محمود كلّم
(Mahmoud Kallam)
الحوار المتمدن-العدد: 8514 - 2025 / 11 / 2 - 15:08
المحور:
القضية الفلسطينية
كلّما عاهدوا عهداً نبذه فريقٌ منهم...
ليست آيةً من كتابٍ نقرؤها في لحظة خشوعٍ فحسب، بل واقعٌ يوميّ تعيشه غزّة منذ عقود.
كيانٌ لا يعرف العهد، ولا يحترم الميثاق؛ يكتب اتفاقاته بالحبر، ثم يمحوها بالنار، وكأنّ الكلمة لا تملك وزنها إلا ما دامت فوهةُ البندقية صامتة.
غزّة التي وعدوها بالهدنة مراراً، لم تعرف من الهدن إلا الهدم.
في كلّ مرةٍ تُعلن فيها "التهدئة"، تبدأ ساعةٌ جديدةٌ من العدوان،
وفي كلّ مرةٍ يُقال فيها إنّ الحرب انتهت، تبدأ حربٌ أخرى بصمتٍ أشدّ قسوة.
هنا في هذا الركن الصغير من البحر، تختبر الإنسانيّة معناها الحقيقي.
مدينةٌ محاصرةٌ بالحديد، لكنها أكثر انفتاحاً على السماء من عواصم كثيرة.
مدينةٌ جائعة، لكنها تُطعم العالم معنى الكرامة.
مدينةٌ مدمَّرة، لكنها ما زالت تبني أبناءها من تحت الركام.
في غزّة يُولد الأطفال وهم يحملون ذاكرة القصف قبل أن يتعلّموا النطق.
تغنّي الأمهات على ضوء القمر، لا انتظاراً للكهرباء، بل انتظاراً للحياة نفسها.
وحين ينام الصغار، ينام الخوف معهم، كجارٍ ثقيلٍ لا يغادر.
أيُّ عهدٍ يمكن أن يُعقد مع مَن يرى في دمك مبرّراً دائماً؟
وأيُّ ميثاقٍ يُجدي مع مَن يعتبر القتل سياسةً، والحصارَ حقّاً مشروعاً؟
لقد فهمت غزّة المعادلة باكراً: أنّ قوّتها ليست في سلاحها فقط، بل في إيمانها العميق بأنّها آخر ما تبقّى من معنى الصمود العربي.
إنّ ما يجري في غزّة اليوم ليس مجرّد صراعٍ سياسيٍّ أو نزاعٍ حدوديّ،
بل امتحانٌ أخلاقيٌّ للعالم بأسره، واختبارٌ جديدٌ لمدى ما تبقّى فينا من إنسانيّة.
العالم الذي يراقب ولا يتحرّك،
والأمّة التي تبكي ولا تنهض، كلاهما شريكان في هذا الخراب الممتدّ من البحر إلى الضمير.
ومع ذلك، تبقى غزّة درساً لا ينتهي.
في كلّ مرّةٍ يظنّونها انتهت، تنهض من رمادها.
وفي كلّ مرّةٍ يراهنون على انكسارها، تردّ عليهم بابتسامةِ طفلٍ خرج من بين الركام حيّاً.
غزّة لا تنتظر الشفقة، ولا تطلب العزاء.
إنّها فقط تريد أن يُفهم وجعها كما هو: وجعُ أمّةٍ خانها الأقرب قبل أن يحاصرها الأبعد.
وكلّما عاهدوا عهداً نبذه فريقٌ منهم...
لكنّ غزّة، على جراحها، لا تنبذ الحياة، ولا تنسى العهد مع الله بأن تبقى ما بقيت كرامةُ الإنسان على هذه الأرض.
محمود كلّم، كاتبٌ وباحثٌ فلسطينيّ، يكتب في الشأنين السياسيّ والوجدانيّ، ويُعنى بقضايا الانتماء والهويّة الفلسطينيّة. يرى في الكلمة امتداداً للصوت الحرّ، وفي المقال ساحةً من ساحات النضال.
#محمود_كلّم (هاشتاغ)
Mahmoud_Kallam#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟