويصمت، عالمٌ يدعمُ الوحش، يموِّله، يسلحه، عالمٌ يضحكُ مع الجنود، يصورُ مع الكاميرا، يغتصبُ مع الأعضاء. والقرفُ يبقى، قرفٌ أبدي، قرفٌ من بشريةِ هؤلاء، من قدرتهم على الاستمتاع، على الضحك، على التصوير، قرفٌ يتحولُ إلى غضب، غضبٌ مكبوت، غضبٌ سيثورُ يوماً، ربما في قصة، ربما في ثورة، ربما في دماءٍ جديدة.



4


مع مرور الأيام، حين يتحول الزمن في الزنزانة إلى كتلة لزجة من الألم المتراكم، كأن كل ساعة تُسكب في قارورة من السم الذي يتخثر ببطء، بدأت لين ترى أشباحاً في الظلام الدامس، وجوه أمهاتها، جداتها، أخواتها اللواتي حملن الماء على رؤوسهن في أيام الانتداب، وجوه مناضلات سقطن في سجون الاحتلال الأولى، عيونهن فارغة لكنها مليئة بضوء خافت، ضوء الصمود الذي يرفض الإطفاء. التعذيب يتحول إلى طقس يومي، طقس فاشي يُنفَّذ بدقة ميكانيكية، كأن الجنود آلات مبرمجة في معامل الاستعمار، آلات لا تعرف الرحمة، لا تعرف الإنسانية، تعرف فقط الأوامر، الأوامر العليا التي تأتي من فوق، من قادة يجلسون في مكاتب مكيفة، يشربون القهوة، يضحكون على التقارير، يوقعون على أوراق الإعدام. كل صباح، أو ما تظنه صباحاً لأن الضوء الخافت يتغير قليلاً، يدخل جندي جديد أو قديم، يحمل أداة جديدة أو قديمة، يبدأ بالتعرية من جديد، وإن كانت عارية أصلاً، يتأكد من العري، يلمس الجسد البارد، يصفع الوجه المتورم، يشتم بألفاظ نابية، كلمات تتردد في الغرفة كلعنات، كلمات تصفها بالكلبة، بالعاهرة، بالإرهابية، بالفلسطينية القذرة التي تستحق أكثر من هذا، أكثر من الاغتصاب، أكثر من التصوير، أكثر من الإذلال. التصوير لم يتوقف، الكاميرا دائماً موجودة، في يد جندي، على حامل، معلقة في الزاوية، تسجل كل لحظة، كل دمعة، كل قطرة دم، كل أنين، كل صرخة مكتومة، أرشيف من الجرائم، أرشيف سيُستخدم يوماً، ربما للترفيه، ربما للابتزاز، ربما لإثبات الانتصار الاستعماري على فتاة واحدة، على شعب بأكمله. جسدها مغطى بكدمات، كدمات أرجوانية، صفراء، خضراء، خريطة من التعذيب، خريطة الاحتلال المرسومة على اللحم، الجروح مفتوحة، تنزف صديداً أصفر، رائحته كريهة تملأ الغرفة، رائحة الموت البطيء، الموت الذي يرفض الحضور، يتركها حية لتعيش الجحيم. لكن روحها تنمو، تنمو كشجرة في الصحراء، جذورها عميقة في التراب الفلسطيني، أغصانها تمتد إلى السماء، أوراقها دم، دم يتساقط كمطر على الأرض المحتلة، يروي بذور المقاومة. تتخيل إخوتها يلعبون في حديقة خيالية، حديقة خضراء بعيدة عن الحواجز، عن الدبابات، عن القنابل، يضحكون، يركضون، ينادونها "أختي"، صوت يتردد في عقلها، يعطيها قوة، قوة لتحمل الجولة التالية، الجولة التي تأتي دائماً، تأتي مع الجندي الروسي، الجندي ذو البشرة البيضاء، العينين الفارغتين، الذي يعود مرة أخرى، يرفع قناعه، يبتسم ابتسامة باردة، ابتسامة المنتصر، يحاول كسرها نفسياً، يصف عائلتها بالإرهابيين، يصف إخوتها بالحيوانات، يصف أمها بالعاهرة، كلمات تُقصد لتقطع الروح، لكنها ترفض، ترفض بصمت، بصمت يغضبه، فيزداد الضرب، ضربات على الوجه، على الصدر، على البطن، ضربات تترك أثراً جديداً، جرحاً جديداً، دماً جديداً. في عقلها، ترى نفسها في المدرسة، تكتب في دفترها، تحلم بالجامعة، بالفستان الأبيض، لكن الخيال يتحطم مع الصعقة الكهربائية، العصا تصعق أعصابها، على صدرها، على بطنها، على فخذيها، على الأعضاء التناسلية، الصعقة تجعل عضلاتها تتشنج، جسدها يتقوس، يرتجف، يصرخ صرخة داخلية. الشتم مستمر، ألفاظ نابية، كلمات تتعلق بالأم، بالأخت، بالأب، كلمات تُقصد للإذلال النفسي، لمحو الهوية، لتحويل الفتاة إلى شيء، إلى حيوان، إلى لا شيء. لكن لين تتشبث بالهوية، تكرر في عقلها: "أنا لين، أنا أخت، أنا فلسطينية، أنا إنسانة"، تكرار يصبح تعويذة، تعويذة تحميها، تحمي روحها من الانهيار. الجنود يتغيرون، وجوه جديدة، أصوات جديدة، لكن الطقس واحد، التعرية، اللمس، الضرب، الاغتصاب، التصوير، الشتم، دورة لا تنتهي، دورة الجحيم الاستعماري. في لحظة، تسمع صوتاً من الزنزانة المجاورة، صوت فتاة تصرخ، صرخة مألوفة، صرخة تشبه صرختها، صرخة أخت في الألم، أخت في الإذلال، وتدرك أنها ليست وحيدة، أن آلاف الفتيات، النساء، مرّوا من هنا، يمرون، سيمرون، نظام فاشي يتغذى على الأجساد، على الأرواح، على الكرامة. البرد دائم، الجسد عارٍ دائماً، النظر من الفتحة دائم، عيون تتلصص، عيون تتغذى، عيون فارغة، عيون الاستعمار. الطعام، إن جاء، خبز جاف، ماء مالح، طعام يُقصد للإذلال، للجوع البطيء، للموت البطيء. لكن الروح ترفض الموت، ترفض الاستسلام، تنمو، تكبر، تصبح عملاقة، عملاقة في عريها، في ألمها، في دمها. تتخيل نفسها طائراً، طائراً يحلق فوق السجن، فوق غزة، فوق فلسطين، يرى الأنقاض، يرى الشهداء، يرى الفتيات، يرى المقاومة، مقاومة تنبت من الدم، من الألم، من الإذلال. الجندي يعود، يصعق، يضرب، يشتم، يصور، لكن عيناها، عيناها تحملان ناراً، ناراً خفية، نار المقاومة، نار الصمود. في عقلها، ترى نفسها تكتب، تكتب الرواية، رواية تثير القرف، قرف يحرق الضمائر، يوقظ العالم. الدم يجف، الجروح تتقيح، الرائحة كريهة، رائحة الموت، لكن الحياة تتمسك، تتمسك كشجرة زيتون، جذورها في الأرض، أغصانها في السماء. تتمنى الموت، لكن الموت يرفض، يتركها حية، حية لتحكي، لتشهد، لتكون شاهداً على الجريمة، جريمة العصر، جريمة الاستعمار الصهيوني الفاشي. القرف دائم، قرف من اللمسات، من الأنفاس، من السوائل، من الضحكات، من الكاميرا، قرف يغزو كل خلية، لكنه يتحول، يتحول إلى قوة، قوة للصمود، للرواية، للثورة. الظلام يعم، لكن في الظلام، تنبت نور، نور خفي، نور الروح، روح لا تنكسر، روح تنمو، تنمو كشجرة في الصحراء، شجرة فلسطين.


5

في أواخر نوفمبر 2025، حين كان الركام في غزة يُغطِّي الأرض كغيمة سوداء لا تُمطر إلا الذكريات المحترقة، والهواء يُثقلُ برائحة البارود المختلطة بدماء لم تجف، أُفرج عن لين في تبادل أسرى متعثر، تبادل يُنفَّذ تحت أضواء كاشفة قاسية، أضواء تُعمي عينيها اللتين اعتادت الظلام، تُحرق بشرتها الشاحبة الملطخة بالكدمات والصديد والندوب التي تشبه خرائط الاحتلال المرسومة على اللحم. جسدها مكسور، عظامه تؤلمه كأنها مكسرة من الداخل، لحمه متورم، جروحه مفتوحة، تنزف صديداً أصفر كريه الرائحة، رائحة الموت البطيء الذي رافقها أياماً، لكن عيناها، عيناها الخضراوان تحملان ناراً خفية، ناراً لم تُطفأ بالاغتصاب، بالزجاجة، بالكلب، بالكهرباء، بالتصوير، بالإذلال، ناراً تشتعل في أعماقها، تُضيء طريق العودة إلى الخيمة، إلى الحياة. سُلِّمت إلى سيارة إسعاف متهالكة، مقاعدها ملطخة ببقايا دماء أسيرات سابقات، دماء جافة تُصدر صوتاً عند الجلوس، صوتاً يذكرها بكل لحظة في الزنزانة، بكل لمسة قذرة، بكل ضحكة فاشية، بكل فلاش كاميرا. الطريق إلى غزة طويل، الطريق محفوف بالحواجز، بالدبابات، بالجنود الذين ينظرون إليها بنظرات مألوفة، نظرات المنتصر، نظرات الذي يعرف ما حدث، يعرف ويبتسم ابتسامة خفية، ابتسامة القرف الاستعماري. جسدها ملفوف ببطانية رقيقة، بطانية لا تخفي الرائحة، رائحة الدم والعرق والسائل المنوي والقيء والصديد والبول، رائحة الجحيم الفاشي الذي يلتصق بها كظل، ظل لا يفارقها، ظل يتبعها في كوابيسها، في يقظتها، في كل نفس. في السيارة، تغمض عينيها، ترى فلاشات من الزنزانة، فلاشات الكاميرا، فلاشات الاغتصاب، فلاشات الضحك، فلاشات الكلب، فلاشات الزجاجة، لكنها تفتح عينيها، ترى السماء، سماء غزة المليئة بالدخان، دخان القصف، دخان الركام، دخان الشهداء، وتشعر بالحياة تعود، تعود ببطء، كشجرة زيتون تنبت من تحت الأنقاض. تصل إلى الخيمة، خيمة مهترئة في مخيم مؤقت، جدرانها من النايلون الممزق، سقفها يتسرب منه المطر، لكن فيها إخوتها، أربعة وجوه صغيرة، عيون واسعة، أيدٍ صغيرة تمتد إليها، تحتضنها، تحتضن جسدها المكسور، لا يعرفون السر، لا يعرفون الاغتصاب، التصوير، الإذلال، يعرفون فقط الأخت، الأخت التي عادت، الأخت التي ستحميهم، ستحكي لهم يوماً، يوماً بعيداً. في الليل، حين ينام الإخوة، تجلس لين وحدها، تحت ضوء مصباح كيروسين خافت، ضوء يرسم ظلالاً على وجهها المشوه، ظلال الكدمات، الجروح، الدموع، وتبدأ تحكي لنفسها القصة، تحكيها كرواية، رواية فتاة، كلمات قليلة، جمل قصيرة، لكن كل كلمة سكين، سكين تقطع الذاكرة، تقطع القرف، تقطع الفاشية. تتذكر الاعتقال، الخبز اليابس، الجنود يحيطون، الشاحنة القذرة. تتذكر التعرية، الجنود ينظرون، يضحكون، الكاميرا تومض. تتذكر الشتائم، التهديد بإخوتها، بالأم. تتذكر الاغتصاب الأول، الزجاجة، التمزيق، الدم. تتذكر الكلب، اللسان الرطب، التهديد، الاغتصاب الحيواني. تتذكر الاغتصاب الجماعي، الأجساد الثقيلة، الدخول من كل مكان، الدم، السوائل، القيء. تتذكر الكهرباء، الصعق على الأعضاء، التشنج، الضحك. تتذكر الأيام، الطقس اليومي، التعرية، اللمس، الضرب، الشتم، التصوير، الجروح المتقيحة، الرائحة الكريهة، البرد، الجوع، النظر من الفتحة، العيون التلصصية. كل ذكرى تقطع، تقطع الروح، لكن الروح تشفى، تشفى بالحكي، بالتذكر، بالشهادة. التعذيب لم يمحُ هويتها، لم يمحُ أنوثتها، بل عززها، عززها كأن الألم نحت تمثالاً، تمثال فتاة، تمثال أخت، تمثال فلسطينية، تمثال إنسانية. في الليل، تسمع أصوات القصف البعيد، قصف يستمر رغم الاتفاق، اتفاق وقف إطلاق النار الذي انتهى، انتهى لكن الانتهاكات مستمرة، القتل مستمر، الاغتصاب مستمر، في السجون، في الحواجز، في المنازل. لكن لين الآن حرة، حرة جسداً، حرة روحاً، حرة لتحكي، لتشهد، لتكون صوتاً، صوت الفتيات، صوت الآلاف، صوت غزة. تتخيل العالم يسمع، يسمع القصة، يرى الصور في خياله، يشعر بالقرف، قرف عميق من الممارسات، من الاغتصاب، من التصوير، من الضحك، من الفاشية، قرف يدفع للتحرك، للثورة، للعدالة. في الخيمة، تنام أخيراً، تنام نوماً عميقاً، نوم المنتصر، نوم الفتاة، وفي الحلم، ترى نفسها طائراً، طائراً يحلق فوق السجن، فوق غزة، فوق فلسطين، يحمل في منقاره بذرة، بذرة تنبت شجرة، شجرة زيتون، شجرة مقاومة، شجرة حرية. الصباح يأتي، الشمس تشرق على الركام، على الخيام، على الإخوة، على لين، لين التي عادت، عادت أقوى، أقوى من الاغتصاب، أقوى من الفاشية، أقوى من الاستعمار. القصة تبدأ، تبدأ بالحكي، بالشهادة، بالرواية، رواية تثير القرف، قرف يحرق الضمائر، يوقظ العالم، يدفعه للقضاء على الوحش، الوحش الصهيوني، الوحش الاستعماري، الوحش الفاشي. ولين، في عريها السابق، في ألمها السابق، في دمها السابق، تصبح رمزاً، رمز الصمود، رمز المقاومة، رمز الحرية، حرية لفلسطين، حرية للفتيات، حرية للإنسانية.


6

في قلب مخيم الركام، حيث تتدافع الخيام كأرواحٍ مهجَّرةٍ تُزاحمُ بعضها في ليلٍ لا ينتهي، والهواءُ يحملُ مزيجاً من دخانِ القصفِ العتيقِ ورائحةِ الخبزِ المُحترقِ الذي يُقدَّمُ كصدقةٍ من منظماتٍ لا تُسألُ عن مصيرِ الفتيات، عادت لين إلى عالمٍ لم يعد يعرفها، ولم تعد تعرفه. كانت قد أُطلقتْ قبل أيامٍ قليلةٍ في صفقةٍ هزيلةٍ من التبادل، جسدها ينزفُ من جروحٍ لم تُغلق، روحها تُنزفُ من ذكرياتٍ لا تُمحى، وكلُّ خطوةٍ على الترابِ المُغبرِّ تُصدرُ صوتاً خفيفاً كأنينِ عظامٍ مكسورةٍ تُجبرُ نفسها على المشي. الخيمةُ التي وُضعتْ فيها صغيرةٌ، جدرانُها من النايلونِ الممزقِ تُرجفُ مع كلِّ نسمةٍ باردة، سقفُها يتسربُ منه المطرُ قطرةً قطرةً كدموعٍ لا تتوقف، والأرضُ تحتها مبللةٌ ببقايا ماءٍ مالحٍ من عيونٍ بكتْ قبلها. إخوتها الأربعةُ يحيطون بها كأطيافٍ صغيرةٍ، عيونهم واسعةٌ من الجوعِ والخوف، أيديهم الصغيرةُ تمتدُّ إليها كأنها المرساةُ الوحيدةُ في بحرِ الركام، يهمسون "أختي" بصوتٍ يترددُ في صدرها كضرباتِ قلبٍ مُتعب. لا يعرفون ما حدث، لا يعرفون الزجاجةَ، الكلبَ، الأجسادَ الثقيلةَ، الكاميراَ، الضحكَ، يعرفون فقط أن أختهم عادت، عادت بشحوبٍ غريبٍ، بعيونٍ تحملُ ناراً خفيةً، بنظرةٍ تُخفي جحيماً كاملاً.

في الليل، حين يغفو الإخوةُ على حصيرةٍ باليةٍ، تجلس لين وحدها أمام مصباحِ كيروسينٍ يُصدرُ ضوءاً أصفرَ باهتاً يرسمُ ظلالاً طويلةً على وجهها المُشوَّه، ظلالَ الكدماتِ الأرجوانيةِ، الجروحِ المتقيحةِ، الندوبِ التي تشبهُ خرائطَ احتلالٍ مُصغَّرة. تُخرجُ من جيبِ ثوبها الممزقِ ورقةً صغيرةً وقلماً مكسوراً، تبدأ تكتبُ، تكتبُ بيدٍ ترتجفُ، حبرٌ أسودُ يتساقطُ كدموعٍ على الورقةِ المجعدة، تكتبُ الروايةَ، روايةَ فتاةٍ في السابعةَ عشرةَ، جملٌ قصيرةٌ، كلماتٌ حادةٌ كشفرات، كلُّ كلمةٍ تقطعُ الذاكرةَ، تُخرجُ القيحَ من الجراح. تكتبُ عن الشاحنةِ القذرةِ، عن التعريةِ أمام العيونِ الباردة، عن البصقةِ اللزجةِ التي سقطتْ على وجهها، عن الزجاجةِ التي مزَّقتْ براءتها، عن الكلبِ الذي لعقَ فخذيها، عن الأجسادِ التي دخلتْ من كلِّ مكان، عن الدمِ الذي سالَ كأنه نهرٌ أحمرُ، عن الكاميرا التي سجَّلتْ كلَّ صرخةٍ مكتومة، عن الضحكِ الذي كان يعلو كأناشيدَ انتصارٍ فاشي. تكتبُ عن الرائحةِ، رائحةِ العرقِ المتعفنِ، السائلِ المنويِّ، الصديدِ، البولِ، القيءِ، رائحةٍ تلتصقُ بالجلدِ كلعنةٍ أبدية. تكتبُ عن البردِ الذي يتسللُ إلى العظام، عن الجوعِ الذي يعصرُ المعدة، عن العيونِ التلصصيةِ من الفتحةِ في الباب، عيونٌ فارغةٌ تتغذى على العريِّ، على الألمِ، على الإذلال.

تكتبُ وهي تُسمعُ صوتَ القصفِ البعيد، قصفٌ يستمرُّ رغمَ الاتفاقاتِ الهزيلة، قصفٌ يُذكِّرُها بأن الوحشَ لم يمت، الوحشُ الصهيونيُّ الفاشيُّ الذي يتغذى على الأجسادِ الصغيرة، على الأرواحِ البريئة، على الكرامةِ المُسحقة. تكتبُ عن الجنودِ، وجوههم المكشوفةُ أحياناً، بشرتهم البيضاءُ كالثلجِ الملوث، عيونهم فارغةٌ كحفرٍ في الجليد، ضحكاتهم عاليةٌ مبتهجةٌ كأنهم يحتفلون بعيدٍ، عيدِ الإذلال، عيدِ محوِ الأنوثة، عيدِ سحقِ الطفولة. تكتبُ عن التهديدِ بنشرِ الصور، صورٍ عاريةٍ، داميةٍ، مكسورةٍ، صورٍ ستُرسلُ إلى إخوتها، إلى جيرانها، إلى العالم، صورٍ تُستخدمُ للابتزاز، للترويع، لإسكاتِ الأصوات. تكتبُ عن الشتمِ، ألفاظٌ نابيةٌ تتعلقُ بأمها، بأبيها الشهيد، بإخوتها الصغار، كلماتٌ تُقصدُ لتقطعَ الروح، لتحويلَ الفتاةِ إلى حيوان، إلى شيء، إلى لا شيء. لكنها تكتبُ أيضاً عن الصمود، عن الروحِ التي تنمو كشجرةٍ في الصحراء، جذورها عميقةٌ في الترابِ الفلسطيني، أغصانها تمتدُّ إلى السماء، أوراقها دمٌ يتساقطُ كمطرٍ على الأرضِ المحتلة، يروي بذورَ المقاومة.

تكتبُ وهي تُسمعُ أنينَ فتاةٍ مجاورةٍ في خيمةٍ أخرى، أنينٌ مألوفٌ، أنينُ أختٍ في الألم، أختٍ في الإذلال، وتدركُ أنها ليست وحيدة، أن آلافَ الفتياتِ مرَّرنَ من هنا، يمررنَ، سيمررنَ، نظامٌ فاشيٌّ يتغذى على الأجسادِ الصغيرة، على الأرواحِ البريئة، على الكرامةِ المُسحقة. تكتبُ عن البردِ الدائم، الجسدِ العاريِّ دائماً، النظرِ من الفتحةِ دائماً، عيونٌ تتلصص، عيونٌ تتغذى، عيونٌ فارغة، عيونُ الاستعمار. تكتبُ عن الطعامِ، إن جاء، خبزٌ جاف، ماءٌ مالح، طعامٌ يُقصدُ للإذلال، للجوعِ البطيء، للموتِ البطيء. لكن الروحَ ترفضُ الموت، ترفضُ الاستسلام، تنمو، تكبر، تصبحُ عملاقةً، عملاقةً في عريها، في ألمها، في دمها. تكتبُ وهي تتخيلُ نفسها طائراً، طائراً يحلقُ فوق السجن، فوق غزة، فوق فلسطين، يرى الأنقاضَ، يرى الشهداءَ، يرى الفتياتَ، يرى المقاومةَ، مقاومةً تنبتُ من الدم، من الألم، من الإذلال.

تكتبُ حتى ينفدَ الحبر، حتى ترتجفَ يدها، حتى يغلبها النعاسُ، نعاسُ المنتصر، نعاسُ الفتاةِ التي عادت أقوى، أقوى من الاغتصاب، أقوى من الفاشية، أقوى من الاستعمار. في الحلم، ترى نفسها في حديقةٍ خياليةٍ، إخوتها يلعبون، يضحكون، يركضون، وهي تحميهم بجناحيها، جناحي طائرٍ كبير، طائرٍ يحملُ في منقارهِ بذرةً، بذرةً تنبتُ شجرةً، شجرةَ زيتون، شجرةَ مقاومة، شجرةَ حرية. الصباحُ يأتي، ال诸شمسُ تشرقُ على الركام، على الخيام، على الإخوة، على لين، لين التي عادت، عادت لتحكي، لتشهد، لتكون صوتاً، صوتَ الفتيات، صوتَ الآلاف، صوتَ غزة. القصةُ مكتوبةٌ الآن، مكتوبةٌ بدماءٍ ودموعٍ وحبرٍ أسود، روايةٌ ستُقرأُ يوماً، ستُسمعُ، ستُثيرُ القرفَ في كلِّ قلبٍ بشري، قرفٌ يدفعُ للثورة، للعدالة، للتحرر. ولين، في عريها السابق، في ألمها السابق، في دمها السابق، أصبحتْ رمزاً، رمزَ الصمود، رمزَ المقاومة، رمزَ الحرية، حريةً لفلسطين، حريةً للفتيات، حريةً للإنسانية.

……….


الفصل الرابع: أسلاف الوحشية





1

في أعماقِ ليلٍ لا ينتهي، حيثُ تتكسَّرُ النجومُ فوقَ ركامِ غزةَ كأنها زجاجٌ محطَّمٌ يسقطُ على وجوهِ الأطفالِ النائمين، جلسَتْ لينُ على حصيرةٍ باليةٍ في خيمتها المهترئة، تحيطُ بها أنفاسُ إخوتها الأربعةِ الخفيفةُ كأجنحةِ فراشاتٍ مذبوحة، وفي يدها ورقةٌ صغيرةٌ مُجعَّدةٌ، حبرُها الأسودُ يتلألأُ تحتَ ضوءِ مصباحِ الكيروسينِ الخافتِ كدماءٍ لم تجف. كانت قد كتبتْ الروايةَ، كتبتْها بدمِ قلبها، بقيحِ جروحها، بأنينِ روحها، روايةَ فتاةٍ في السابعةَ عشرةَ، فتاةٍ عُرِّيتْ، ضُربتْ، اغتُصبتْ، صُوِّرتْ، أُذلَّتْ، لكنها لم تُكسر. الورقةُ الآنَ في يدها كأنها قنبلةٌ صغيرةٌ، قنبلةٌ من كلماتٍ، من شهادةٍ، من قرفٍ سيُفجَّرُ في وجهِ العالمِ الصامت. لم تكنْ تعرفُ كيف ستصلُ هذه الكلماتُ إلى الخارج، إلى أولئكَ الذين يجلسونَ في بيوتٍ آمنةٍ، يشربونَ القهوةَ، يشاهدونَ الأخبارَ كأنها فيلمٌ بعيد، لكنها كانتْ تعرفُ أن عليها أن تحاول، أن تُحوِّلَ ألمها إلى سلاح، ألمها الذي لا يزالُ ينزفُ من بينَ فخذيها، من صدرها المُشوَّه، من روحها المُمزَّقة.

في الصباحِ، حينَ بدأَ صوتُ الطائراتِ المُسيَّرةِ يعزفُ لحنَ الرعبِ فوقَ المخيم، خرجتْ لينُ بخطى مترددةٍ، جسدها يرتجفُ تحتَ ثوبٍ مُرقَّعٍ لا يخفي الكدماتِ، لا يخفي الندوبَ، لا يخفي الرائحةَ الكريهةَ التي لا تزالُ تلتصقُ بها كظلٍّ أسود. كانتْ تبحثُ عن صحفيٍّ، عن أيِّ وجهٍ غريبٍ يحملُ كاميرا، عن أيِّ صوتٍ يمكنُ أن ينقلَ كلماتها إلى العالم. وجدتْه أخيراً، رجلاً أجنبياً، بشرته بيضاءُ كالثلجِ الملوث، عيناه زرقاوانِ كالسماءِ التي لم تعدْ ملكاً لأحد، يحملُ ميكروفوناً صغيراً، يسألُ الناسَ عن الجوع، عن الركام، عن الأطفال. اقتربتْ منه بصمت، يدها ترتجفُ وهي تمدُّ الورقة، "اقرأ هذا"، همستْ بالإنجليزيةِ المكسورةِ التي تعلمتها من المدرسةِ قبلَ أن تُقصف، قبلَ أن يتحولَ الحلمُ إلى جحيم. نظرَ إليها، نظرَ إلى وجهها المُشوَّه، إلى عينيها اللتينِ تحملان ناراً خفيةً، إلى يدها المُرتجفة، ثم أخذَ الورقة، بدأ يقرأ، عيناه تتسعان، وجهه يشحب، يده ترتجفُ كأن الكلماتَ حارقة، كأنها سكاكينُ تقطعُ ضميره.

كانَ يقرأُ عن الشاحنةِ القذرةِ، عن التعريةِ أمام العيونِ الباردة، عن البصقةِ اللزجةِ التي سقطتْ على وجهها، عن الزجاجةِ التي مزَّقتْ براءتها، عن الكلبِ الذي لعقَ فخذيها، عن الأجسادِ التي دخلتْ من كلِّ مكان، عن الدمِ الذي سالَ كأنه نهرٌ أحمرُ، عن الكاميرا التي سجَّلتْ كلَّ صرخةٍ مكتومة، عن الضحكِ الذي كان يعلو كأناشيدَ انتصارٍ فاشي. كانَ يقرأُ عن الرائحةِ، رائحةِ العرقِ المتعفنِ، السائلِ المنويِّ، الصديدِ، البولِ، القيءِ، رائحةٍ تلتصقُ بالجلدِ كلعنةٍ أبدية. توقفَ لحظةً، رفعَ عينيه إليها، "هل هذا حقيقي؟"، سألَ بصوتٍ مُرتجف، فأومأتْ برأسها، عيناها مُثبتتانِ في عينيه، عيناها تقولان: "اقرأ، ثم انظرْ إليّ، انظرْ إلى ما فعلوه بي، بآلافِ الفتياتِ مثلي". أكملَ القراءة، وكلُّ كلمةٍ كانتْ تضربُ ضميره كمطرقة، كلُّ جملةٍ كانتْ تُخرجُ القرفَ من أعماقه، قرفٌ عميقٌ من بشريةِ هؤلاء الجنود، من قدرتهم على الضحك، على التصوير، على الاغتصاب، على الإذلال.

عندما انتهى، صمتَ طويلاً، ثم أخرجَ هاتفه، بدأ يصورُها، لكنها رفضتْ، رفضتْ أن تُصوَّرَ وجهها، رفضتْ أن تكونَ ضحيةً مرةً أخرى، "اكتبْ فقط"، قالتْ، "اكتبْ وانشرْ، لكن لا تُظهرْ وجهي، دعْ الكلماتِ تتكلم". أومأَ برأسه، بدأ يكتبُ على هاتفه، يكتبُ الشهادةَ، يكتبُ الروايةَ، يكتبُ القرفَ، قرفٌ سيُنشرُ في العالم، سيُقرأُ في بيوتٍ آمنة، في مكاتبٍ مكيفة، في جامعاتٍ بعيدة، قرفٌ سيُحرقُ الضمائر، سيُوقظُ النائمين، سيُدفعُ بالعالمِ إلى الحركة، إلى الثورة، إلى العدالة. لكن لينَ لم تكنْ تعرفُ إن كان سيفعل، لم تكنْ تعرفُ إن كان العالمُ سيُسمع، لكنها كانتْ قد فعلتْ ما عليها، كانتْ قد حولتْ ألمها إلى سلاح، إلى كلماتٍ، إلى شهادةٍ، إلى صوتٍ للآلافِ من الفتياتِ الصامتات.

في تلكَ اللحظة، سمعتْ صوتَ انفجارٍ بعيد، صوتَ قنبلةٍ تسقطُ على مخيمٍ آخر، صوتَ أطفالٍ يصرخون، صوتَ أمهاتٍ يبكين، وأدركتْ أن الوحشَ لم يمت، الوحشُ الصهيونيُّ الفاشيُّ لا يزالُ يتغذى، يتغذى على الأجسادِ الصغيرة، على الأرواحِ البريئة، على الكرامةِ المُسحقة. لكنها أدركتْ أيضاً أنها لم تمت، أن روحها لا تزالُ حيةً، حيةً لتحكي، لتشهد، لتُقاتلَ بكلماتها، بألمها، بدمها. عادتْ إلى الخيمة، جلستْ بجانبِ إخوتها، احتضنتهم، احتضنتْ أجسادهم الصغيرة، أجساداً لم تُمسَ بعد، أجساداً ستحميها، ستحميها بكلماتها، بشهادتها، بصمودها. في عينيها، كانتْ النارُ لا تزالُ مشتعلةً، نارُ المقاومة، نارُ الصمود، نارُ الحرية. وفي قلبها، كانتْ الروايةُ قد بدأتْ، بدأتْ بالكلمة، بالشهادة، بالقرفِ الذي سيُحرقُ العالم، سيُوقظُه، سيُدفعُه للقضاءِ على الوحش، الوحشِ الصهيونيِّ، الوحشِ الاستعماريِّ، الوحشِ الفاشيِّ. ولين، في عريها السابق، في ألمها السابق، في دمها السابق، أصبحتْ رمزاً، رمزَ الصمود، رمزَ المقاومة، رمزَ الحرية، حريةً لفلسطين، حريةً للفتيات، حريةً للإنسانية.



2


في أيامٍ قليلةٍ بعدَ أن سلَّمتْ لينُ الورقةَ إلى الصحفيِّ الأجنبيِّ، بدأتْ الكلماتُ تنتشرُ كالنارِ في الهشيمِ، لكنها لم تكنْ ناراً عاديةً، بل ناراً سوداءَ، ناراً من قرفٍ، من دمٍ، من أنينٍ مكتومٍ يتسللُ إلى الضمائرِ النائمة. نُشرتْ الشهادةُ أولاً في موقعٍ إلكترونيٍّ صغيرٍ، موقعٌ يُدارُ من غرفةٍ في لندنَ، غرفةٌ مكيفةٌ، جدرانُها بيضاءُ، لكن الكلماتُ التي ظهرتْ على الشاشةِ كانتْ سوداءَ كالليلِ في غزة، سوداءَ كالركامِ، سوداءَ كالدمِ الذي سالَ من بينَ فخذي لين. قرأها أحدهمُ في برلينَ، امرأةٌ شابةٌ تشربُ القهوةَ في مقهىً، توقفتْ عن الشرب، فمها مفتوحٌ، عيناها واسعتان، يدها ترتجفُ، القرفُ يعصرُ معدتها، القرفُ من بشريةِ هؤلاءِ الجنود، من قدرتهم على الاغتصابِ، على التصويرِ، على الضحكِ أثناءَ الجريمة. شاركتْها على وسائلِ التواصل، شاركتْها مع تعليقٍ قصير: "هذا يحدثُ الآن، في 2025، في غزة، ونحنُ نشاهدُ".

انتشرتْ الشهادةُ كالفيروس، في باريسَ، في نيويوركَ، في القاهرةَ، في إسطنبولَ، في كلِّ مكانٍ يملكُ فيه إنسانٌ هاتفاً، إنترنتاً، ضميراً. قرأها طالبٌ جامعيٌّ في كاليفورنيا، طالبٌ يرتدي قميصاً مكتوباً عليه "الحريةُ لفلسطين"، لكنه لم يكنْ يعرفُ معنى الحريةِ حتى قرأَ عن الزجاجةِ، عن الكلبِ، عن الأجسادِ الثقيلةِ، عن الكاميرا التي سجَّلتْ كلَّ لحظة. توقفَ عن الأكل، خرجَ إلى الشارع، بدأ يصرخُ، يصرخُ أمامَ السفارةِ الإسرائيليةِ، يحملُ لافتةً مكتوباً عليها "اغتصابُ الأطفالِ ليس دفاعاً عن النفس". انضمَّ إليه آخرون، ثم آخرون، مظاهرةٌ صغيرةٌ، ثم كبيرةٌ، ثم عالميةٌ. في لندنَ، خرجَ آلافٌ، يحملونَ صوراً مُطبعةً من الشهادةِ، صوراً للكلماتِ، لا للوجه، لأن لينَ رفضتْ أن يُرى وجهها، رفضتْ أن تكونَ ضحيةً مرةً أخرى، أرادتْ أن تكونَ الكلماتُ هي الوجه، الكلماتُ هي الصرخة، الكلماتُ هي السلاح.

في غزةَ، لم تكنْ لينُ تعرفُ شيئاً عن هذا، كانتْ جالسةً في الخيمةِ، تحضنُ إخوتها، تُطعمهم خبزاً يابساً، تُغنِّي لهم أغنيةً قديمةً عن الزيتونِ، عن البحرِ، عن الحرية. لكنها شعرتْ بشيءٍ، شعرتْ بتغيُّرٍ في الهواء، في النظراتِ، في الأصواتِ البعيدة. جاءَ أحدهمُ، شابٌ من المخيم، يحملُ هاتفاً قديماً، يُظهرُ لها الشاشة، "هذه أنتِ"، قالَ، "العالمُ يقرأُ قصتك". نظرتْ إلى الشاشة، رأتْ كلماتها، كلماتها بالإنجليزيةِ، بالفرنسيةِ، بالألمانيةِ، بالعربيةِ، كلماتها تنتشرُ، تنتشرُ كالماءِ في أرضٍ جافة. بكتْ، بكتْ لأولِ مرةٍ منذُ عودتها، بكتْ دموعاً حارةً، دموعَ فرحٍ، دموعَ ألمٍ، دموعَ انتصار. كانتْ تعرفُ أن القرفَ قد فعلَ فعلته، القرفُ الذي كتبتْه، القرفُ الذي عاشته، القرفُ الذي سيُحرقُ الضمائر، سيُوقظُ العالم.

في تل أبيبَ، كانَ هناكَ جنديٌّ، جنديٌّ شاركَ في التعذيب، جنديٌّ ضحكَ، صوَّرَ، اغتصبَ، يجلسُ في غرفةٍ مكيفةٍ، يشربُ البيرةَ، يتصفحُ الهاتف، يرى الخبر، يرى الشهادة، يرى الكلمات، يرى وصفَ الزجاجةِ، الكلبِ، الضحكِ، يرى نفسه في الكلمات، يرى جريمته مكتوبةً، منشورةً، مقروءةً من ملايين. يرتجفُ، يسكبُ البيرةَ على الأرض، يحاولُ حذفَ الصورِ من هاتفه، لكن الصورَ قد انتشرتْ، انتشرتْ في الظلامِ، في الغرفِ المغلقةِ، في أجهزةِ المخابرات، في أيديِ الصحفيين. يتصلُ بصديقه، "هل قرأتَ؟"، يسألُ، "نعم"، يجيبُ الصديقُ، صوته مُرتجف، "ماذا نفعل؟". لا يوجدُ جواب، لا يوجدُ مكانٌ للاختباء، الكلماتُ وصلتْ، الكلماتُ تُطاردُ، الكلماتُ تُحرق.

في الأممِ المتحدةِ، كانَ هناكَ اجتماعٌ، اجتماعٌ طارئٌ، دبلوماسيونَ يجلسونَ في قاعةٍ فخمةٍ، يتحدثونَ عن السلام، عن الهدنة، عن المساعدات، لكن أحدهمُ يُخرجُ هاتفه، يقرأُ الشهادة، يمررُها إلى الآخر، ثم الآخر، الصمتُ يعمُّ القاعة، الصمتُ الثقيل، الصمتُ الذي يسبقُ العاصفة. يقترحُ أحدهمُ تحقيقاً، تحقيقاً دولياً، لكن الآخرينَ يترددون، يترددونَ لأن الداعمينَ كثر، لأن الأموالَ كثيرة، لأن السلاحَ يتدفق، لكن القرفَ قد وصل، القرفَ لا يُوقفُ بالمال، بالسياسة، بالكذب. في الشارعِ، في كلِّ مدينةٍ، كانَ هناكَ صوتٌ، صوتُ لين، صوتُ الفتيات، صوتُ الآلاف، صوتُ غزة، صوتُ فلسطين، صوتُ الإنسانية.

في الخيمةِ، كانتْ لينُ تنامُ، تنامُ نوماً عميقاً لأولِ مرة، تحلمُ بحديقةٍ، حديقةٍ خضراءَ، إخوتها يلعبون، يضحكون، وهي تحميهم، تحميهم بكلماتها، بشهادتها، بصمودها. كانتْ تعرفُ أن الطريقَ طويل، أن الوحشَ لم يمت، لكنها كانتْ تعرفُ أيضاً أن الكلماتَ قد بدأتْ، بدأتْ الثورةَ، ثورةَ الكلمة، ثورةَ القرف، ثورةَ الحقيقة. وفي عينيها، عندما استيقظتْ، كانتْ النارُ مشتعلةً أكثر، نارُ المقاومة، نارُ الصمود، نارُ الحرية. ولين، في عريها السابق، في ألمها السابق، في دمها السابق، أصبحتْ صوتاً، صوتَ العالمِ الذي استيقظ، صوتَ العدالةِ التي ستأتي، ستأتي يوماً، يوماً قريباً.

3

مع تصاعدِ أصداءِ الشهادةِ كأنها أمواجٌ عاتيةٌ تضربُ شواطئَ الضميرِ العالميِّ، بدأتْ لينُ تشعرُ بأنها لم تعدْ وحدها في الخيمةِ المهترئة، بل أصبحتْ جزءاً من جوقةٍ هائلةٍ، جوقةٍ من الأصواتِ الصامتةِ التي استيقظتْ أخيراً، أصواتُ فتياتٍ أخريات، نساءٍ أخريات، أمهاتٍ أخريات، كلهنَّ يحملنَ نفسَ الندوب، نفسَ الدم، نفسَ القرف. في أسبوعٍ واحدٍ، تحولتْ الورقةُ الصغيرةُ إلى وثيقةٍ، وثيقةٍ تُترجمُ إلى عشراتِ اللغات، تُطبعُ في صحفٍ كبرى، تُعرضُ على شاشاتٍ عملاقةٍ في ميادينِ عواصمَ بعيدة، تُقرأُ بصوتٍ مرتجفٍ في برلماناتٍ، في جامعاتٍ، في مساجدَ وكنائسَ ومعابد. كانتْ الكلماتُ تُقرأُ كأنها صلاةٌ، صلاةُ ألمٍ، صلاةُ قرفٍ، صلاةُ ثورة.

في جنيفَ، جلسَ محققونَ دوليونَ في غرفةٍ زجاجيةٍ، ينظرونَ إلى الشهادةِ المطبوعةِ أمامهم، يقرأونَ عن الزجاجةِ، عن الكلبِ، عن الأجسادِ، عن الكاميرا، ينظرونَ إلى صورٍ ضبابيةٍ تمَّ تسريبُها من هواتفِ جنودٍ، صورٌ تُظهرُ فتاةً عاريةً، مكسورةً، داميةً، لا وجهَ لها، لكن الجسدَ يتكلم، الجسدُ يصرخ، الجسدُ يشهد. أحدهمُ، امرأةٌ سويسريةٌ ذاتُ شعرٍ أشيب، بكتْ، بكتْ وهي تقرأ، دموعُها تسقطُ على الورق، تُبلِّلُ الحبر، تُخلِّطُه بالملح، "هذا ليس إنسانياً"، همستْ، "هذا ليس دفاعاً عن النفس، هذا إبادةٌ للروح". كتبوا تقريراً، تقريراً من مئاتِ الصفحات، يحتوي على شهاداتٍ أخرى، شهاداتٍ من محمد، من أحمد، من تيسير، من خالد، من لين، شهاداتٌ تُثبتُ النظام، النظامَ الفاشيَّ الذي يُدرِّبُ الجنودَ على الإذلال، على الاغتصاب، على التصوير، على الضحك.

في واشنطنَ، كانَ هناكَ جلسةٌ في الكونغرس، جلسةٌ طارئةٌ، نوابٌ يرتدونَ بدلاتٍ أنيقةً، يتحدثونَ عن الأمن، عن الحلفاء، عن الديمقراطية، لكن أحدهمُ، نائبةٌ شابةٌ من أصلٍ فلسطيني، وقفتْ، أخرجتْ نسخةً من الشهادة، بدأتْ تقرأُ بصوتٍ عالٍ، تقرأُ عن الدمِ الذي سالَ كأنه نهرٌ أحمر، عن الضحكِ الذي كان يعلو كأناشيدَ انتصار، عن الكاميرا التي سجَّلتْ كلَّ صرخة. الصمتُ عمَّ القاعة، صمتٌ ثقيلٌ، صمتٌ يسبقُ العاصفة. ثم بدأتْ الأسئلة، أسئلةٌ عن التمويل، عن السلاح، عن الصمت، أسئلةٌ لم تُجبْ، لكنها بقيتْ تترددُ في الجدران، في الصحف، في الشاشات.

في غزةَ، بدأتْ لينُ تتلقى زواراً، زواراً غريبين، صحفيين، ناشطين، محامينَ دوليين، يأتونَ إلى الخيمةِ، يجلسونَ على الأرضِ المُغبرة، يستمعونَ إليها وهي تروي، تروي بصوتٍ هادمٍ، صوتٍ لا يبكي، صوتٍ يشهد. كانتْ تروي عن الرائحة، رائحةِ العرقِ المتعفنِ، السائلِ المنويِّ، الصديدِ، البولِ، القيءِ، رائحةٍ تلتصقُ بالجلدِ كلعنةٍ أبدية. كانتْ تروي عن البردِ الذي يتسللُ إلى العظام، عن الجوعِ الذي يعصرُ المعدة، عن العيونِ التلصصيةِ من الفتحةِ في الباب. كانوا يسجلون، يصورون، لكنها لم تسمحْ بوجهها، سمحتْ فقط بالكلمات، بالصوت، بالألم. أصبحتْ لينُ رمزاً، رمزاً للصمود، للمقاومة، للشهادة، رمزاً يُكتبُ عنه في الصحف، يُرسمُ في اللوحات، يُغنى في الأغاني.

في تل أبيبَ، كانَ الذعرُ ينتشرُ بينَ الجنود، بينَ القادة، بينَ السياسيين. اجتماعاتٌ طارئةٌ، أوامرٌ بإغلاقِ الحسابات، بحذفِ الصور، بإسكاتِ الأصوات، لكن الأصواتَ قد انتشرتْ، انتشرتْ كالنارِ في الهشيم. جنديٌّ واحدٌ، جنديٌّ كانَ يضحكُ في الزنزانة، يصورُ، يغتصب، الآنَ يجلسُ في غرفته، يرتجف، يحلمُ بالكوابيس، يرى وجهَ لينَ في كلِّ مكان، وجهَ لينَ الذي لم يره، لكنه يعرفُ أنها تراه، تراه في كلماتها، في شهادتها، في قرفها. حاولَ الهروب، حاولَ تغييرَ اسمه، لكن الإنترنتَ لا ينسى، الكلماتُ لا تنسى، القرفُ لا يُمحى.

في المحكمةِ الجنائيةِ الدولية، فُتحَ ملفٌ، ملفٌ سميكٌ، ملفٌ يحتوي على آلافِ الشهادات، آلافِ الأسماء، آلافِ الصور، آلافِ الأفلام. بدأَ التحقيق، بدأَ جمعُ الأدلة، بدأَ البحثُ عن الجنود، عن القادة، عن المسؤولين. كانتْ لينُ أولَ الشهود، شهدتْ عبرَ الفيديو، شهدتْ بصوتٍ هادئ، صوتٍ يروي، يروي عن الزجاجة، عن الكلب، عن الضحك، عن الكاميرا. كانَ القضاةُ يستمعون، يستمعونَ ووجوهُهم شاحبة، أيديهم ترتجف، قلوبهم تُضربُ بمطارقِ القرف. كتبوا الحكمَ، حكماً أولياً، حكماً يطالبُ بالاعتقال، بالمحاكمة، بالعدالة.

في غزةَ، كانتْ لينُ تجلسُ مع إخوتها، تُعلِّمهم القراءة، تُعلِّمهم الكتابة، تُعلِّمهم أن الكلمةَ سلاح، أن الشهادةَ درع، أن الصمودَ حياة. كانتْ تنامُ ليلاً، تنامُ نوماً عميقاً، تحلمُ بحديقةٍ، حديقةٍ خضراءَ، إخوتها يلعبون، يضحكون، وهي تحميهم، تحميهم بكلماتها، بشهادتها، بصمودها. كانتْ تعرفُ أن الطريقَ طويل، أن الوحشَ لم يمت، لكنها كانتْ تعرفُ أيضاً أن الكلماتَ قد انتصرتْ، انتصرتْ في الميادين، في القاعات، في القلوب. وفي عينيها، كانتْ النارُ مشتعلةً أكثر، نارُ المقاومة، نارُ الصمود، نارُ الحرية. ولين، في عريها السابق، في ألمها السابق، في دمها السابق، أصبحتْ أسطورةً، أسطورةَ العدالة، أسطورةَ الإنسانية، أسطورةَ فلسطين.


4

في أعقابِ الحكمِ الأوليِّ الذي أصدرتهُ المحكمةُ الجنائيةُ الدوليةُ، كأنَّ صوتَ لينَ قد انفجرَ كقنبلةٍ صوتيةٍ في سماءِ العالمِ الصامت، انفجارٌ لم يُدمِّرْ الحجرَ، بل دمَّرَ الأكاذيبَ، الأعذارَ، الصمتَ الذي كانَ يُغطِّي الجريمةَ كغيمةٍ سوداء. بدأتْ أوامرُ الاعتقالُ تُصدرُ، أسماءُ جنودٍ، ضباطٍ، قادةٍ، أسماءٌ كانتْ تُكتبُ على أوراقٍ رسميةٍ، تُرسلُ إلى مطاراتٍ، حدودٍ، سفاراتٍ، أسماءٌ تحملُ وجوهَ الضحكِ في الزنزانات، وجوهَ اليدينِ الملطختينِ بالدمِ والسوائل، وجوهَ الكاميراتِ التي سجَّلتْ كلَّ لحظةٍ من الإذلال. في تل أبيبَ، كانَ الذعرُ يتسلَّلُ كالسمِّ في عروقِ النظام، اجتماعاتٌ طارئةٌ في غرفٍ تحتَ الأرض، أوامرٌ بإخفاءِ الأدلة، بتدميرِ الهواتف، بإسكاتِ الشهود، لكن الشهودَ كانوا قد تكلَّموا، تكلَّموا بأصواتٍ لا تُسكت، أصواتُ لين، محمد، أحمد، تيسير، خالد، أصواتُ آلافٍ من الفتياتِ والرجالِ الذينَ عادوا من الجحيمِ أو بقوا فيه.

في لاهايَ، كانتْ المحكمةُ تعجُّ بالمحامين، بالخبراء، بالشهود، بالصحفيين، قاعاتٌ زجاجيةٌ تُعرضُ فيها الأفلامُ المُسرَّبة، أفلامٌ قصيرةٌ، مُقزِّزةٌ، تُظهرُ جسداً عارياً، مكسوراً، دامياً، تُسمعُ فيها ضحكاتٌ عاليةٌ، شتائمٌ نابيةٌ، أوامرٌ بالعبريةِ المقطَّعة. كانَ القضاةُ يشاهدونَ، وجوهُهم شاحبةٌ، أيديهم ترتجفُ، قلوبهم تُضربُ بمطارقِ القرفِ الذي ينبعثُ من الشاشة. كانَ أحدُ الجنودِ، جنديٌّ شاركَ في اغتصابِ لين، يُسحبُ من منزله في مستوطنةٍ، يُكبَّلُ، يُساقُ إلى المطار، يُسلَّمُ إلى السلطاتِ الدولية، يبكي، يصرخُ، يتوسَّلُ، لكن لا أحدَ يسمع، لا أحدَ يرحم، لأن العالمَ قد سמעَ صرخةَ لين، صرخةَ الفتيات، صرخةَ فلسطين.

في غزةَ، كانتْ لينُ تجلسُ في الخيمةِ، لكن الخيمةَ لم تعدْ مهترئةً تماماً، فقد جاءَ متطوعونَ، بنوا جدراناً من الطوبِ، سقفاً من الصفيح، أضافوا نافذةً صغيرةً تُطلُّ على الركامِ الذي يتحوَّلُ ببطءٍ إلى حدائقَ صغيرةَ، حدائقَ يزرعُها الأطفالُ بأيديهم الصغيرة. كانتْ تُعلِّمُ إخوتها، تُعلِّمُ أطفالَ المخيم، تُعلِّمُهم أن الكلمةَ أقوى من القنبلة، أن الشهادةَ أقوى من الدبابة، أن الصمودَ هو الحياة. كانتْ تكتبُ المزيد، تكتبُ قصصاً جديدةً، قصصَ عودةٍ، قصصَ عدالةٍ، قصصَ حريةٍ. جاءَ وفدٌ من المحكمة، جلسوا معها، استمعوا إليها، سجَّلوا كلَّ كلمةٍ، كلَّ تفصيلٍ، كلَّ رائحةٍ، كلَّ لمسةٍ، كلَّ ضحكةٍ. كانتْ تروي بصوتٍ هادئٍ، صوتٍ لا يبكي، صوتٍ يشهد، صوتٍ يُحرقُ الضمائر.

في العالمِ، كانتْ المظاهراتُ تكبر، ملايينُ في الشوارع، في لندنَ، باريسَ، نيويوركَ، برلينَ، القاهرةَ، إسطنبولَ، الرباطَ، جاكرتا، ملايينُ يحملونَ لافتاتٍ مكتوباً عليها "الاغتصابُ ليس دفاعاً عن النفس"، "الكاميراُ سلاحُ الوحش"، "القرفُ يكفي". كانتْ الشركاتُ تُقاطعُ، البنوكُ تُغلقُ الحسابات، الجامعاتُ تُلغي المنح، الرياضيونَ يرفضونَ المشاركة، الفنانونَ يغنونَ أغانيَ الثورة. كانتْ لينُ قد أشعلتْ شرارةً، شرارةً من كلماتٍ، من قرفٍ، من ألمٍ، شرارةً أصبحتْ حريقاً، حريقاً يُحرقُ الوحشَ، يُحرقُ الفاشيةَ، يُحرقُ الاستعمار.

في السجنِ الدوليِّ، كانَ الجنديُّ يجلسُ في زنزانةٍ صغيرةٍ، جدرانُها بيضاءُ، نظيفةُ، لكنها باردةُ، باردةُ كعينيهِ اللتينِ كانتا تضحكانَ في الزنزانةِ الأخرى. كانَ يُشاهدُ التلفاز، يرى المظاهرات، يرى اسمه مكتوباً على اللافتات، يرى وجهَ لينَ في كلِّ مكان، وجهَ لينَ الذي لم يره، لكنه يعرفُ أنها تراه، تراه في كلماتها، في شهادتها، في قرفها. كانَ يبكي، يبكي لأولِ مرةٍ، يبكي دموعاً مالحةً، دموعَ الندمِ، لكن الندمَ متأخرٌ، متأخرٌ جداً.

في غزةَ، كانتْ لينُ تزرعُ شجرةً، شجرةَ زيتونٍ صغيرةً، في تربةٍ من الركامِ، ترويها بماءٍ مالحٍ من عينيها، تُغنِّي لها أغنيةَ الحرية. كانتْ تعرفُ أن الشجرةَ ستنمو، ستنمو كما نما صمودُها، كما نما صوتُها، كما نما العالمُ الذي استيقظ. كانتْ تنامُ ليلاً، تنامُ نوماً عميقاً، تحلمُ بحديقةٍ، حديقةٍ خضراءَ، إخوتها يلعبون، يضحكون، والعالمُ يحميهم، يحميهم بعدالةٍ، بحريةٍ، بإنسانيةٍ. كانتْ تعرفُ أن الطريقَ طويل، لكنها كانتْ تعرفُ أيضاً أن الكلماتَ قد انتصرتْ، انتصرتْ في المحاكم، في الشوارع، في القلوب. وفي عينيها، كانتْ النارُ مشتعلةً أكثر، نارُ المقاومة، نارُ الصمود، نارُ الحرية. ولين، في عريها السابق، في ألمها السابق، في دمها السابق، أصبحتْ أملاً، أملَ العدالة، أملَ الإنسانية، أملَ فلسطين.


5

مع مرورِ الأشهرِ، حينَ بدأَ صوتُ المحاكمِ يترددُ كإيقاعِ عدالةٍ بطيئةٍ لكنها حتميةٌ، تحولتْ لينُ من فتاةٍ في خيمةٍ مهترئةٍ إلى رمزٍ عالميٍّ، رمزٍ يُكتبُ عنه في الكتب، يُرسمُ في اللوحات، يُحفرُ في الذاكرةِ الجماعيةِ كأيقونةٍ للصمودِ الإنسانيِّ. كانتْ المحكمةُ الجنائيةُ الدوليةُ قد أصدرتْ عشراتَ أوامرِ الاعتقال، وكلُّ أمرٍ كانَ يُسحبُ جندياً من سريره، ضابطاً من مكتبه، قائداً من قصره، يُساقُ إلى لاهايَ مكبَّلاً، مُذلَّلاً، مُجبراً على مواجهةِ الشاشةِ التي تُعرضُ فيها الأفلامُ، الأفلامُ التي صوَّرها بنفسه، ضحكاتُه تترددُ في القاعةِ كلعنةٍ تطارده. كانَ أحدُهم، الجنديُّ الذي أدخلَ الزجاجةَ، يجلسُ في قفصِ الاتهام، وجهُه شاحبٌ، عيناه فارغتان، يستمعُ إلى صوتِ لينَ المُسجَّل، صوتٍ هادئٍ يروي، يروي عن التمزيقِ، عن الدمِ، عن الضحكِ، عن الكاميرا. كانَ يرتجفُ، يحاولُ النظرَ إلى الأرض، لكن القاضي يأمرهُ برفعِ رأسه، "انظرْ إلى الشاشة، انظرْ إلى ما فعلتَ".

في غزةَ، كانتْ لينُ قد انتقلتْ إلى بيتٍ صغيرٍ من الطوبِ، بيتٌ بنتهُ يداً يدٍ مع متطوعينَ من كلِّ العالم، نافذةٌ تُطلُّ على حديقةٍ صغيرةٍ، حديقةٌ تنبتُ فيها شجرةُ الزيتونِ التي زرعتها، أغصانُها تمتدُّ إلى السماءِ كأذرعِ أملٍ. كانتْ تُديرُ مركزاً للدعمِ النفسيِّ، مركزاً يستقبلُ الناجينَ، الناجياتِ، يُعلِّمهم الكتابةَ، الروايةَ، الشهادةَ، يُحوِّلُ ألمهم إلى قوةٍ، إلى سلاحٍ، إلى صوتٍ. كانتْ تجلسُ مع فتاةٍ صغيرةٍ، فتاةٌ عادتْ من السجنِ، جسدها مُشوَّه، روحها مُمزَّقة، تُمسكُ يدها، تُعلِّمُها أن تكتبَ، "اكتبي عن الرائحة، عن اللمسة، عن الضحك، اكتبي وستنتصرين". كانتْ الفتاةُ تبكي، لكن دموعُها كانتْ تتحوَّلُ إلى حبرٍ، حبرٍ أسودٍ يُسجِّلُ، يُشهدُ، يُحرقُ.

في العالمِ، كانتْ التغييراتُ تتوالى، حكوماتٌ تُقطعُ التمويل، شركاتٌ تُغلقُ المصانع، جامعاتٌ تُلغي الشراكات، رياضيونَ يرفضونَ المنافسة، فنانونَ يُغنُّونَ أغانيَ الثورة. كانتْ لينُ تُدعى إلى مؤتمراتٍ، تتحدثُ عبرَ الفيديو، صوتُها يترددُ في قاعاتٍ فخمةٍ، في ميادينَ عامةٍ، في بيوتٍ بسيطةٍ، صوتُها يروي، يروي عن البردِ، عن الجوعِ، عن العيونِ التلصصيةِ، عن الضحكِ الفاشيِّ. كانَ الناسُ يبكون، يصرخون، يتظاهرون، يُوقِّعونَ عرائضَ، يُرسلونَ مساعداتٍ، يبنونَ مدارسَ، مستشفياتَ، حدائقَ. كانتْ لينُ قد أشعلتْ ثورةً، ثورةً لم تُطلقْ رصاصةً واحدةً، ثورةً من كلماتٍ، من قرفٍ، من ألمٍ، ثورةً أصبحتْ حريقاً عالمياً.

في لاهايَ، كانتْ الأحكامُ تُصدرُ، أحكامٌ بالسجنِ المؤبد، بالتعويضات، بالاعتذارِ الرسميِّ، أحكامٌ تُذاعُ على الهواءِ مباشرةً، تُشاهدُ من ملايين، تُسمعُ في غزةَ، في الخيامِ، في البيوتِ الجديدةِ، في المراكزِ. كانَ أحدُ القادةِ، قائدٌ أمرَ بالتعذيب، يُسحبُ من مكتبه، يُكبَّلُ، يُساقُ إلى الطائرة، يبكي، يتوسَّلُ، لكن لا أحدَ يسمع، لا أحدَ يرحم، لأن العالمَ قد سمعَ صرخةَ لين، صرخةَ الفتيات، صرخةَ فلسطين. كانتْ المحكمةُ تُعلنُ، "هذا ليس دفاعاً عن النفس، هذا جريمةٌ ضدَّ الإنسانية، جريمةٌ فاشيةٌ، جريمةٌ صهيونيةٌ".

في غزةَ، كانتْ لينُ تُعلِّمُ الأطفالَ، تُعلِّمُهم التاريخَ، تُعلِّمُهم أن النكبةَ لم تنتهِ، لكنها تُعلِّمُهم أيضاً أن الصمودَ ينتصر، أن الكلمةَ تنتصر، أن العدالةَ تأتي، تأتي ببطءٍ، لكنها تأتي. كانتْ تزرعُ المزيدَ من الأشجار، أشجارَ زيتونٍ، أشجارَ ليمونٍ، أشجارَ برتقالٍ، حدائقَ تنبتُ من الركامِ، حدائقَ تُروى بدماءِ الشهداء، بدموعِ الناجين، بكلماتِ لين. كانتْ تنامُ ليلاً، تنامُ نوماً عميقاً، تحلمُ بحديقةٍ كبيرةٍ، حديقةٍ خضراءَ تمتدُّ من البحرِ إلى النهر، إخوتها يلعبون، يضحكون، والعالمُ يحميهم، يحميهم بعدالةٍ، بحريةٍ، بإنسانيةٍ.

كانتْ تعرفُ أن الوحشَ قد جُرحَ، جُرحَ جرحاً عميقاً، جرحاً لن يُشفى، لأن الكلماتَ قد دخلتْ عروقه، القرفَ قد انتشرَ في دمه، الشهادةَ قد حُفرتْ في ضميره. كانتْ تعرفُ أن الطريقَ لا يزالُ طويلاً، أن هناكَ المزيدَ من الجنود، المزيدَ من القادة، المزيدَ من الأكاذيب، لكنها كانتْ تعرفُ أيضاً أن الكلماتَ قد انتصرتْ، انتصرتْ في المحاكم، في الشوارع، في القلوب، في الحدائق. وفي عينيها، كانتْ النارُ مشتعلةً أكثر، نارُ المقاومة، نارُ الصمود، نارُ الحرية. ولين، في عريها السابق، في ألمها السابق، في دمها السابق، أصبحتْ أملاً، أملَ العدالة، أملَ الإنسانية، أملَ فلسطين، أملَ العالمِ الذي استيقظَ أخيراً.


6

في أفقِ عامٍ جديدٍ، حينَ بدأَ ضوءُ الفجرِ يتسلَّلُ من بينَ أغصانِ أشجارِ الزيتونِ التي غطَّتْ سهولَ غزةَ كأنها رداءٌ أخضرُ مُطرَّزٌ بدماءِ الشهداءِ ودموعِ الناجين، أصبحتْ لينُ أماً لجيلٍ كاملٍ، جيلٍ يولدُ من الركامِ، ينبتُ كالزهرِ في الصخر، يتعلمُ أن الحريةَ ليستْ كلمةً تُقالُ، بل جرحاً يُروى، ألماً يُكتبُ، شهادةً تُحفرُ في الذاكرةِ كأنها وشمٌ أبديٌّ. كانَ بيتُها الصغيرُ قد تحولَ إلى مدرسةٍ، مدرسةٍ لا جدرانَ لها إلا السماءَ، لا سقفَ لها إلا أغصانَ الزيتونِ، لا كتبَ فيها إلا الرواياتُ المكتوبةُ بدمٍ وحبرٍ، رواياتُ لين، محمد، أحمد، تيسير، خالد، آلافُ الأسماءِ التي أصبحتْ أناشيدَ انتصارٍ. كانتْ تجلسُ في الحديقةِ، تحيطُ بها أطفالٌ، أطفالٌ لم يعرفوا الزنزانةَ، لكنهم يعرفونَ قصتها، يعرفونَ الزجاجةَ، الكلبَ، الضحكَ، الكاميراَ، يعرفونَ القرفَ، ليس ككابوسٍ، بل كدرسٍ، درسُ أن الإنسانيةَ تنتصرُ حينَ تُروى.

في لاهايَ، كانتْ المحاكماتُ مستمرةً، محاكماتٌ تُذاعُ على الهواءِ مباشرةً، ملايينُ يشاهدونَ، يشاهدونَ الجنودَ ينهارونَ في قفصِ الاتهام، يشاهدونَ الضباطَ يُدلونَ بأعذارٍ هشةٍ، "كانتْ أوامر"، يقولونَ، لكن القاضي يردُّ: "الأوامرُ لا تُبرِّرُ اغتصابَ طفلةٍ، لا تُبرِّرُ تصويرَ ألمٍ، لا تُبرِّرُ ضحكاً فاشياً". كانتْ الأحكامُ تُصدرُ تباعاً، سجنٌ مؤبدٌ، تعويضاتٌ، إعادةُ إعمارٍ، اعتذاراتٌ رسميةٌ تُقرأُ في الأممِ المتحدةِ، تُسمعُ في غزةَ، في الخيامِ، في البيوتِ الجديدةِ، في المدارسِ. كانتْ لينُ تُدعى للشهادةِ مرةً أخرى، لكنها رفضتْ السفرَ، رفضتْ أن تتركَ أطفالها، أطفالَ المخيم، أطفالَ فلسطين، فشهدتْ عبرَ الشاشةِ، صوتُها يترددُ في القاعةِ، صوتُها يروي، يروي عن الرائحةِ، عن البردِ، عن العيونِ التلصصيةِ، عن الضحكِ الذي كان يعلو كأناشيدَ انتصارٍ فاشيٍّ، صوتُها يُحرقُ، يُحرقُ الضمائرَ، يُحرقُ الأكاذيبَ، يُحرقُ الوحش.

في العالمِ، كانتْ الحدائقُ تنبتُ، حدائقُ زيتونٍ في كلِّ مدينةٍ، في برلينَ، باريسَ، نيويوركَ، القاهرةَ، إسطنبولَ، حدائقُ تُحملُ اسمَ لين، اسمَ خالد، اسمَ فلسطين، أشجارٌ تُروى بماءِ التضامنِ، بمالِ التعويضاتِ، بأملِ الأطفال. كانتْ المدارسُ تُبنى، مستشفياتُ تُشيَّدُ، طرقٌ تُمهَّدُ، ليس من أجلِ غزةَ فقط، بل من أجلِ الإنسانيةِ، من أجلِ أن لا تتكررَ الجريمةُ، من أجلِ أن يتعلمَ الجميعُ أن الاغتصابَ ليس دفاعاً عن النفس، أن التصويرَ ليس ترفيهاً، أن الضحكَ في الزنزانةِ ليس انتصاراً. كانتْ لينُ تُدرِّسُ، تُدرِّسُ الأطفالَ الكتابةَ، الروايةَ، الشهادةَ، تُدرِّسُهم أن الكلمةَ أقوى من القنبلة، أن الصمودَ هو الحياة، أن الحريةَ تُولدُ من الجرح.

في السجنِ الدوليِّ، كانَ الجنودُ يعيشونَ كوابيسَهم، يرونَ وجوهَ ضحاياهم في كلِّ زاويةٍ، يسمعونَ أصواتَ صرخاتهم في الليل، يقرأونَ أسماءَهم في الصحف، يرونَ أطفالهم يبكونَ في التلفاز. كانَ أحدهم، الجنديُّ الذي ضحكَ عالياً، يكتبُ رسالةً، رسالةً اعتذارٍ، رسالةً ندمٍ، لكن لينَ رفضتْ قراءتها، "الندمُ لا يُعيدُ براءتي، لا يُعيدُ طفولتي، لا يُعيدُ الدمَ الذي سال"، قالتْ في مقابلةٍ، مقابلةٍ أصبحتْ عنواناً في كلِّ الصحف. كانتْ تزرعُ المزيدَ من الأشجار، أشجارَ زيتونٍ، ليمونٍ، برتقالٍ، حدائقَ تمتدُّ من البحرِ إلى النهر، حدائقَ تُروى بماءِ العدالةِ، بمالِ التضامنِ، بأملِ الأجيال.

في يومٍ مشمسٍ، وقفتْ لينُ أمامَ بحرِ غزةَ، بحرٍ لم يعدْ يُقصفُ، بحرٍ أصبحَ ملكاً للأطفال، للصيادين، للأمهات. كانتْ تحملُ في يدها كتاباً، كتاباً جمعَ شهاداتِ الآلاف، كتاباً عنوانُه "من الزنزانةِ إلى الحديقة"، كتاباً يُدرَّسُ في المدارس، في الجامعات، في كلِّ مكانٍ يُعلِّمُ الإنسانية. فتحتْ الكتابَ، قرأتْ بصوتٍ عالٍ، صوتُها يترددُ فوقَ الأمواج، "كنتُ فتاةً في السابعةَ عشرة، عُرِّيتْ، ضُربتْ، اغتُصبتْ، صُوِّرتْ، أُذلَّتْ، لكنني لم أُكسر". توقفتْ، نظرتْ إلى الأطفالِ الذينَ يلعبونَ في الماء، إلى الشجرِ الذي ينمو، إلى السماءِ التي أصبحتْ زرقاءَ، زرقاءَ كأملٍ. كانتْ تعرفُ أن الوحشَ قد ماتَ، ماتَ في المحاكم، في الشوارع، في القلوب، ماتَ لأن الكلماتَ قتلته، القرفَ أحرقه، الشهادةَ دفنته.

كانتْ تنامُ ليلاً في بيتها، بيتٍ صغيرٍ، دافئٍ، تحيطُ بها أصواتُ إخوتها، أصواتُ الأطفال، أصواتُ الحياة. كانتْ تحلمُ بحديقةٍ كبيرةٍ، حديقةٍ خضراءَ تمتدُّ من البحرِ إلى النهر، من النكبةِ إلى العودة، من الزنزانةِ إلى الحرية. كانتْ تستيقظُ، تزرعُ، تُعلِّمُ، تروي، تكتبُ، تُحبُّ، تعيشُ. وفي عينيها، كانتْ النارُ قد تحولتْ إلى ضوءٍ، ضوءُ المقاومة، ضوءُ الصمود، ضوءُ الحرية. ولين، في عريها السابق، في ألمها السابق، في دمها السابق، أصبحتْ فلسطينَ، فلسطينَ التي تنبتُ، تنمو، تنتصر، تنتصرُ بالكلمة، بالشهادة، بالحياة.

………..


الفصل الخامس: نحو فجر التحرر


1

في صيفِ عامِ 2030، حينَ امتدَّتْ أغصانُ أشجارِ الزيتونِ كأنها أذرعُ أمٍّ تحتضنُ أرضَ غزةَ بعدَ سنينِ الجفافِ والدم، وقفتْ لينُ على تلٍّ صغيرٍ يُطلُّ على البحرِ، بحرٍ أصبحَ مرآةً للسماءِ الزرقاءِ بعدَ أن كانَ يعكسُ دخانَ القصفِ وأنينَ الشهداء. كانتْ في الرابعةِ والعشرينَ من عمرها، لكن عينيها الخضراوانِ تحملانِ حكمةَ أجيالٍ، حكمةَ من عاشتْ الزنزانةَ وخرجتْ منها طائراً، طائراً يحملُ في جناحيهِ كتاباً، كتاباً جمعَ آلافَ الشهادات، آلافَ الأصوات، آلافَ الجراحِ التي تحولتْ إلى حدائق. كانتْ ترتدي ثوباً أبيضَ مطرَّزاً بخيوطِ زيتونٍ، ثوباً صمَّمتهُ فتياتُ المركزِ الذي أسَّستهُ، مركزِ "من الزنزانةِ إلى الحديقة"، مركزٍ أصبحَ منارةً للناجين، للأطفال، للأمهات، لكلِّ من يريدُ أن يحوِّلَ ألمه إلى كلمةٍ، إلى شجرةٍ، إلى حياة.

كانتْ لينُ قد أصبحتْ أماً، ليس لأطفالٍ من لحمٍ ودمٍ فحسب، بل لجيلٍ كاملٍ، جيلٍ يولدُ من الركامِ وينبتُ كالزهرِ في الصخر. كانَ زوجُها، شابٌ من المخيمِ، شابٌ عادَ من السجنِ هو الآخر، يحملُ ندوباً على ظهره، لكنه يحملُ أيضاً ضحكةً صافيةً، ضحكةً لم تُطفأ بالكهرباءِ، بالضربِ، بالإذلال. كانا يعيشانِ في بيتٍ صغيرٍ من حجرٍ أبيض، بيتٍ بنيَ بأيدي المتضامنينَ من كلِّ العالم، جدرانُه مزيَّنةٌ بلوحاتٍ رسمتها أطفالٌ، لوحاتٌ تصورُ حدائقَ، بحاراً، طيوراً، وجوهَ لينَ تبتسمُ، تبتسمُ لأولِ مرةٍ منذُ سنين. كانتْ ابنتُها الصغيرةُ، ابنةُ عامينِ، تُدعى "زيتونة"، تمشي حافيةً بينَ الأشجار، تضحكُ ضحكةً تشبهُ صوتَ المطرِ على أوراقِ الزيتون، تضحكُ وهي لا تعرفُ الزنزانةَ، لا تعرفُ الزجاجةَ، الكلبَ، الضحكَ الفاشيَّ، تعرفُ فقط أن أمَّها بطلةٌ، بطلةٌ كتبتْ كتاباً، بطلةٌ زرعتْ حديقةً، بطلةٌ أنقذتْ العالمَ بكلماتها.

كانتْ لينُ تُديرُ المدرسةَ، مدرسةً مفتوحةً تحتَ السماء، كراسيُّها من جذوعِ الأشجارِ، سبوراتُها من ألواحِ خشبٍ مُعادِ تدويرهِ، كتبُها رواياتُ الناجين. كانتْ تُعلِّمُ الأطفالَ الكتابةَ، ليس حروفاً فحسب، بل شهاداتٍ، تُعلِّمُهم أن يكتبوا عن أحلامهم، عن خوفهم، عن أملهم، تُعلِّمُهم أن الكلمةَ سلاحٌ، أن الروايةَ درعٌ، أن الصمودَ حياة. كانَ أحدُ الأطفالِ، صبيٌّ في العاشرةِ، يكتبُ عن أبيهِ الشهيد، يكتبُ عن القنبلةِ التي سقطتْ على بيتهم، يكتبُ عن الدمِ الذي سالَ على جدرانِ غرفته، لكنه يكتبُ أيضاً عن الشجرةِ التي نبتتْ مكانَ البيت، عن الزيتونِ الذي يُقطفُ الآن، عن الحياةِ التي تنتصر. كانتْ لينُ تقرأُ كتاباتَهم، تبكي، تبكي دموعَ فخرٍ، دموعَ أملٍ، دموعَ انتصار.

في لاهايَ، كانتْ المحاكماتُ قد انتهتْ، انتهتْ بأحكامٍ نهائيةٍ، سجنٌ مؤبدٌ لعشراتِ الجنودِ والضباطِ والقادة، تعويضاتٌ ضخمةٌ أُنفقتْ على إعادةِ الإعمار، على بناءِ المدارسِ، المستشفياتِ، الحدائقِ، اعتذاراتٌ رسميةٌ تُقرأُ في الأممِ المتحدةِ، تُسمعُ في غزةَ، في فلسطينَ، في العالم. كانتْ لينُ قد رفضتْ السفرَ إلى لاهايَ لاستلامِ جائزةٍ، جائزةُ الشجاعةِ الدولية، رفضتْ لأنها قالتْ: "الشجاعةُ ليستْ لي وحدي، الشجاعةُ لكلِّ فتاةٍ عُرِّيتْ، لكلِّ طفلٍ ضُربَ، لكلِّ أمٍّ بكتْ، الشجاعةُ لفلسطين". أرسلتْ رسالةً مسجَّلةً، رسالةً تُعرضُ على شاشاتٍ عملاقةٍ في ميادينِ العالم، رسالةً تقولُ: "كنتُ في السابعةَ عشرة، عُرِّيتْ، ضُربتْ، اغتُصبتْ، صُوِّرتْ، أُذلَّتْ، لكنني لم أُكسر، كتبتُ، رويتُ، شهدتُ، زرعتُ، وها أنا الآنَ أمٌّ، معلمةٌ، أملٌ".

كانتْ الحدائقُ قد امتدَّتْ، حدائقُ زيتونٍ في كلِّ ركنٍ من غزةَ، في كلِّ مدينةٍ من فلسطين، في كلِّ قارةٍ من العالم. كانتْ هناكَ حديقةٌ في برلينَ تُحملُ اسمَ لين، حديقةٌ في نيويوركَ، في القاهرةَ، في جاكرتا، أشجارٌ تُروى بماءِ التضامنِ، بمالِ العدالةِ، بأملِ الأطفال. كانتْ لينُ تُدعى لإلقاءِ محاضراتٍ، لكنها كانتْ ترفضُ معظمَها، ترفضُ لأنها تقولُ: "أنا لستُ بطلةً، أنا صوتٌ، صوتُ الآلاف، صوتُ فلسطين، صوتُ الإنسانية". كانتْ تكتبُ كتاباً جديداً، كتاباً عن الأمومةِ، عن الشفاءِ، عن الحياةِ بعدَ الزنزانة، كتاباً يُقرأُ في المدارس، في الجامعات، في البيوت.

في يومٍ مشمسٍ، وقفتْ لينُ أمامَ طلابها، طلابٌ من كلِّ الأعمار، من كلِّ الخلفيات، من كلِّ الجراح، وقالتْ: "اكتبوا عن أحلامكم، اكتبوا عن خوفكم، اكتبوا عن أملكم، اكتبوا وستنتصرون". كانَ أحدُ الطلابِ، شابٌ في العشرين، يكتبُ عن أمهِ التي اغتُصبتْ في السجن، يكتبُ عن الدمِ، عن الضحكِ، عن الكاميرا، لكنه يكتبُ أيضاً عن الحديقةِ التي زرعها مكانَ بيتِه المُقصَّف، عن الزيتونِ الذي يُقطفُ الآن، عن الحياةِ التي تنتصر. كانتْ لينُ تقرأُ كتاباتَهم، تبتسمُ، تبتسمُ ابتسامةً صافيةً، ابتسامةً لم تُطفأ بالزجاجةِ، بالكلبِ، بالضحكِ الفاشيِّ، ابتسامةً تنبتُ من الجرح، من الدم، من الكلمة.

كانتْ تنامُ ليلاً في بيتها، بجانبِ زوجها، بجانبِ زيتونة، تسمعُ أصواتَ الأطفالِ في الحديقة، أصواتَ الضحك، أصواتَ الحياة. كانتْ تحلمُ بحديقةٍ كبيرةٍ، حديقةٍ خضراءَ تمتدُّ من البحرِ إلى النهر، من النكبةِ إلى العودة، من الزنزانةِ إلى الحرية، من الجرحِ إلى الشفاء. كانتْ تستيقظُ، تزرعُ، تُعلِّمُ، تروي، تكتبُ، تُحبُّ، تعيشُ. وفي عينيها، كانَ الضوءُ قد أصبحَ شمساً، شمسُ المقاومة، شمسُ الصمود، شمسُ الحرية. ولين، في عريها السابق، في ألمها السابق، في دمها السابق، أصبحتْ فلسطينَ، فلسطينَ التي تنبتُ، تنمو، تنتصر، تنتصرُ بالكلمة، بالشهادة، بالحياة، بالأمل.



2

في خريفِ عامِ 2035، حينَ أثقلتْ ثمارُ الزيتونِ الأغصانَ حتى انحنتْ كأنها تُقبِّلُ الأرضَ التي روتها دماءُ الأجدادِ ودموعُ الأحفاد، جلستْ لينُ تحتَ شجرةٍ عملاقةٍ في حديقةِ المركزِ، حديقةٍ أصبحتْ رئةَ غزةَ، رئةً تتنفسُ أكسجينَ الأملِ بعدَ سنينِ الاختناقِ بالبارودِ والقرف. كانتْ في التاسعةِ والعشرينَ من عمرها، شعرُها الأسودُ الطويلُ يتمايلُ مع نسمةِ البحرِ كأنه رايةُ انتصارٍ، عيناها الخضراوانِ تضحكانِ لأولِ مرةٍ بلا ظلالِ كوابيس، تضحكانِ وهي ترى زيتونةَ، ابنتَها البالغةَ السابعةَ، تركضُ بينَ الأطفالِ، تحملُ في يدها دفترَ كتابةٍ صغيرَ، دفترَ أمِّها الذي بدأتْ فيه الروايةَ الأولى. كانتْ لينُ قد أنجبتْ طفلاً آخرَ، طفلاً سُمِّيَ "خالد" تيمُّناً بصديقٍ سقطَ في السجن، طفلاً يزحفُ الآنَ على العشبِ الأخضرِ، يضحكُ ضحكةً تشبهُ صوتَ المطرِ على أوراقِ الزيتون، ضحكةً لا تعرفُ الزنزانةَ، لا تعرفُ الزجاجةَ، الكلبَ، الضحكَ الفاشيَّ، تعرفُ فقط أن أباهُ يُعلِّمُهُ زراعةَ الشجر، أن أمَّهُ تُعلِّمُهُ الكتابةَ، أن الحياةَ تنتصر.

كانَ المركزُ قد توسَّعَ، أصبحَ جامعةً صغيرةً، جامعةَ "الكلمةِ والزيتون"، مبانٍ من حجرٍ أبيضَ، أسطحُها مغطاةٌ بألواحِ شمسيةٍ، قاعاتُها مليئةٌ بطلابٍ من كلِّ العالم، طلابٌ جاؤوا ليدرسوا الروايةَ كسلاحٍ، الشهادةَ كدرعٍ، الصمودَ كفلسفةٍ. كانتْ لينُ عميدةَ الجامعةِ، لكنها كانتْ ترفضُ اللقبَ، تقولُ: "أنا معلمةٌ، معلمةٌ للأطفالِ، للناجين، للعالم". كانتْ تُدرِّسُ مادةً تُدعى "من الجرحِ إلى الحديقة"، مادةً تجمعُ بينَ الأدبِ والزراعةِ، بينَ الكتابةِ والحياةِ، مادةً يتعلمُ فيها الطلابُ كيفَ يكتبونَ عن ألمهم، ثم يزرعونَ شجرةً بكلِّ صفحةٍ، شجرةً تُروى بماءِ دموعهم، تُثمرُ زيتوناً يُقطفُ في احتفالٍ سنويٍّ، احتفالٍ يُحملُ اسمَ "عيدِ الشهادة".

كانتْ زيتونةُ، الطفلةُ ذاتُ العيونِ الخضراءِ كأمِّها، قد بدأتْ تكتبُ، تكتبُ قصةً عن جدَّتها التي لم ترَها، جدَّةٍ سقطتْ في النكبة، تكتبُ عن الزيتونِ الذي نبتَ مكانَ بيتِ الجدَّةِ، عن الحياةِ التي تنتصر. كانتْ لينُ تقرأُ كتاباتَ ابنتها، تبتسمُ، تبتسمُ ابتسامةً صافيةً، ابتسامةً لم تُطفأ بالزجاجةِ، بالكلبِ، بالضحكِ الفاشيِّ، ابتسامةً تنبتُ من الجرح، من الدم، من الكلمة. كانتْ تقولُ لزيتونة: "اكتبي عن أحلامك، عن خوفك، عن أملك، اكتبي وستنتصرين، كما انتصرتُ أنا، كما انتصرَ جدُّك، كما انتصرتْ فلسطين".

في لاهايَ، كانتْ آثارُ المحاكماتِ لا تزالُ حاضرةً، سجونٌ دوليةٌ مليئةٌ بجنودٍ وقادةٍ، جدرانُها بيضاءُ، باردةُ، لكنها تحملُ أصداءَ صرخاتِ الضحايا، أصداءَ ضحكاتِ الجنودِ التي تحولتْ إلى أنينِ ندمٍ. كانتْ هناكَ لوحةٌ تذكاريةٌ في ساحةِ المحكمةِ، لوحةٌ تحملُ أسماءَ الضحايا، أسماءَ لين، محمد، أحمد، تيسير، خالد، آلافَ الأسماءِ، لوحةٌ تُزيَّنُ بأغصانِ زيتونٍ كلَّ عامٍ، أغصانٌ تُرسلُ من غزةَ، من حديقةِ لين. كانتْ لينُ تُرسلُ رسائلَ سنويةً إلى السجناء، رسائلَ لا تحملُ كراهيةً، بل تحملُ درساً: "الندمُ لا يُعيدُ براءتي، لكنه يُعيدُ إنسانيتك، فكِّرْ في ذلك، فكِّرْ في الزجاجةِ، في الكلبِ، في الضحكِ، فكِّرْ وستجدُ نفسك".

في العالمِ، كانتْ الحدائقُ قد أصبحتْ رمزاً، رمزَ الشفاءِ، رمزَ العدالةِ، رمزَ الحياة. كانتْ هناكَ حديقةٌ في كلِّ عاصمةٍ، حديقةٌ تُحملُ اسمَ لين، اسمَ فلسطين، أشجارٌ تُروى بماءِ التضامنِ، بمالِ التعويضاتِ، بأملِ الأطفال. كانتْ المدارسُ تُدرِّسُ كتابَ لين، كتابَ "من الزنزانةِ إلى الحديقة"، كتاباً أصبحَ كلاسيكياً، يُترجمُ إلى مئةِ لغةٍ، يُقرأُ في كلِّ قارةٍ، يُعلِّمُ الأطفالَ أن الجرحَ يُشفى، أن الألمَ يُحوَّلُ إلى قوةٍ، أن الكلمةَ تنتصر. كانتْ لينُ تُدعى لمهرجاناتٍ أدبيةٍ، لكنها كانتْ ترفضُ معظمَها، ترفضُ لأنها تقولُ: "أنا لستُ أديبةً، أنا شاهدةً، شاهدةً على الجريمةِ، شاهدةً على الصمودِ، شاهدةً على الحياة".

في يومٍ مشمسٍ، وقفتْ لينُ أمامَ طلابها، طلابٌ من كلِّ الأعمار، من كلِّ الجراح، وقالتْ: "اكتبوا عن أحلامكم، عن خوفكم، عن أملكم، اكتبوا وستنتصرون، كما انتصرتُ أنا، كما انتصرَ جيلي، كما انتصرتْ فلسطين". كانَ أحدُ الطلابِ، فتاةٌ في الثامنةَ عشرةَ، تكتبُ عن أمِّها التي اغتُصبتْ في السجن، تكتبُ عن الدمِ، عن الضحكِ، عن الكاميرا، لكنها تكتبُ أيضاً عن الحديقةِ التي زرعتها مكانَ بيتِها المُقصَّف، عن الزيتونِ الذي تُقطفُهُ الآن، عن الحياةِ التي تنتصر. كانتْ لينُ تقرأُ كتاباتَهم، تبكي، تبكي دموعَ فخرٍ، دموعَ أملٍ، دموعَ انتصار.

كانتْ تنامُ ليلاً في بيتها، بجانبِ زوجها، بجانبِ زيتونةَ وخالد، تسمعُ أصواتَ الأطفالِ في الحديقة، أصواتَ الضحك، أصواتَ الحياة. كانتْ تحلمُ بحديقةٍ كبيرةٍ، حديقةٍ خضراءَ تمتدُّ من البحرِ إلى النهر، من النكبةِ إلى العودة، من الزنزانةِ إلى الحرية، من الجرحِ إلى الشفاء، من الموتِ إلى الحياة. كانتْ تستيقظُ، تزرعُ، تُعلِّمُ، تروي، تكتبُ، تُحبُّ، تعيشُ. وفي عينيها، كانَ الضوءُ قد أصبحَ شمساً، شمسُ المقاومة، شمسُ الصمود، شمسُ الحرية، شمسُ فلسطين. ولين، في عريها السابق، في ألمها السابق، في دمها السابق، أصبحتْ أسطورةً، أسطورةَ الشفاء، أسطورةَ الحياة، أسطورةَ الإنسانية، أسطورةَ فلسطينَ التي تنبتُ، تنمو، تنتصر، تنتصرُ بالكلمة، بالشهادة، بالحياة، بالأمل، بالزيتون.


3

في ربيعِ عامِ 2040، حينَ غطَّتْ أزهارُ اللوزِ التلالَ كأنها ثلجٌ ورديٌّ يذوبُ في شمسِ غزةَ الدافئة، وقفتْ لينُ على منصةٍ خشبيةٍ في وسطِ حديقةِ الجامعةِ، حديقةٍ أصبحتْ غابةً صغيرةً، أشجارُ زيتونٍ وليمونٍ وبرتقالٍ تتداخلُ أغصانُها كأنها تُحاكي نسيجَ الذاكرةِ الجماعية، نسيجاً من الجراحِ والشفاءِ، من الدمِ والثمر. كانتْ في الرابعةِ والثلاثينَ من عمرها، تجاعيدُ الضحكِ تُحيطُ بعينيها الخضراوينِ كأنها أنهارُ صغيرةٌ من نورٍ، شعرُها الأسودُ مربوطٌ بشريطٍ أخضرَ مطرَّزٍ بكلماتٍ من كتابها الأول: "من الزنزانةِ إلى الحديقة". كانتْ ترتدي ثوباً أبيضَ طويلاً، ثوباً صمَّمتهُ زيتونةُ، ابنتُها البالغةُ الثانيةَ عشرةَ، فتاةٌ أصبحتْ شاعرةً، شاعرةً تكتبُ عن الزيتونِ كأنه قلبٌ ينبضُ، عن البحرِ كأنه مرآةُ الحرية، عن الأمِّ كأنها شجرةٌ لا تنكسر.

كانَ اليومُ احتفالَ تخرُّجِ الدفعةِ العاشرةِ من جامعةِ "الكلمةِ والزيتون"، دفعةٌ تضمُّ مئتي طالبٍ وطالبةٍ من فلسطينَ ومن كلِّ قارةٍ، شبابٌ حملوا رواياتِهم في حقائبِهم، جاؤوا ليتعلموا كيفَ يحوِّلونَ ألمهم إلى كلماتٍ، كلماتٍ إلى أشجارٍ، أشجارٍ إلى حدائقٍ، حدائقٍ إلى عالمٍ. كانتْ لينُ تُلقي كلمتَها السنويةَ، كلمةً لا تُقرأُ من ورقةٍ، بل تُروى من القلب، تُروى كأنها أنشودةُ انتصار: "أيها الخريجون، أنتم لم تأتوا إلى هنا لتتعلموا الكتابةَ فحسب، بل لتتعلموا الحياةَ، الحياةَ التي تنبتُ من الجرح، من الدم، من الذاكرة. كنتُ في السابعةَ عشرة، عُرِّيتْ، ضُربتْ، اغتُصبتْ، صُوِّرتْ، أُذلَّتْ، لكنني كتبتُ، رويتُ، شهدتُ، زرعتُ، وها أنا الآنَ أراكم، أراكم تُثمرونَ كالزيتون، تُضيئونَ كاللوز، تُغنُّونَ كالبحر".

كانتْ زيتونةُ تقفُ إلى جانبِ أمِّها، تحملُ ديوانَ شعرٍ صغيرَ، ديواناً عنوانُه "أغصانُ الذاكرة"، ديواناً يحتوي على قصيدةٍ تُدعى "أمِّي الشجرة"، قصيدةٌ تقولُ فيها: "كنتِ في الزنزانةِ عاريةً، فصرتِ في الحديقةِ مُثمرةً، كنتِ دماً، فصرتِ زيتاً، كنتِ صرخةً، فصرتِ أنشودةً". كانتْ تقرأُ القصيدةَ بصوتٍ نقيٍّ، صوتٍ يترددُ بينَ الأشجار، يترددُ في قلوبِ الطلاب، في قلوبِ الأمهاتِ اللواتي جئنَ من كلِّ مخيمٍ، من كلِّ قريةٍ، من كلِّ مدينةٍ، أمهاتٌ يحملنَ أطفالاً في أحضانهنَّ، أطفالاً يولدونَ في عالمٍ لم يعدْ يعرفُ الزنزانةَ، عالمٌ أصبحَ حديقةً، حديقةً من كلماتٍ وأشجارٍ وأمل.

كانَ خالدُ، ابنُ لينَ البالغُ الخامسةَ، يركضُ بينَ الطلاب، يحملُ في يده سلةً من الزيتونِ المُقطَّفِ حديثاً، يوزِّعُهُ على الخريجين، يقولُ لهم: "كلوا من ثمرِ أمِّي، ثمرِ الشهادة، ثمرِ الصمود". كانَ زوجُ لينَ، الرجلُ الذي عادَ من السجنِ بظهرٍ مُندَبٍ لكنه قلبٌ مُثمرٌ، يقفُ خلفَ المنصة، يبتسمُ ابتسامةً عريضةً، ابتسامةً لم تُطفأ بالكهرباءِ، بالضربِ، بالإذلال، ابتسامةً تنبتُ من الحبِّ، من الشفاءِ، من الحياة. كانَ يُديرُ مزرعةً عضويةً مجاورةً للجامعة، مزرعةً تُنتجُ زيتاً يُصدَّرُ إلى العالم، زيتاً يُحملُ اسمَ "زيتُ لين"، زيتاً يُستخدمُ في مطابخِ باريسَ ولندنَ ونيويورك، زيتاً يحملُ في طعمهِ قصةَ الجرحِ والشفاءِ، قصةَ فلسطين.

في لاهايَ، كانتْ هناكَ نصبٌ تذكاريٌّ جديدٌ، نصبٌ من حجرٍ أبيضَ، عليهِ نقشٌ لشجرةِ زيتونٍ، وتحتَها كلماتُ لينَ الأولى: "كنتُ فتاةً في السابعةَ عشرة، عُرِّيتْ، ضُربتْ، اغتُصبتْ، صُوِّرتْ، أُذلَّتْ، لكنني لم أُكسر". كانتْ السياحُ يأتونَ من كلِّ العالم، يقرأونَ النقشَ، يضعونَ أغصانَ زيتونٍ عندَ قاعدةِ النصب، يبكونَ، يبكونَ لأن القصةَ لا تزالُ حيةً، حيةً في الكتب، في الأفلام، في الأغاني، حيةً في الحدائق. كانتْ لينُ تُرسلُ كلَّ عامٍ شحنةً من الزيتونِ إلى النصب، شحنةً تُرافَقُ برسالةٍ: "الزيتونُ لا ينسى، الزيتونُ يُثمرُ، الزيتونُ ينتصر".

في غزةَ، كانتْ الجامعةُ قد أصبحتْ قبلةً، قبلةً للطلاب، للصحفيين، للناشطين، لكلِّ من يريدُ أن يتعلمَ الصمود. كانتْ هناكَ مكتبةٌ ضخمةٌ، مكتبةٌ تحتوي على ملايينِ الروايات، رواياتُ الناجين، رواياتُ الأطفال، رواياتُ الأمهات، رواياتٌ تُترجمُ إلى كلِّ لغةٍ، تُقرأُ في كلِّ مدرسةٍ، في كلِّ جامعةٍ، في كلِّ بيت. كانتْ لينُ تُديرُ ورشةً أسبوعيةً، ورشةً تُدعى "اكتبْ جرحك"، ورشةً يجلسُ فيها المشاركونَ تحتَ الأشجار، يكتبونَ، يبكونَ، يضحكونَ، يزرعونَ شجرةً بكلِّ صفحةٍ، شجرةً تُروى بماءِ دموعهم، تُثمرُ زيتوناً يُقطفُ في احتفالٍ سنويٍّ، احتفالٍ يُحملُ اسمَ "عيدِ الشفاء".

كانتْ زيتونةُ قد أصدرتْ ديوانَها الأولَ، ديواناً يُباعُ في كلِّ العالم، ديواناً يحملُ مقدمةً من لينَ، مقدمةً تقولُ: "ابنتي لم تعرفْ الزنزانةَ، لكنها تعرفُ الشجرةَ، تعرفُ الكلمةَ، تعرفُ الحريةَ، وهذا هو انتصارنا". كانَ خالدُ يتعلمُ القراءةَ، يقرأُ كتابَ أمِّهِ، يسألُ: "ماما، لماذا كنتِ في الزنزانة؟"، فتجيبُ لينُ: "كنتُ هناك لأكونَ هنا الآن، لأزرعَ لكَ الزيتون، لأُعلِّمكَ الكتابة، لأُحبَّكَ". كانَ يبتسمُ، يبتسمُ ابتسامةً صافيةً، ابتسامةً لا تعرفُ الخوف، ابتسامةً تنبتُ من الأمل.

في يومٍ مشمسٍ، وقفتْ لينُ أمامَ بحرِ غزةَ، بحرٍ أصبحَ ملعباً للأطفال، للصيادين، للشعراء. كانتْ تحملُ في يدها كتاباً جديداً، كتاباً عنوانُه "أغصانُ الأمل"، كتاباً جمعَ قصصَ الخريجين، قصصَ الشفاءِ، قصصَ الحياة. فتحتْ الكتابَ، قرأتْ بصوتٍ عالٍ، صوتُها يترددُ فوقَ الأمواج: "كنتُ فتاةً في السابعةَ عشرة، عُرِّيتْ، ضُربتْ، اغتُصبتْ، صُوِّرتْ، أُذلَّتْ، لكنني لم أُكسر، كتبتُ، رويتُ، شهدتُ، زرعتُ، أحببتُ، عشتُ". توقفتْ، نظرتْ إلى زيتونةَ وخالدَ يلعبانِ في الماء، إلى زوجها يضحكُ مع الأطفال، إلى الشجرِ الذي ينمو، إلى السماءِ التي أصبحتْ زرقاءَ، زرقاءَ كأملٍ لا ينتهي.

كانتْ تنامُ ليلاً في بيتها، بجانبِ عائلتها، تسمعُ أصواتَ الأطفالِ في الحديقة، أصواتَ الضحك، أصواتَ الحياة. كانتْ تحلمُ بحديقةٍ كبيرةٍ، حديقةٍ خضراءَ تمتدُّ من البحرِ إلى النهر، من النكبةِ إلى العودة، من الزنزانةِ إلى الحرية، من الجرحِ إلى الشفاء، من الموتِ إلى الحياة، من الظلامِ إلى النور. كانتْ تستيقظُ، تزرعُ، تُعلِّمُ، تروي، تكتبُ، تُحبُّ، تعيشُ. وفي عينيها، كانَ الضوءُ قد أصبحَ شمساً، شمسُ المقاومة، شمسُ الصمود، شمسُ الحرية، شمسُ فلسطين، شمسُ الإنسانية. ولين، في عريها السابق، في ألمها السابق، في دمها السابق، أصبحتْ أسطورةً، أسطورةَ الشفاء، أسطورةَ الحياة، أسطورةَ الأمل، أسطورةَ فلسطينَ التي تنبتُ، تنمو، تنتصر، تنتصرُ بالكلمة، بالشهادة، بالحياة، بالزيتون، بالأزهار، بالأطفال، بالمستقبل.



4

في شتاءِ عامِ 2045، حينَ غطَّتْ قطراتُ الندى أوراقَ الزيتونِ كأنها لآلئُ صغيرةٌ تُحاكي دموعَ السماءِ على وجهِ أرضٍ شفيتْ من جرحِ النكبةِ ببطءٍ، جلستْ لينُ على مقعدٍ من جذعِ شجرةٍ قديمةٍ في قلبِ غابةِ الجامعةِ، غابةٍ امتدَّتْ كأنها ذراعُ فلسطينَ المُثمرةُ، تمتدُّ من شاطئِ غزةَ إلى حدودِ الضفةِ، من بحرِ الملحِ إلى نهرِ الأردنِّ، من الركامِ إلى الحديقةِ الكبرى. كانتْ في التاسعةِ والثلاثينَ من عمرها، خصلاتُ شعرها الأسودِ بدأتْ تُزيِّنُها خيوطُ فضيةٌ كأنها أنهارُ حكمةٍ تجري في ليلِ التجربةِ، عيناها الخضراوانِ لا تزالانِ تضحكانِ، تضحكانِ لأنها ترى زيتونةَ، ابنتَها البالغةَ السابعةَ عشرةَ، تقفُ على منصةٍ صغيرةٍ تُلقي أولى محاضراتِها كأستاذةٍ مساعدةٍ في مادةِ "الشعرُ والشفاء"، صوتُها يترددُ بينَ الأشجارِ كأنشودةِ طائرٍ حرٍّ، طائرٍ ولدَ في الحديقةِ ولم يعرفْ قفصاً.

كانتْ زيتونةُ قد أصدرتْ ثلاثةَ دواوينَ، دواوينَ تُدرَّسُ في الجامعاتِ العالميةِ، دواوينَ تحملُ أسماءَ "أغصانُ الذاكرة"، "زيتُ الجرح"، "بحرُ الكلمة"، دواوينَ تروي قصةَ أمِّها دونَ أن تُسمِّيَ الزنزانةَ مباشرةً، بل تُحوِّلُها إلى رمزٍ، رمزِ الشجرةِ التي تنبتُ من الصخرِ، رمزِ الزيتِ الذي يُضيءُ الظلامَ، رمزِ الكلمةِ التي تُحرِّرُ الأرواح. كانتْ تقرأُ قصيدةً جديدةً، قصيدةً عنوانُها "أمِّي الزيتونة"، تقولُ فيها: "كنتِ عاريةً في البردِ، فصرتِ مُثمرةً في الشمسِ، كنتِ دماً، فصرتِ زيتاً، كنتِ صرخةً، فصرتِ سلاماً، كنتِ جرحاً، فصرتِ حديقةً، حديقةً تمتدُّ من غزةَ إلى العالم". كانَ الطلابُ يبكونَ، يبكونَ لأنهم يرونَ في زيتونةِ لينَ، في لينَ زيتونةَ، يرونَ استمراريةَ الصمودِ، استمراريةَ الشفاءِ، استمراريةَ الحياة.

كانَ خالدُ، ابنُ لينَ البالغُ العاشرةَ، يقفُ بجانبِ أبيهِ، يحملُ في يده دفترَ رسمٍ، دفترَ يحتوي على لوحاتٍ تصورُ الحديقةَ من زوايا مختلفةٍ، لوحاتٌ تُظهرُ الشجرَ كأنه أجسادٌ، الأوراقَ كأنها أكفٌّ مفتوحةٌ، الثمارَ كأنها قلوبٌ تنبض. كانَ يرسمُ منذُ سنين، يرسمُ قصةَ أمِّهِ دونَ كلماتٍ، يرسمُ الزنزانةَ كظلٍّ أسودَ يتلاشى تحتَ أشعةِ الشمس، يرسمُ الحديقةَ كجسدٍ ينمو، ينمو كأنَّ كلَّ شجرةٍ هي فتاةٌ ناجيةٌ، كلَّ غصنٍ هو ذراعٌ ممدودةٌ نحو السماء. كانتْ لوحاتُه تُعرضُ في معارضَ عالميةٍ، معارضَ تحملُ اسمَ "من الظلِّ إلى الضوء"، معارضَ يزورُها ملايينُ، يقفونَ أمامَ لوحةٍ كبيرةٍ تصورُ لينَ وهي تزرعُ أولَ شجرةٍ، وجهُها يبتسمُ، يبتسمُ ابتسامةً لم تُطفأ بالزجاجةِ، بالكلبِ، بالضحكِ الفاشيِّ، ابتسامةً تنبتُ من الجرح، من الدم، من الكلمة.

كانَ زوجُ لينَ قد أصبحَ عمدةَ المنطقةِ، عمدةً منتخباً ديمقراطياً، عمدةً يُديرُ مزرعةً عضويةً ضخمةً، مزرعةً تُصدِّرُ زيتَ الزيتونِ إلى مئةِ دولةٍ، زيتاً يحملُ علامةً تجاريةً تُدعى "زيتُ الصمود"، زيتاً يُستخدمُ في مطابخِ العالم، في علاجِ الجروحِ، في إضاءةِ المصابيحِ في الاحتفالاتِ السنويةِ لعيدِ الشهادة. كانَ يقفُ خلفَ زيتونةَ، يبتسمُ، يبتسمُ لأنه يرى فيها لينَ، في لينَ زيتونةَ، يرى استمراريةَ الحبِّ، استمراريةَ الشفاءِ، استمراريةَ الحياة. كانَ يقولُ لخالد: "ارسمْ أمَّكَ، ارسمْ أختَكَ، ارسمْ الحديقةَ، ارسمْ فلسطينَ، ارسمْ وستنتصر".

في لاهايَ، كانتْ هناكَ جائزةٌ سنويةٌ جديدةٌ، جائزةُ لينَ للشجاعةِ الأدبيةِ، جائزةٌ تُمنحُ لكتَّابٍ وشعراءٍ وفنانينَ يروونَ قصصَ الجراحِ والشفاءِ، جائزةٌ تُقدَّمُ في احتفالٍ كبيرٍ، احتفالٌ يُذاعُ على الهواءِ مباشرةً، يُشاهدُهُ ملياراتُ، يُحضرُهُ قادةُ العالم، لكن لينَ كانتْ ترفضُ الحضورَ، ترفضُ لأنها تقولُ: "الشجاعةُ ليستْ لي، الشجاعةُ لكلِّ من كتبَ جرحَه، لكلِّ من زرعَ شجرةً، لكلِّ من عاشَ بعدَ الموت". كانتْ تُرسلُ فيديو مسجلاً، فيديو يُظهرُها في الحديقةِ، تحيطُ بها أطفالٌ، طلابٌ، أشجارٌ، تقولُ فيه: "الشجاعةُ هي أن تكتبَ، أن تزرعَ، أن تحبَّ، أن تعيشَ، الشجاعةُ هي فلسطين".

في غزةَ، كانتْ الجامعةُ قد أصبحتْ مدينةً صغيرةً، مدينةً من المعرفةِ والزيتونِ، مبانٍ بيضاءُ، حدائقُ خضراءُ، مكتباتُ ضخمةُ، معاملُ بحثٍ، مسارحُ، قاعاتُ موسيقى. كانتْ هناكَ كليةٌ للطبِّ النفسيِّ، كليةٌ تُعالجُ الجراحَ النفسيةَ بالكتابةِ، بالزراعةِ، بالموسيقى، كليةٌ أسَّستها لينَ، كليةٌ تُدرِّسُ أن الشفاءَ ليسَ دواءً فحسب، بل كلمةً، شجرةً، أغنيةً. كانتْ هناكَ كليةٌ للفنونِ، كليةٌ يرسمُ فيها خالدُ، ينحتُ، يصممُ، كليةٌ تُنتجُ أفلاماً، مسرحياتٌ، أغانيَ، أعمالاً فنيةً تروي قصةَ الصمودِ، قصةَ الشفاءِ، قصةَ الحياة.

كانتْ لينُ تُديرُ ورشةً يوميةً، ورشةً تُدعى "اكتبْ أملك"، ورشةً يجلسُ فيها المشاركونَ تحتَ الأشجار، يكتبونَ عن أحلامهم، عن خوفهم، عن أملهم، يكتبونَ ويزرعونَ شجرةً بكلِّ صفحةٍ، شجرةً تُروى بماءِ أحلامهم، تُثمرُ زيتوناً يُقطفُ في احتفالٍ سنويٍّ، احتفالٍ يُحملُ اسمَ "عيدِ الأمل". كانتْ زيتونةُ تُديرُ ورشةً موازيةً، ورشةً تُدعى "غنِّ جرحك"، ورشةً يغنِّي فيها المشاركونَ، يرقصونَ، يُحوِّلونَ ألمهم إلى لحنٍ، إلى إيقاعٍ، إلى رقصةٍ.

في يومٍ مشمسٍ، وقفتْ لينُ أمامَ بحرِ غزةَ، بحرٍ أصبحَ مهرجاناً، مهرجاناً سنوياً يُحملُ اسمَ "مهرجانُ الكلمةِ والزيتون"، مهرجاناً يجمعُ شعراءَ، كتَّابَ، فنانينَ، مزارعينَ، أطفالاً، من كلِّ العالم. كانتْ تحملُ في يدها كتاباً جديداً، كتاباً عنوانُه "أغصانُ الأملِ الثانية"، كتاباً جمعَ قصصَ الخريجينَ الجدد، قصصَ الشفاءِ، قصصَ الحياة. فتحتْ الكتابَ، قرأتْ بصوتٍ عالٍ، صوتُها يترددُ فوقَ الأمواج: "كنتُ فتاةً في السابعةَ عشرة، عُرِّيتْ، ضُربتْ، اغتُصبتْ، صُوِّرتْ، أُذلَّتْ، لكنني لم أُكسر، كتبتُ، رويتُ، شهدتُ، زرعتُ، أحببتُ، عشتُ، أنجبتُ، علَّمتُ، انتصرتُ". توقفتْ، نظرتْ إلى زيتونةَ وخالدَ يرقصانِ مع الأطفال، إلى زوجها يضحكُ مع الشعراء، إلى الشجرِ الذي ينمو، إلى السماءِ التي أصبحتْ زرقاءَ، زرقاءَ كأملٍ لا ينتهي.

كانتْ تنامُ ليلاً في بيتها، بجانبِ عائلتها، تسمعُ أصواتَ الأطفالِ في الحديقة، أصواتَ الضحك، أصواتَ الأغاني، أصواتَ الحياة. كانتْ تحلمُ بحديقةٍ كبيرةٍ، حديقةٍ خضراءَ تمتدُّ من البحرِ إلى النهر، من النكبةِ إلى العودة، من الزنزانةِ إلى الحرية، من الجرحِ إلى الشفاء، من الموتِ إلى الحياة، من الظلامِ إلى النور، من الماضي إلى المستقبل. كانتْ تستيقظُ، تزرعُ، تُعلِّمُ، تروي، تكتبُ، تُحبُّ، تعيشُ. وفي عينيها، كانَ الضوءُ قد أصبحَ شمساً، شمسُ المقاومة، شمسُ الصمود، شمسُ الحرية، شمسُ فلسطين، شمسُ الإنسانية، شمسُ الأمل. ولين، في عريها السابق، في ألمها السابق، في دمها السابق، أصبحتْ أسطورةً، أسطورةَ الشفاء، أسطورةَ الحياة، أسطورةَ الأمل، أسطورةَ فلسطينَ التي تنبتُ، تنمو، تنتصر، تنتصرُ بالكلمة، بالشهادة، بالحياة، بالزيتون، بالأزهار، بالأطفال، بالمستقبل، بالأبد.



5

في صيفِ عامِ 2050، حينَ امتلأتْ سماءُ غزةَ بأسرابِ حمامٍ أبيضَ يحملُ في مناقيرهِ أغصانَ زيتونٍ صغيرةً كأنها رسائلُ سلامٍ من أرضٍ شفيتْ تماماً، وقفتْ لينُ على قمةِ تلٍّ يُطلُّ على فلسطينَ الكبرى، فلسطينَ التي أعيدَ بناؤها من كلماتٍ وأشجارٍ، من دموعٍ وثمارٍ، من جرحٍ وشفاءٍ. كانتْ في الرابعةِ والأربعينَ من عمرها، تجاعيدُ وجهها الآنَ خرائطُ حكمةٍ، خرائطُ طرقٍ سلكتها من الزنزانةِ إلى الحديقةِ العالميةِ، شعرُها الأسودُ المُفضَّضُ يتمايلُ مع نسمةِ البحرِ كأنه رايةُ انتصارٍ نهائيٍّ، عيناها الخضراوانِ تضحكانِ ضحكةً عميقةً، ضحكةً لا تعرفُ الخوفَ، لا تعرفُ الظلَّ، ضحكةً تنبتُ من الجرحِ الأولِ وتُثمرُ في كلِّ قلبٍ بشريٍّ. كانتْ ترتدي ثوباً أبيضَ طويلاً مطرَّزاً بأغصانِ زيتونٍ من ذهبٍ، ثوباً صمَّمتهُ زيتونةُ، ابنتُها البالغةُ الثانيةَ والعشرينَ، أستاذةُ الشعرِ في الجامعةِ، شاعرةُ العالمِ، امرأةٌ تحملُ في صوتها أناشيدَ أجيالٍ.

كانَ اليومُ افتتاحَ "مهرجانِ الكلمةِ والزيتونِ العالمي"، مهرجانٌ يُقامُ لأولِ مرةٍ خارجَ غزةَ، في حديقةِ الأممِ المتحدةِ في جنيفَ، حديقةٌ زُرعتْ بأشجارٍ من غزةَ، أشجارٌ أُرسلتْ كبذورٍ في صناديقَ صغيرةٍ، بذورٌ روتها دموعُ لينَ في البدايةِ، ثم دموعُ ملايينِ المتضامنينَ، ثم ماءُ التاريخِ نفسهِ. كانتْ لينُ تُلقي كلمةَ الافتتاحِ، ليس عبرَ الشاشةِ هذهِ المرةَ، بل واقفةً على منصةٍ من خشبِ زيتونٍ، أمامَ ملايينِ الحاضرينَ، ملايينِ الشاشاتِ، ملايينِ القلوبِ. لم تُقرأْ كلمتَها من ورقةٍ، بل انبثقتْ من صدرها كأنها نهرٌ من نورٍ: "أيها العالمُ، أنا لينُ، كنتُ فتاةً في السابعةَ عشرةَ، عُرِّيتْ، ضُربتْ، اغتُصبتْ، صُوِّرتْ، أُذلَّتْ، لكنني لم أُكسر. كتبتُ كلمةً، فانبثقتْ شجرةٌ، رويتُ جرحاً، فانبثقتْ حديقةٌ، شهدتُ على الجريمةِ، فانبثقَ عالمٌ جديدٌ. اليومَ، نحنُ هنا، ليس لنحتفلَ بانتصارِ فلسطينَ فحسب، بل لنحتفلَ بانتصارِ الإنسانيةِ، انتصارِ الكلمةِ على الزجاجةِ، انتصارِ الزيتونِ على الكلبِ، انتصارِ الضحكِ الحرِّ على الضحكِ الفاشيِّ، انتصارِ الحياةِ على الموت".

كانتْ زيتونةُ تقفُ إلى يسارِ أمِّها، تحملُ ديوانَها الرابعَ، ديواناً عنوانُه "حدائقُ العالم"، ديواناً يحتوي على قصيدةٍ طويلةٍ تُدعى "أمِّي فلسطين"، قصيدةٌ تروي رحلةَ لينَ من الزنزانةِ إلى هذهِ المنصةِ، ترويها كأسطورةٍ، كأنشودةٍ، كحقيقةٍ. بدأتْ تقرأُ بصوتٍ يملأُ السماءَ: "كنتِ في الظلامِ عاريةً، فصرتِ في النورِ مُثمرةً، كنتِ دماً، فصرتِ زيتاً يُضيءُ الكونَ، كنتِ صرخةً، فصرتِ سلاماً يعانقُ الأممَ، كنتِ جرحاً، فصرتِ حديقةً تمتدُّ من غزةَ إلى جنيفَ، من النكبةِ إلى العودةِ الكبرى". كانَ الحضورُ يبكونَ، يصفقونَ، يرقصونَ، يغنُّونَ، يرفعونَ أغصانَ زيتونٍ، أغصاناً أُرسلتْ من كلِّ قارةٍ، من كلِّ مدينةٍ، من كلِّ قلبٍ.

كانَ خالدُ، ابنُ لينَ البالغُ الخامسةَ عشرةَ، يقفُ إلى يمينِ أمِّهِ، يحملُ لوحةً كبيرةً، لوحةً تصورُ فلسطينَ كحديقةٍ واحدةٍ، غزةَ والضفةَ والقدسَ والجليلَ، كلُّها أشجارُ زيتونٍ، كلُّ شجرةٍ تحملُ وجهاً، وجهَ ناجٍ، وجهَ شهيدٍ، وجهَ طفلٍ، وجهَ لينَ في الوسطِ، تبتسمُ، تبتسمُ ابتسامةً صافيةً، ابتسامةً لم تُطفأ بالزجاجةِ، بالكلبِ، بالضحكِ الفاشيِّ، ابتسامةً تنبتُ من الجرحِ، من الدمِ، من الكلمةِ، من الزيتون. كانتْ لوحاتُه تُعرضُ في كلِّ مكانٍ، في المطاراتِ، في المحطاتِ، في المدارسِ، في البيوتِ، لوحاتٌ تُعلِّمُ الأطفالَ أن الفنَّ سلاحٌ، أن الرسمَ شهادةٌ، أن الصمودَ لوحةٌ.

كانَ زوجُ لينَ، عمدةُ فلسطينَ الجديدةِ، يقفُ خلفَ العائلةِ، يبتسمُ، يبتسمُ لأنه يرى في زيتونةِ وخالدِ مستقبلَ فلسطينَ، في لينَ تاريخَ فلسطينَ، في الحديقةِ حاضرَ فلسطينَ. كانَ يُديرُ الآنَ شبكةَ مزارعَ عضويةٍ تمتدُّ من رفحَ إلى جنينَ، مزارعَ تُصدِّرُ زيتَ الزيتونِ، تمرَ العجمي، ليمونَ، برتقالَ، إلى كلِّ العالمِ، منتجاتٌ تحملُ علامةً تجاريةً واحدةً: "منتوجاتُ الصمود"، منتجاتٌ تُستخدمُ في كلِّ مطبخٍ، في كلِّ علاجٍ، في كلِّ احتفالٍ، منتجاتٌ تحملُ في طعمها قصةَ الجرحِ والشفاءِ، قصةَ فلسطين.

في لاهايَ، كانتْ هناكَ نصبٌ تذكاريٌّ عملاقٌ، نصبٌ من حجرٍ أبيضَ وذهبٍ، عليهِ نقشٌ لشجرةِ زيتونٍ عملاقةٍ، جذورُها تمتدُّ في الأرضِ، أغصانُها تمتدُّ في السماءِ، وتحتَها كلماتُ لينَ الأخيرةُ: "الزيتونُ لا يموتُ، الزيتونُ يُثمرُ، الزيتونُ ينتصرُ، فلسطينُ لا تموتُ، فلسطينُ تُثمرُ، فلسطينُ تنتصرُ". كانتْ السياحُ يأتونَ بالملايينِ، يضعونَ أغصانَ زيتونٍ، يقرأونَ الكتبَ، يشاهدونَ الأفلامَ، يستمعونَ إلى الأغانيَ، يتعلمونَ أن الجريمةَ لم تنتهِ، لكن الشفاءَ انتصرَ، أن الظلمَ لم يُمحَ، لكن العدالةَ ازدهرتْ.

في غزةَ، كانتْ الجامعةُ قد أصبحتْ عاصمةَ المعرفةِ في الشرقِ الأوسطِ، عاصمةً من المعرفةِ والزيتونِ، مبانٍ بيضاءُ، حدائقُ خضراءُ، مكتباتُ ضخمةُ، معاملُ بحثٍ، مسارحُ، قاعاتُ موسيقى، قاعاتُ رقصٍ، قاعاتُ شفاءٍ. كانتْ هناكَ كليةٌ للطبِّ النفسيِّ، كليةٌ تُعالجُ الجراحَ النفسيةَ بالكتابةِ، بالزراعةِ، بالموسيقى، بالرقصِ، كليةٌ أسَّستها لينَ، كليةٌ تُدرِّسُ أن الشفاءَ ليسَ دواءً فحسب، بل كلمةً، شجرةً، أغنيةً، رقصةً. كانتْ هناكَ كليةٌ للفنونِ، كليةٌ يرسمُ فيها خالدُ، ينحتُ، يصممُ، يصوِّرُ أفلاماً، كليةٌ تُنتجُ أعمالاً فنيةً تروي قصةَ الصمودِ، قصةَ الشفاءِ، قصةَ الحياةِ، قصةَ فلسطين.

كانتْ لينُ تُديرُ ورشةً يوميةً، ورشةً تُدعى "اكتبْ مستقبلك"، ورشةً يجلسُ فيها المشاركونَ تحتَ الأشجارِ، يكتبونَ عن أحلامهم، عن خوفهم، عن أملهم، عن مستقبلهم، يكتبونَ ويزرعونَ شجرةً بكلِّ صفحةٍ، شجرةً تُروى بماءِ أحلامهم، تُثمرُ زيتوناً يُقطفُ في احتفالٍ سنويٍّ، احتفالٍ يُحملُ اسمَ "عيدِ المستقبل". كانتْ زيتونةُ تُديرُ ورشةً موازيةً، ورشةً تُدعى "غنِّ أملك"، ورشةً يغنِّي فيها المشاركونَ، يرقصونَ، يُحوِّلونَ ألمهم إلى لحنٍ، إلى إيقاعٍ، إلى رقصةٍ، إلى أملٍ.

في يومٍ مشمسٍ، وقفتْ لينُ أمامَ بحرِ غزةَ، بحرٍ أصبحَ رمزاً عالمياً، رمزاً للحريةِ، للسلامِ، للشفاءِ. كانتْ تحملُ في يدها كتاباً جديداً، كتاباً عنوانُه "أغصانُ الأملِ الثالثة"، كتاباً جمعَ قصصَ الأجيالِ الجديدةِ، قصصَ الشفاءِ، قصصَ الحياةِ، قصصَ المستقبل. فتحتْ الكتابَ، قرأتْ بصوتٍ عالٍ، صوتُها يترددُ فوقَ الأمواجِ، فوقَ الأشجارِ، فوقَ القلوبِ: "كنتُ فتاةً في السابعةَ عشرةَ، عُرِّيتْ، ضُربتْ، اغتُصبتْ، صُوِّرتْ، أُذلَّتْ، لكنني لم أُكسر، كتبتُ، رويتُ، شهدتُ، زرعتُ، أحببتُ، عشتُ، أنجبتُ، علَّمتُ، انتصرتُ، وها أنا الآنَ أراكم، أراكم تُثمرونَ، تُضيئونَ، تُغنُّونَ، تنتصرونَ". توقفتْ، نظرتْ إلى زيتونةَ وخالدَ يقفانِ بجانبِها، إلى زوجها يضحكُ مع الأطفالِ، إلى الشجرِ الذي ينمو، إلى السماءِ التي أصبحتْ زرقاءَ، زرقاءَ كأملٍ لا ينتهي، كحريةٍ لا تُقهر.

كانتْ تنامُ ليلاً في بيتها، بجانبِ عائلتها، تسمعُ أصواتَ الأطفالِ في الحديقةِ، أصواتَ الضحكِ، أصواتَ الأغانيِ، أصواتَ الرقصِ، أصواتَ الحياةِ. كانتْ تحلمُ بحديقةٍ كبيرةٍ، حديقةٍ خضراءَ تمتدُّ من البحرِ إلى النهرِ، من النكبةِ إلى العودةِ الكبرى، من الزنزانةِ إلى الحريةِ الأبديةِ، من الجرحِ إلى الشفاءِ الكاملِ، من الموتِ إلى الحياةِ الأبديةِ، من الظلامِ إلى النورِ الأزليِّ، من الماضي إلى المستقبلِ الأبديِّ. كانتْ تستيقظُ، تزرعُ، تُعلِّمُ، تروي، تكتبُ، تُحبُّ، تعيشُ، تنتصرُ. وفي عينيها، كانَ الضوءُ قد أصبحَ شمساً، شمسُ المقاومةِ، شمسُ الصمودِ، شمسُ الحريةِ، شمسُ فلسطينَ، شمسُ الإنسانيةِ، شمسُ الأملِ، شمسُ الأبد. ولين، في عريها السابقِ، في ألمها السابقِ، في دمها السابقِ، أصبحتْ أسطورةً، أسطورةَ الشفاءِ، أسطورةَ الحياةِ، أسطورةَ الأملِ، أسطورةَ فلسطينَ التي تنبتُ، تنمو، تنتصرُ، تنتصرُ بالكلمةِ، بالشهادةِ، بالحياةِ، بالزيتونِ، بالأزهارِ، بالأطفالِ، بالمستقبلِ، بالأبدِ، بالنور.



6

في خريفِ عامِ 2055، حينَ تساقطتْ أوراقُ الزيتونِ الذهبيةُ على تربةِ فلسطينَ كأنها رسائلُ شكرٍ من الأرضِ إلى السماءِ، جلستْ لينُ على كرسيٍّ من خشبِ زيتونٍ منحوتٍ يدوياً في وسطِ ساحةِ الجامعةِ الكبرى، ساحةٍ أصبحتْ قلبَ العالمِ النابض، قلباً يضخُّ معرفةً وأملاً وزيتاً إلى كلِّ شرايينِ الكوكب. كانتْ في التاسعةِ والأربعينَ من عمرها، تجاعيدُ وجهها الآنَ أنهارُ ذهبيةٌ من حكمةٍ، شعرُها الفضيُّ يتدفَّقُ كشلالٍ من نورٍ، عيناها الخضراوانِ تضحكانِ ضحكةً أبديةً، ضحكةً لا تعرفُ نهايةً، ضحكةً تنبتُ من كلِّ جرحٍ شفيَ، من كلِّ دمعةٍ تحولتْ إلى ثمرةٍ، من كلِّ كلمةٍ أصبحتْ شجرةً. كانتْ ترتدي رداءً أبيضَ مطرَّزاً بأغصانِ زيتونٍ من حريرٍ، رداءً صمَّمتهُ زيتونةُ، ابنتُها البالغةُ السابعةَ والعشرينَ، أيقونةُ الشعرِ العالميِّ، أمٌّ لثلاثةِ أطفالٍ، معلمةُ أجيالٍ، امرأةٌ تحملُ في صوتها أناشيدَ الخلقِ كلِّه.

كانَ اليومُ تتويجَ "عيدِ الزيتونِ الأبدي"، عيدٌ يُحتفلُ بهِ في كلِّ قارةٍ، في كلِّ مدينةٍ، في كلِّ قريةٍ، عيدٌ بدأَ في غزةَ قبلَ نصفِ قرنٍ وانتشرَ كالنارِ في الهشيمِ الخصبِ، نارٍ من أملٍ، نارٍ من زيتٍ، نارٍ من كلماتٍ. كانتْ لينُ تُلقي كلمةَ الختامِ، ليس كعميدةٍ، ليس كبطلةٍ، بل كشجرةٍ أمٍّ، شجرةٍ جذورُها في الزنزانةِ، أغصانُها في السماءِ، ثمارُها في كلِّ فمٍ بشريٍّ. لم تُقرأْ كلمتَها، بل غنَّتْها، غنَّتْها كأنشودةٍ قديمةٍ جديدةٍ: "أيها العالمُ، أنا لينُ، كنتُ فتاةً في السابعةَ عشرةَ، عُرِّيتْ، ضُربتْ، اغتُصبتْ، صُوِّرتْ، أُذلَّتْ، لكنني لم أُكسر. كتبتُ كلمةً، فنبتتْ غابةٌ، رويتُ دمعةً، فسالَ نهرٌ، شهدتُ على الظلمِ، فانبثقَ عالمٌ. اليومَ، نحنُ لسنا فلسطينَ فحسب، نحنُ الإنسانيةُ، نحنُ الكلمةُ التي انتصرتْ على الزجاجةِ، الزيتونُ الذي انتصرَ على الكلبِ، الضحكُ الحرُّ الذي انتصرَ على الضحكِ الفاشيِّ، الحياةُ التي انتصرتْ على الموتِ، الأملُ الذي انتصرَ على اليأسِ، الأبدُ الذي انتصرَ على الزمن".

كانتْ زيتونةُ تقفُ إلى جانبِ أمِّها، تحملُ طفلَها الأصغرَ في أحضانها، طفلاً سُمِّيَ "لين" تيمُّناً بجدَّتهِ، طفلاً يضحكُ ضحكةً تشبهُ صوتَ المطرِ على أوراقِ الزيتونِ الأبديةِ. كانتْ تقرأُ قصيدةً جديدةً، قصيدةً عنوانُها "أمِّي الكون"، تقولُ فيها: "كنتِ في الزنزانةِ عاريةً، فصرتِ في الكونِ مُثمرةً، كنتِ دماً، فصرتِ زيتاً يُضيءُ المجراتِ، كنتِ صرخةً، فصرتِ سلاماً يعانقُ النجومَ، كنتِ جرحاً، فصرتِ حديقةً تمتدُّ من الأرضِ إلى السماءِ، من الماضي إلى الأبد". كانَ الحضورُ، ملايينُ في الساحةِ، ملياراتُ أمامَ الشاشاتِ، يغنُّونَ معها، يرقصونَ، يرفعونَ أغصانَ زيتونٍ، أغصاناً أُرسلتْ من كلِّ كوكبٍ حضاريٍّ، من كلِّ قلبٍ بشريٍّ.

كانَ خالدُ، ابنُ لينَ البالغُ العشرينَ، يقفُ على منصةٍ جانبيةٍ، يعرضُ فيلماً وثائقياً جديداً، فيلماً عنوانُه "من الزنزانةِ إلى المجرة"، فيلماً يروي رحلةَ أمِّهِ، رحلةَ فلسطينَ، رحلةَ الإنسانيةَ، يرويها بصورٍ من الركامِ إلى الحدائقِ، من الدمِ إلى الزيتِ، من الصرخةِ إلى الأنشودةِ. كانتْ كاميراتُه تطيرُ فوقَ غاباتِ الزيتونِ، فوقَ مدنِ المعرفةِ، فوقَ أطفالٍ يولدونَ في عالمٍ لا يعرفُ الزنزانةَ، عالمٌ أصبحَ حديقةً كبرى، حديقةً تمتدُّ من الأرضِ إلى القمرِ، إلى المريخِ، إلى النجومِ. كانتْ أفلامه تُعرضُ في كلِّ سينما، في كلِّ مدرسةٍ، في كلِّ بيتٍ، أفلامٌ تُعلِّمُ الأطفالَ أن الفنَّ شهادةٌ، أن الصورةَ سلاحٌ، أن الصمودَ فيلمٌ.

كانَ زوجُ لينَ، رئيسُ فلسطينَ المتحدةِ الآنَ، يقفُ خلفَ العائلةِ، يبتسمُ، يبتسمُ لأنه يرى في زيتونةِ وخالدِ وأحفادهِ مستقبلَ الكونِ، في لينَ تاريخَ الكونِ، في الحديقةِ حاضرَ الكونِ. كانَ يُديرُ الآنَ شبكةَ كواكبَ زراعيةً، كواكبَ تُزرعُ بالزيتونِ، بالكلمةِ، بالأملِ، كواكبَ تُصدِّرُ زيتَ الصمودِ إلى المجراتِ، زيتاً يُستخدمُ في مطابخِ المستعمراتِ الفضائيةِ، في علاجِ الجروحِ النفسيةِ لروَّادِ الفضاءِ، في إضاءةِ المصابيحِ في احتفالاتِ عيدِ الزيتونِ على سطحِ القمرِ.

في جنيفَ، كانتْ هناكَ حديقةٌ كونيةٌ، حديقةٌ زُرعتْ تحتَ قبةٍ زجاجيةٍ عملاقةٍ، حديقةٌ تحتوي على شجرةٍ من كلِّ كوكبٍ، لكن شجرةَ الزيتونِ من غزةَ كانتْ في الوسطِ، شجرةٌ عملاقةٌ، جذورُها في تربةِ الأرضِ، أغصانُها تمتدُّ إلى السماءِ الاصطناعيةِ، ثمارُها تُقطفُ وتُرسلُ إلى كلِّ مستعمرةٍ فضائيةٍ. كانتْ هناكَ لوحةٌ تذكاريةٌ، لوحةٌ تحملُ وجهَ لينَ، وجهَ زيتونةَ، وجهَ خالدَ، وجهَ فلسطينَ، لوحةٌ تقولُ: "من الزنزانةِ إلى المجرةِ، من الجرحِ إلى الشفاءِ الكونيِّ، من الموتِ إلى الحياةِ الأبديةِ".

في غزةَ، كانتْ الجامعةُ قد أصبحتْ مركزَ الكونِ، مركزَ المعرفةِ والزيتونِ والأملِ، مبانٍ تطيرُ، حدائقُ معلقةُ، مكتباتُ رقميةُ تمتدُّ إلى السحابِ، معاملُ بحثٍ تُطورُ بذرَ زيتونٍ ينمو في الفضاءِ، مسارحُ تُعرضُ فيها أفلامُ خالدَ، قاعاتُ موسيقى تُغنِّي فيها أحفادُ زيتونةَ، قاعاتُ رقصٍ تُرقصُ فيها أجيالٌ جديدةٌ. كانتْ هناكَ كليةٌ للطبِّ الكونيِّ، كليةٌ تُعالجُ الجراحَ النفسيةَ بالكتابةِ، بالزراعةِ الفضائيةِ، بالموسيقىِ الكونيةِ، بالرقصِ بينَ النجومِ.

كانتْ لينُ تُديرُ ورشةً أسبوعيةً، ورشةً تُدعى "اكتبْ كونك"، ورشةً يجلسُ فيها المشاركونَ تحتَ قبةٍ زجاجيةٍ، يكتبونَ عن أحلامهم الكونيةِ، عن خوفهم من الفراغِ، عن أملهم في النجومِ، يكتبونَ ويزرعونَ بذرةً في تربةٍ فضائيةٍ، بذرةً تُروى بماءِ أحلامهم، تُثمرُ زيتوناً يُقطفُ في احتفالٍ كونيٍّ، احتفالٍ يُحملُ اسمَ "عيدِ الكون". كانتْ زيتونةُ تُديرُ ورشةً موازيةً، ورشةً تُدعى "غنِّ مجرتك"، ورشةً يغنِّي فيها المشاركونَ، يرقصونَ بينَ النجومِ، يُحوِّلونَ ألمهم إلى لحنٍ كونيٍّ، إلى إيقاعٍ مجريٍّ، إلى رقصةٍ بينَ الكواكبِ.

في يومٍ مشمسٍ، وقفتْ لينُ أمامَ بحرِ غزةَ، بحرٍ أصبحَ بوابةً كونيةً، بوابةً تُطلقُ منها سفنُ الفضاءِ، سفنٌ تحملُ بذورَ زيتونٍ، كتبَ لينَ، أفلامَ خالدَ، أغانيَ زيتونةَ، سفنٌ تُزرعُ حدائقَ في المريخِ، في القمرِ، في الكواكبِ البعيدةِ. كانتْ تحملُ في يدها كتاباً أخيراً، كتاباً عنوانُه "أغصانُ الأملِ الأبدية"، كتاباً جمعَ قصصَ الكونِ كلِّهِ، قصصَ الشفاءِ الكونيِّ، قصصَ الحياةِ الأبديةِ، قصصَ المستقبلِ الأزليِّ. فتحتْ الكتابَ، قرأتْ بصوتٍ عالٍ، صوتُها يترددُ فوقَ الأمواجِ، فوقَ الأشجارِ، فوقَ القلوبِ، فوقَ النجومِ: "كنتُ فتاةً في السابعةَ عشرةَ، عُرِّيتْ، ضُربتْ، اغتُصبتْ، صُوِّرتْ، أُذلَّتْ، لكنني لم أُكسر، كتبتُ، رويتُ، شهدتُ، زرعتُ، أحببتُ، عشتُ، أنجبتُ، علَّمتُ، انتصرتُ، وها أنا الآنَ أراكم، أراكم تُثمرونَ في المجراتِ، تُضيئونَ الكونَ، تُغنُّونَ الأبدَ، تنتصرونَ في الأزل". توقفتْ، نظرتْ إلى زيتونةَ وخالدَ وأحفادَها يرقصونَ بينَ النجومِ، إلى زوجها يضحكُ مع روَّادِ الفضاءِ، إلى الشجرِ الذي ينمو في الكواكبِ، إلى السماءِ التي أصبحتْ حديقةً، حديقةً خضراءَ تمتدُّ من الأرضِ إلى الأبد.

كانتْ تنامُ ليلاً في بيتها، بجانبِ عائلتها، تسمعُ أصواتَ الأطفالِ في الحدائقِ الكونيةِ، أصواتَ الضحكِ، أصواتَ الأغانيِ، أصواتَ الرقصِ، أصواتَ الحياةِ الأبديةِ. كانتْ تحلمُ بحديقةٍ كونيةٍ، حديقةٍ خضراءَ تمتدُّ من البحرِ إلى المجرةِ، من النكبةِ إلى العودةِ الكونيةِ، من الزنزانةِ إلى الحريةِ الأبديةِ، من الجرحِ إلى الشفاءِ الكونيِّ، من الموتِ إلى الحياةِ الأبديةِ، من الظلامِ إلى النورِ الأزليِّ، من الماضي إلى المستقبلِ الأبديِّ، من الأرضِ إلى الكونِ. كانتْ تستيقظُ، تزرعُ في الكواكبِ، تُعلِّمُ الأجيالَ الكونيةَ، تروي بماءِ الأملِ، تكتبُ في النجومِ، تُحبُّ الكونَ، تعيشُ الأبدَ، تنتصرُ في الأزل. وفي عينيها، كانَ الضوءُ قد أصبحَ كوناً، كونُ المقاومةِ، كونُ الصمودِ، كونُ الحريةِ، كونُ فلسطينَ، كونُ الإنسانيةِ، كونُ الأملِ، كونُ الأبدِ، كونُ النور. ولين، في عريها السابقِ، في ألمها السابقِ، في دمها السابقِ، أصبحتْ أسطورةً كونيةً، أسطورةَ الشفاءِ الكونيِّ، أسطورةَ الحياةِ الأبديةِ، أسطورةَ الأملِ الأزليِّ، أسطورةَ فلسطينَ التي تنبتُ في المجراتِ، تنمو في النجومِ، تنتصرُ في الأبدِ، تنتصرُ بالكلمةِ، بالشهادةِ، بالحياةِ، بالزيتونِ، بالأزهارِ، بالأطفالِ، بالمستقبلِ، بالأبدِ، بالنورِ، بالكون.



ملخص عن الرواية :


في قلبِ الركامِ الذي غطَّى غزةَ كغيمةٍ سوداءَ بعدَ قصفٍ لا ينتهي، ولدتْ قصةُ لينَ، فتاةٍ في السابعةَ عشرةَ من عمرها، فتاةٌ كانتْ تملكُ عينينِ خضراوينِ كأوراقِ الزيتونِ في الربيعِ، وروحاً أقوى من الدباباتِ التي دمَّرتْ بيتَها. بدأتْ الروايةُ في زنزانةٍ مظلمةٍ، زنزانةٍ من جدرانٍ خرسانيةٍ باردةٍ، رائحةُ العرقِ المتعفنِ والسائلِ المنويِّ والصديدِ والبولِ والقيءِ تملأُ الهواءَ كلعنةٍ أبديةٍ، زنزانةٍ حيثُ عُرِّيتْ لينُ، ضُربتْ، اغتُصبتْ بزجاجةٍ مكسورةٍ، بكلبٍ مدرَّبٍ، بأيدي جنودٍ يضحكونَ ضحكاً فاشياً يعلو كأناشيدَ انتصارٍ، يصوِّرونَ كلَّ لحظةٍ بكاميراتِ هواتفهم، يُذلُّونَ جسداً صغيراً، يحاولونَ كسرَ روحٍ. لكن لينَ لم تُكسرْ، في تلكَ الزنزانةِ، وسطَ البردِ الذي يتسللُ إلى العظامِ، والجوعِ الذي يعصرُ المعدةَ، والعيونِ التلصصيةِ من فتحةِ البابِ، بدأتْ تكتبُ في ذهنها، تكتبُ كلماتٍ من قرفٍ، من ألمٍ، من دمٍ، كلماتٍ ستُصبحُ سلاحاً، درعاً، ثورةً.

خرجتْ لينُ من الزنزانةِ بعدَ أسابيعَ، جسدها مُشوَّهٌ، مُمزَّقٌ، دامٍ، لكن روحها مشتعلةً بنارِ المقاومةِ. عادتْ إلى خيمةٍ مهترئةٍ في مخيمٍ للنازحينَ، خيمةٌ تحيطُ بها إخوتها الصغارُ، أطفالٌ جائعونَ، خائفونَ، لكنهم ينظرونَ إليها كأنها بطلةٌ. هناكَ، على ورقةٍ صغيرةٍ مسروقةٍ من دفترِ مدرسةٍ مدمَّرةٍ، كتبتْ شهادتها، كتبتْ عن الزجاجةِ، عن الكلبِ، عن الضحكِ، عن الكاميراِ، كتبتْ بقلمٍ مكسورٍ، بحبرٍ من دمها ودموعها، كتبتْ كلماتٍ تُحرقُ الضمائرَ، تُحرقُ الأكاذيبَ، تُحرقُ الوحشَ. أرسلتْ الورقةَ إلى صحفيٍّ سريٍّ، صحفيٍّ كانَ يجمعُ شهاداتِ الناجينَ، ومن هناكَ بدأتْ الثورةُ، ثورةُ الكلمةِ.

انتشرتْ الشهادةُ كالنارِ في الهشيمِ، تُرجمتْ إلى عشراتِ اللغاتِ، تُطبعُ في صحفٍ كبرى، تُعرضُ على شاشاتٍ عملاقةٍ في ميادينِ عواصمَ بعيدةٍ، تُقرأُ بصوتٍ مرتجفٍ في برلماناتٍ، في جامعاتٍ، في مساجدَ وكنائسَ ومعابدَ. في جنيفَ، بكى محققونَ دوليونَ وهم يقرأونَ عن الزجاجةِ، عن الكلبِ، عن الضحكِ، كتبوا تقريراً سميكاً يُثبتُ النظامَ الفاشيَّ الذي يُدرِّبُ الجنودَ على الإذلالِ، على الاغتصابِ، على التصويرِ. في واشنطنَ، وقفتْ نائبةٌ شابةٌ من أصلٍ فلسطينيٍّ تقرأُ الشهادةَ في الكونغرسِ، ف عمَّ الصمتُ، ثم انفجرتْ الأسئلةُ عن التمويلِ، عن السلاحِ، عن الصمتِ. في غزةَ، أصبحتْ لينُ رمزاً، رمزاً للصمودِ، للمقاومةِ، للشهادةِ، يزورها صحفيونَ، ناشطونَ، محامونَ دوليونَ، يستمعونَ إليها وهي تروي بصوتٍ هادئٍ، صوتٍ لا يبكي، صوتٍ يشهدُ.

في تل أبيبَ، انتشرَ الذعرُ، أوامرٌ بإغلاقِ الحساباتِ، بحذفِ الصورِ، بإسكاتِ الأصواتِ، لكن الأصواتَ انتشرتْ، جنديٌّ يرتجفُ في غرفتهِ، يرى وجهَ لينَ في كوابيسهِ، وجهَ لينَ الذي لم يرهُ لكنه يعرفُ أنها تراهُ. في لاهايَ، فُتحَ ملفٌ سميكٌ، آلافُ الشهاداتُ، آلافُ الأسماءُ، آلافُ الصورُ، آلافُ الأفلامُ، بدأَ التحقيقُ، بدأَ جمعُ الأدلةُ، بدأَ البحثُ عن الجنودِ، عن القادةِ. شهدتْ لينُ عبرَ الفيديو، صوتُها يُحرقُ الضمائرَ، فأصدرتْ المحكمةُ أوامرَ اعتقالٍ، سُحبَ جنودٌ من منازلهم، ضباطٌ من مكاتبهم، قادةٌ من قصورهم، سُيقوا إلى لاهايَ مكبَّلينَ، مُذلَّلينَ، مُجبرينَ على مواجهةِ الأفلامِ التي صوَّروها بأنفسهم.

في غزةَ، بدأتْ لينُ تزرعُ، تزرعُ شجرةَ زيتونٍ صغيرةً في الركامِ، ترويها بماءِ دموعها، تُعلِّمُ إخوتها القراءةَ، الكتابةَ، الصمودَ. بنى متطوعونَ بيتاً صغيراً من الطوبِ، حديقةً صغيرةً، مركزاً للدعمِ النفسيِّ، مركزاً يُعلِّمُ الناجينَ الكتابةَ، الروايةَ، الشهادةَ. انتشرتْ المظاهراتُ في العالمِ، ملايينُ في الشوارعِ، يحملونَ لافتاتٍ "الاغتصابُ ليس دفاعاً عن النفس"، قاطعتْ الشركاتُ، أغلقتْ البنوكُ، ألغتْ الجامعاتُ، رفضَ الرياضيونَ، غنَّى الفنانونَ. أشعلتْ لينُ شرارةً من كلماتٍ، من قرفٍ، من ألمٍ، شرارةً أصبحتْ حريقاً عالمياً.

مع مرورِ السنينِ، صدرتْ الأحكامُ، سجنٌ مؤبدٌ، تعويضاتٌ، إعادةُ إعمارٍ، اعتذاراتٌ رسميةٌ. تحولَ بيتُ لينَ إلى مدرسةٍ، مدرسةٌ تحتَ السماءِ، كتبُها رواياتُ الناجينَ. أصبحتْ لينُ أماً، أنجبتْ زيتونةَ، ثم خالدَ، عاشتْ مع زوجٍ عادَ من السجنِ بظهرٍ مُندَبٍ لكنه قلبٌ مُثمرٌ. توسَّعتْ المدرسةُ إلى جامعةٍ، جامعةُ "الكلمةِ والزيتون"، مبانٍ من حجرٍ أبيضَ، حدائقُ خضراءُ، طلابٌ من كلِّ العالمِ يدرسونَ الروايةَ كسلاحٍ، الشهادةَ كدرعٍ. كانتْ لينُ تُدرِّسُ "من الجرحِ إلى الحديقة"، مادةً تجمعُ الأدبَ بالزراعةِ، تُعلِّمُ الطلابَ كتابةَ ألمهم ثم زراعةَ شجرةٍ بكلِّ صفحةٍ.

امتدَّتْ الحدائقُ، حدائقُ زيتونٍ في كلِّ مدينةٍ، في كلِّ قارةٍ، تحملُ اسمَ لينَ، اسمَ فلسطينَ. أصدرتْ زيتونةُ دواوينَ شعرٍ، أصبحتْ شاعرةً عالميةً، كتبتْ عن أمِّها كشجرةٍ لا تنكسرُ. رسمَ خالدُ لوحاتٍ، لوحاتٌ تصورُ الحديقةَ كجسدٍ ينمو، عُرضتْ في معارضَ عالميةٍ. أصبحَ زوجُ لينَ عمدةً، ثم رئيساً، أدارَ مزارعَ عضويةً تُصدِّرُ زيتَ الصمودِ. رفضتْ لينُ الجوائزَ، قالتْ: "الشجاعةُ للآلافِ، لفلسطينَ". كتبتْ كتباً، "من الزنزانةِ إلى الحديقة"، ثم "أغصانُ الأمل"، كتبٌ تُدرَّسُ في المدارسِ، تُترجمُ إلى مئةِ لغةٍ.

في عامِ 2040، احتفلتْ الجامعةُ بتخريجِ دفعاتٍ، زيتونةُ تُلقي محاضراتٍ، خالدُ يرسمُ، لينُ تُغنِّي أناشيدَ الصمودِ. امتدَّتْ فلسطينُ، من رفحَ إلى جنينَ، حدائقٌ، مدنُ معرفةٍ، بحرٌ حرٌّ. في 2045، أصبحَ المهرجانُ عالمياً، في جنيفَ، لينُ تُلقي كلمةً أمامَ ملايينِ، زيتونةُ تقرأُ شعراً، خالدُ يعرضُ أفلاماً. في 2050، أصبحَ المهرجانُ كونياً، سفنُ فضاءٍ تحملُ بذورَ زيتونٍ إلى القمرِ، إلى المريخِ. في 2055، أصبحَ عيدُ الزيتونِ الأبديُّ عيداً كونياً، لينُ تُغنِّي أنشودةَ الخلقِ، زيتونةُ تقرأُ قصيدةَ الكونِ، خالدُ يعرضُ فيلماً عن المجرةِ، فلسطينُ حديقةٌ تمتدُّ من الأرضِ إلى النجومِ.

كانتْ لينُ، في عريها السابقِ، في ألمها السابقِ، في دمها السابقِ، قد تحولتْ إلى أسطورةٍ كونيةٍ، أسطورةَ الشفاءِ، الحياةِ، الأملِ، فلسطينَ التي تنبتُ في المجراتِ، تنمو في النجومِ، تنتصرُ في الأبدِ بالكلمةِ، بالشهادةِ، بالزيتونِ، بالأطفالِ، بالمستقبلِ، بالكونِ. من الزنزانةِ إلى المجرةِ، من الجرحِ إلى الشفاءِ الكونيِّ، من الموتِ إلى الحياةِ الأبديةِ، هكذا كانتْ رحلةُ لينَ، رحلةُ فلسطينَ، رحلةُ الإنسانيةِ، رحلةُ كلمةٍ واحدةٍ كتبتها فتاةٌ مُمزَّقةٌ، كلمةٌ أنقذتْ العالمَ، أنقذتْ الكونَ، أنقذتْ الأبدَ.



#احمد_صالح_سلوم (هاشتاغ)       Ahmad_Saloum#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الصين: أمل البشرية في اشتراكية عالمية
- العقوبات: مِعول السيادة
- إمبراطوريات إبداعية بلا متاعب
- سلاح الكرامة والسيادة في مواجهة نفق الدولة الفاشلة
- «الجنجويد والدعم السريع: استعمار جديد في السودان»..ملخص كتاب ...
- من تأسيس الكيان الوهابي الى غرف الموك وخلايا التجسس في اليمن
- خرافة الاقتصاد الإسلامي: أسطورة خليجية في خدمة الإمبراطورية ...
- فخ أوكرانيا: دروس التاريخ تتحدث، والناتو يستمع بصمت
- خيانة مقنعة: رفع العقوبات ودورة النهب الاستعماري
- خوارزميات الاحتكارات الأمريكية: حرب منهجية على الوعي الاجتما ...
- محميات الخليج: بيادق وول ستريت في مسرح العرائس الصهيوني وفشل ...
- طوفان الأقصى وانهيار الهوية الاقتصادية الإسرائيلية: هزيمة اس ...
- زهران ممداني: رمز الاشتراكية عالمية الطابع وفرصة أمريكا الأخ ...
- الإبادة الجماعية في غزة: حفلة تنكرية للأشرار الكبار
- العناصر النادرة: سيف الصين الأخلاقي أمام فظاعة الإبادة الجما ...
- كيف تحول ملوك سومر وبابل إلى أنبياء في الروايات اللاحقة
- انهيار الإمبراطورية الأمريكية وانسحابها من عرش العالم..بداية ...
- بلجيكا على حافة الهاوية: حكومة دي ويفر تواجه غضب الشعب وتهدي ...
- الإبادة الجماعية في غزة: تقرير الأمم المتحدة يكشف تواطؤ ستين ...
- كتيب : تشريح النظام العالمي: الجذور الخفية للهيمنة وخريطة ال ...


المزيد.....




- مصر.. إصابة الفنان أحمد سعد في ظهرة ومنطقة الفقرات بحادث سير ...
- أول تعليق لترامب على اعتذار BBC بشأن تعديل خطابه في الفيلم ا ...
- من الوحش إلى البطل.. كيف غير فيلم -المفترس: الأراضي القاحلة- ...
- من الوحش إلى البطل.. كيف غير فيلم -المفترس: الأراضي القاحلة- ...
- لقاء خاص مع الممثل المصري حسين فهمي مدير مهرجان القاهرة السي ...
- الممثل جيمس فان دير بيك يعرض مقتنياته بمزاد علني لتغطية تكال ...
- ميرا ناير.. مرشحة الأوسكار ووالدة أول عمدة مسلم في نيويورك
- لا خلاص للبنان الا بدولة وثقافة موحدة قائمة على المواطنة
- مهرجان الفيلم الدولي بمراكش يكشف عن قائمة السينمائيين المشار ...
- جائزة الغونكور الفرنسية: كيف تصنع عشرة يوروهات مجدا أدبيا وم ...


المزيد.....

- الذين باركوا القتل رواية ... / رانية مرجية
- المسرواية عند توفيق الحكيم والسيد حافظ. دراسة في نقاء الفنون ... / د. محمود محمد حمزة
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة. الطبعة الثانية / د. أمل درويش
- مشروع مسرحيات مونودراما للسيد حافظ. اكسبريو.الخادمة والعجوز. ... / السيد حافظ
- إخترنالك:مقال (الثقافة والاشتراكية) ليون تروتسكي. مجلة دفاعا ... / عبدالرؤوف بطيخ
- المرجان في سلة خوص كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- بيبي أمّ الجواريب الطويلة / استريد ليندجرين- ترجمة حميد كشكولي
- قصائد الشاعرة السويدية كارين بوي / كارين بوي
- ترجعين نرجسة تخسرين أندلسا / د. خالد زغريت
- الممالك السبع / محمد عبد المرضي منصور


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - احمد صالح سلوم - رواية : شجرةُ لينَ تُضيءُ الكونَ